علي الغنبوري، رئيس المركز الاستشرافي والاقتصادي، يقدم قراءة في خمسين سنة من البناء التنموي .. المغرب يرسم ملامح العدالة المجالية من رمال الصحراء

بعد مرور نصف قرن على المسيرة الخضراء، لم تعد الصحراء المغربية مجرد رمز للوحدة الترابية، بل تحولت إلى فضاء حي للتنمية والنماء، وإلى نموذج واقعي للعدالة المجالية في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
خمسون سنة من العمل المتواصل حولت الأقاليم الجنوبية إلى أقطاب استثمارية واعدة، ومجالات جهوية متكاملة تجسد الرؤية الملكية لربط التنمية بالسيادة.
في هذا الحوار، يقدم علي الغنبوري، رئيس المركز الاستشرافي والاقتصادي، قراءة تحليلية لمسار التحول العميق الذي عرفته الصحراء المغربية، من البناء المؤسساتي إلى الإقلاع الاقتصادي، مرورا بالنموذج التنموي الجديد، وما أفرزه من نتائج ملموسة غيرت الصورة النمطية لدى الرأي العام الدولي، ورسخت مشروعية السيادة المغربية.

 

 

– بعد مرور خمسين سنة على المسيرة الخضراء، ما هي المنجزات الكبرى التي حققها المغرب في أقاليمه الجنوبية، وما طبيعة التحولات الاقتصادية المسجلة هناك؟
– بعد مرور خمسين سنة على المسيرة الخضراء، تمكن المغرب من تحقيق منجزات كبرى في أقاليمه الجنوبية، جعل منها خيارا استراتيجيا يعكس إيمانه العميق بعدالة قضيته ووحدته الترابية. وقد انطلقت مقاربة الدولة للتنمية في هذه الأقاليم عبر ثلاث مراحل متكاملة.
المرحلة الأولى ركزت على التأهيل والبناء المؤسساتي من خلال تشييد الطرق والموانئ والمستشفيات والمدارس، مثل ربط العيون والداخلة والسمارة وبوجدور وباقي مدن الصحراء بشبكة طرقية تجاوزت أربعة آلاف كيلومتر بعدما لم تكن تتجاوز سبعين كيلومترا سنة 1975، وإنشاء ميناء الداخلة الأطلسي وتطوير ميناء العيون لاستقبال أكثر من خمسة ملايين طن من السلع سنويا، إضافة إلى المستشفى الجامعي بالعيون والمؤسسات الترابية والإدارية لضمان اندماج الأقاليم في المنظومة الوطنية.
أما المرحلة الثانية، ومع بداية عهد الملك محمد السادس، فقد تميزت بإدماج الأقاليم الجنوبية في الاستراتيجيات الوطنية الكبرى، كمخطط المغرب الأخضر، ومخطط أليوتيس، والبرنامج الوطني للطاقات المتجددة، مثل محطة فم الواد للطاقة الريحية، مع تطوير السياحة ومشاريع التكوين والتعليم العالي، مما جعل هذه الأقاليم وجهة استثمارية واعدة وفضاء للاندماج الاقتصادي الجهوي.
المرحلة الثالثة شهدت الإقلاع التنموي الشامل مع اعتماد النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية بغلاف مالي يفوق 89 مليار درهم، يهدف إلى تحقيق تنمية مندمجة ومستدامة تقوم على العدالة المجالية والابتكار الاقتصادي. وقد شملت المشاريع الكبرى الطريق السريع تزنيت–الداخلة، ومحطات تحلية مياه البحر، ومشاريع الطاقات المتجددة، ودعم المقاولات المحلية والمبادرات الشبابية. وأسفرت هذه الجهود عن مضاعفة الناتج المحلي للأقاليم الجنوبية أكثر من عشر مرات منذ 1975، بمعدل نمو سنوي يقارب 8 في المئة، وانخفاض معدل البطالة إلى أقل من المعدل الوطني، فضلا عن تسجيل أعلى نسب المشاركة السياسية وطنيا. كل ذلك جعل من الصحراء المغربية اليوم نموذجا للتنمية المندمجة والمستدامة والانفتاح الاقتصادي على إفريقيا.
– إلى أي حد يمكن للجهد الاستثماري المبذول من طرف الدولة المغربية في الأقاليم الصحراوية أن يفتح شهية المستثمرين الأوروبيين وغيرهم، خاصة الدول التي شكرها الملك في خطابه الأخير؟
– الجهد الاستثماري الضخم الذي بذلته الدولة المغربية في الأقاليم الصحراوية يشكل محفزا قويا لجذب المستثمرين الأوروبيين والدوليين. فالبنية التحتية الكبرى التي تم إنجازها، مثل الطريق السريع تزنيت–الداخلة، والموانئ المتعددة الأنشطة، ومحطات تحلية المياه، ومشاريع الطاقات المتجددة، توفر أرضية صلبة للاستثمار، لأنها تقلل المخاطر التشغيلية وتضمن استدامة الخدمات الأساسية، مما يجعل من الصحراء المغربية فضاء جاذبا للمشاريع الصناعية والخدمية والسياحية.
إلى جانب ذلك، يوفر النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية ضمانات مؤسساتية واستقرارا تشريعيا، وهو ما يمنح ثقة أكبر للمستثمرين. كما أن الدعم الحكومي للمبادرات المحلية، وبرامج تمويل الشباب، والتحفيزات الموجهة للمقاولات، تشكل عناصر مشجعة للاستثمار الدولي.
أما الدول التي شكرها الملك في خطابه الأخير، مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فذلك التقدير الرسمي يشكل إشارة قوية لقطاعها الخاص بأن المغرب يفتح أبواب الصحراء أمام الاستثمارات بشكل جاد ومنظم، في إطار تعاون دبلوماسي واقتصادي متين. وهو ما يعزز الثقة ويفتح الباب أمام شراكات طويلة الأمد في قطاعات الطاقة، والسياحة، والصيد البحري، واللوجستيك.
– ما هي الحجج التي يعتمدها المغرب، خصوصا في تعامله مع الاتحاد الأوروبي، لإبراز مشروعية شراكاته الاقتصادية والتنموية في الأقاليم الجنوبية؟
– المغرب يعتمد حججا قانونية وسياسية وتنموية قوية. فهو يؤكد أن الأقاليم الجنوبية جزء لا يتجزأ من ترابه الوطني، وأن أي شراكة اقتصادية أو استثمار فيها يتم في إطار سيادته الكاملة ووحدته الترابية. كما يربط المغرب هذه المشاريع بخارطة الطريق الوطنية للتنمية المستدامة والعدالة المجالية، ما يمنحها مشروعية قانونية ومصداقية دولية.
من جهة أخرى، تبرز المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية أثر هذه المشاريع على حياة الساكنة، إذ ارتفعت مؤشرات التنمية البشرية في جهتي العيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب إلى مستويات تفوق المتوسط الوطني، وانخفضت البطالة إلى أقل من المعدل العام، ما يبرر قانونيا وتنمويا هذه الشراكات أمام الاتحاد الأوروبي.
كما جعل المغرب من هذه الأقاليم فضاء استثماريا واعدا بموقع استراتيجي على الساحل الأطلسي، مما يتيح للمستثمرين الأوروبيين فرصا حقيقية للانفتاح على السوق الإفريقية، في إطار تعاون متوازن ومربح للطرفين.
– كيف يمكن تقييم أثر النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية على مستوى العدالة المجالية وتمكين الساكنة المحلية من الموارد والفرص؟
-n يمكن تقييم هذا الأثر من خلال ثلاث مستويات. أولا، توزيع البنيات التحتية والخدمات الأساسية بشكل متوازن بين المدن والمناطق النائية، مما مكن السكان من الوصول إلى الماء والكهرباء والنقل والتعليم، وساهم في الحد من الفوارق المجالية.
ثانيا، دعم المقاولات المحلية والمبادرات الشبابية والتكوين المهني مكن الساكنة من المشاركة الفعلية في الدورة الاقتصادية، مما ساهم في الإدماج الاجتماعي والاقتصادي وخفض البطالة.
ثالثا، النتائج الرقمية تؤكد ذلك، فقد تضاعف الناتج المحلي للأقاليم الجنوبية أكثر من عشر مرات، وارتفعت مؤشرات التنمية البشرية إلى معدلات هي الأعلى وطنيا، كما سجلت الجهات الصحراوية أعلى نسب المشاركة السياسية، ما يعكس ثقة الساكنة في المؤسسات، ويجعل النموذج التنموي أداة حقيقية لتحقيق العدالة المجالية وتمكين السكان من الموارد والفرص.
– إلى أي مدى ساهمت المشاريع المهيكلة كطريق تزنيت–الداخلة والميناء الأطلسي في تغيير الصورة النمطية عن الصحراء المغربية داخل الرأي العام الدولي؟
– هذه المشاريع غيرت جذريا الصورة النمطية عن الصحراء المغربية. فبعدما كانت تصور كمنطقة نائية، أصبحت اليوم محورا اقتصاديا نشطا، بفضل مشاريع كبرى جعلت منها بوابة المغرب نحو إفريقيا. الطريق السريع تزنيت–الداخلة والميناء الأطلسي بالداخلة أبرز دليل على هذا التحول، إذ يعكسان إرادة الدولة في ربط الصحراء بباقي جهات المملكة والأسواق الإفريقية.
هذه الدينامية جعلت الإعلام الدولي والمستثمرين يغيرون نظرتهم، فالصحراء المغربية لم تعد فضاء نزاع، بل منطقة استقرار وتنمية مستدامة، تقدم مؤشرات واقعية على فعالية النموذج المغربي في التنمية المتوازنة والمندمجة.
– كيف يتقاطع البعد الاقتصادي مع البعد السياسي في تعزيز الموقف المغربي إزاء الأطروحات الانفصالية؟
– التنمية الاقتصادية في الأقاليم الجنوبية تشكل في جوهرها بعدا سياسيا يعزز السيادة الوطنية. فالمشاريع الكبرى التي أنجزها المغرب هناك تمثل دليلا ماديا على الحضور الفعلي للدولة، وتضع الأطروحات الانفصالية أمام واقع ميداني واضح.
كما أن تمكين الساكنة من الموارد وفرص الشغل جعلهم شركاء في المشروع الوطني، مما يقوي الانتماء ويضعف أي نزعات انفصالية. من جهة أخرى، فتح آفاق الشراكة الاقتصادية مع دول إفريقية وأوروبية يجعل من الأقاليم الجنوبية منصة للتعاون الدولي، وهو ما يعزز الموقف المغربي على الصعيد الدبلوماسي ويكرس الاعتراف بسيادته على الصحراء.
– هل يمكن اعتبار التنمية في الصحراء نموذجا جديدا للحكامة الترابية يمكن تعميمه على باقي الجهات المغربية؟
– بطبيعة الحال يمكن اعتبار التنمية في الصحراء المغربية نموذجا جديدا للحكامة الترابية، إذ تجمع بين البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بطريقة متكاملة تهدف إلى تحقيق التنمية المندمجة والمستدامة، من خلال تقوية البنية التحتية الكبرى، مثل الطرق السريعة والموانئ ومحطات تحلية المياه، وتعزيز العدالة المجالية، تمكين السكان المحليين من الموارد والفرص الاقتصادية، وتجسيد الرؤية الملكية للنموذج التنموي الجديد، حيث أصبح هذا النموذج مثالا حيا لكيفية إدارة الموارد وتخطيط المشاريع بطريقة شاملة تربط بين التنمية والاستقرار السياسي.
كما يبرز هذا النموذج أهمية إشراك مختلف الفاعلين المحليين والدوليين في عملية التنمية، من جماعات محلية ومجتمع مدني إلى مستثمرين وقطاع خاص، ما يعزز المشاركة المجتمعية ويخلق دينامية اقتصادية مستدامة، فتجربة التنمية داخل الصحراء المغربية تظهر كيف يمكن للحكامة الترابية أن ترتكز على التشاركية، الشفافية، والمراقبة الفعالة للمشاريع، مع توفير برامج دعم للشباب والمقاولات المحلية لضمان استفادة الجميع من التنمية.
إضافة إلى ذلك، النتائج الملموسة، مثل ارتفاع الناتج المحلي، انخفاض البطالة، وتحسن مؤشرات التنمية البشرية، تجعل هذه التجربة قابلة للتعميم على باقي جهات المغرب، خاصة المناطق التي تعاني من تفاوت التنمية، واعتماد نفس المنهجية في التخطيط، التمويل، والمتابعة يمكن أن يحقق تنمية أكثر عدالة واستدامة على المستوى الوطني، ويجعل من النموذج الصحراوي المغربي مرجعية للحكامة الترابية الحديثة في كافة مناطق البلاد.


الكاتب : أجرى الحوار : جلال كندالي

  

بتاريخ : 06/11/2025