عمل فني بيدين: الصباغة والصياغة

إننا أمام اختيار صياغي وصباغي عماده المشترك الإنساني والثقافي الضارب في القدم وعراقة التاريخ الذي يتقاسمه المغرب ومصر.. بل الشرق والغرب

إظهار اللامرئي:

ليست غاية الفنان التشكيلي أن يعيد صياغة وصناعة وتقليد الواقع، بل إنه ما أن يقترب منه حتى يعيد تركيبه بطريقته الخاصة، بلمسته البديعة والرفيعة لهذا كتب أحدهم «لا تسعى اللوحات إلى تقليد المجوهرات، فهي لن تُظهر بريقها»، لكن هذا لا يمنعها أن تضع الحلي في حلة مغايرة لتبرز بريقها الخفي، إن صح تعبيرنا، من حيث إن الفن الصباغي لا يسعى إلى إظهار الظاهر بل تصوير اللامرئي والمنفلت والهارب من العين.
لنا في تاريخ الفن الغربي منذ العصر الكلاسيكي، تجارب عديدة تناولت هذه التوأمة البهيجة بين فن صناعة الحلي وفن الرسم والصباغة، لكن ظل الأمر مغيبا، أو شبه مغيب عربيا.. لتبرز مؤخرا تجربة استثنائية، توأمة مغربية -مصرية، تجمع بين أنامل وريشة الفنان التشكيلي المغربي عبد الإله الشاهدي وأصابع وتصاميم الصائغ والمصمم المصري حسن عليش.

جذور مشتركة منذ فجر التاريخ:

تعيدنا هذه التجربة المشتركة للحديث عن العلاقات التي جمعت بين البلدين العريقين، القابعين على ضفاف الأبيض المتوسط، يتشاركان تاريخه ومياهه وسماءه، كما يتقاسمان الجذور ذاتها.. روابط لا يمكن الفصل بين بعضها البعض، لكونها متجذرة في روح وجسد سكان هذين الجغرافيتين العربيتين. لهذا لا يسعنا إلا الحديث عن هذه العلاقة المتينة والصلبة، قبل الشروع في تحليل وتفكيك العمل الفني الذي نحن بصدده، في نصنا هذا. إذ تعود جذور العلاقات بين المغرب ومصر إلى فجر التاريخ، منذ ارتحال الإنسان الأول مشيا على أراضي شمال إفريقيا، عابرا من المغرب إلى مصر ومنها إلى باقي بقاع العالم، حاملا معه علامته الأولى ورسوماته التي لا يفتأ يتركها أينما حل وارتحل. وتشير مجموعة من النصوص الهيروغليفية (الكتابة المرسومة، نحن دائما إزاء الرسم إذن !) إلى الرابط الذي جمع أهل مصر بسكان غرب البلاد.. هؤلاء الأمازيغ الذين جاوروهم غربا.
دونما أن ننسى الدعم الذي قدمته مصر للزعماء مغاربة، أهمهم المقاوم المجاهد عبد الكريم الخطابي، واحتضانها له وطنا ثانيا لا منفى، في القرن الماضي.. لهذا فالمنجز الذي بين أعيننا المشترك بصريا بين الفنان الشاهدي والصائغ عليش، يجد لنفسه جذورا ضاربة في قدم التاريخ وعراقته، تجمع بين بلديْهما. بل إن حسن عليش يخبرنا بأن له جذورا مغربية، جذر مشترك بين هنا وهناك، كان قد استوطن مدينة فاس العريقة ذات زمن بعيد. كأن التاريخ يمحو كل إمكانيات الصدفة، ليحل الحتمية التي تولدت عنها اللوحة.
لقد تقاسم أهل المغرب والفراعنة في فترة معينة الدين عينه والآلهة نفسها، قبل أن ينتشر الإسلام في المغرب العربي الكبير قادما من «أرض الكنانة».. بل إن دولا حكمت المغرب ومصر مثل الفاطميين وغيرهم في أزمنة متقاربة، (ويا لها من صدفة أن يكون حسن عليش، قد انحدر من منطقة «الجمالية» التي تعتبر درة القاهرة الفاطمية! والتي نشأ فيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخرج من دروبها الكاتب الروائي العالمي نجيب محفوظ).. لهذا حينما نتحدث عن العلاقات الثقافية بين البلدين فنحن نتحدث –بالتالي- عن جذر مشترك لا يمكن انتزاعه.. ومن هذه النقطة بالتحديد يستمد العمل الفني، اللوحة الصباغية التي أنجزها الشاهدي، قوته وأصالته.. إلى جانب كونه منجزا استثنائيا عربيا.

الخروج من السديم:

ما أن تلج محل الحلي والمجوهرات الثمينة Blancairo بالدار البيضاء، حتى تلتقي عينك بالعمل الفني الصباغي الذي يجمع بين تجربتيْن تبدوان ظاهريا منفصلتيْن، لكنهما مترابطتان جماليا وجوهريا. تجربة فنية صباغية وتجربة فنية قادمة من عالم صياغة وتصميم الحليّ (صباغة وصياغة، كأن اللغة عينها لا تحيد عن حتمية العمل).. لوحة تبرز للناظر فتاة بلباس عربي –مصري- ترتدي طقما من الأحجار الكريمة والألماس والذهب، تمتزج والخلفية السديمية التي تحيط بها، كأنها خرجت لتوها من رحمها..
يحتل السديم المكانة الأبرز في كوننا، منه تخرج الكواكب والنجوم خاصة إلى الحياة، هذه الأجرام المنيرة التي تعد مصدرا لكل ما يلمع وله بريق في المجرات وأرضنا.. لهذا لم يكن من باب الصدفة أن يجمع العمل الفني بين السديم المشكل لخلفية اللوحة وبريق ولمعان الطقم الذي صممه المبدع حسن عليش. استطاع الفنان التشكيلي عبد الإله الشاهدي عبر مشهدية صباغية تتخذ لنفسها إطارا تقريبيا نصفيا، أن يعلي من قيمة الأنثى باعتبارها وليدة السديم الذي تكاد تنبثق منه، ومن طقم الحلي مبرزا أبعاده الجمالية وحتى مضامينه التاريخية والفلسفية التي يمكن أن نوجزها في الدائرة و»الخميسة» (اليد) اللتان تتوسطان القلادة.

الدائرة أنثى:

تعد الدائرة –هذا الشكل الهندسي المدهش- في كل الثقافات والحضارات الإنسانية رمزاً للكمال، وتمثل الوحدة الإلهية لكل شيء في الكون، بالنسبة للمتصوفة. وتأتي الدائرة باعتبارها النموذج الأصلي للحركة والاستدامة التي لا نهاية ولا بداية لها. فاعتبرت رمزاً لإيقاع الحياة ودورتها وتناغمها، حيث تصبح نهاية مرحلة بداية لمرحلة أخرى. بل إن مركزها –النقطة- عين الحقيقة، عند الحلاج.. وتأتي الدائرة تتوسط الطقم الذي ترتديه الفتاة، في تكامل مع الرمزية الأنثوية التي تحملها الدائرة عينها… في الوقت الذي يعد فيه هذا الشكل الهندسي الملتبس رمزا للكمال في المجوهرات. ولأن كل شيء في الكون من الذرات إلى أكبر الأجرام والمجرات، يدور ويحوم ويتحرك في شكل دائري، كان ولا بد أن يهتم كل الفنانين، في مختلف الميادين بما فيها فن صياغة الحلي والفن الصباغي، بالدائرة مقياسا ورمزا وموضوعا. ولم يغب الشكل الدائري أبداً عن تصاميم المجوهرات، واليوم يحضر بشكل أكبر من خلال الأقراط الحلقية الكبيرة والقلادات التي تحمل دائرة واحدة أو اثنتين وأحياناً سلسلة من الدوائر تستقر في أسفل العنق أو يتكون منها عقد طويل. إنها تعاويذ جالبة للحظ ترمز إلى الحكمة والكمال والتمسك بالمبادئ الأساسية، إنها سماء الواسعة، لا حدود لها ولا زوايا. لهذا –في نظرنا- قد أحسن الفنان حسن عليش اختيار الدائرة، كما أبدع الفنان عبد الإله الشاهدي إعادة تشكيلها، مدركين قوتها إذ على مستوى اللاوعي في علم النفس البشري تعتبر الدائرة من الأشكال الأكثر جلباً للراحة لأنها بكل بساطة خالية من الزواية الحادة فهي متواصلة ومتدفقة.

اليد التي ترى:

بينما تحتل الدائرة مركز النظر ومركز الثقل في الطقم والعمل على حد سواء، تتخذ «الخميسة» –يد فاطمة- مساحة مهمة وشكلا بارزا وهي تتدلى كعنقود عنب من دالية/الطقم. لهذه «اليد» قوة سحرية وساحرية، بالإضافة إلى فنيتها، إذ ظلت تعتبر جالب حظ وتعويذة لدرء الحسد والسحر. تعوذ جذورها إلى آلاف السنوات في الثقافة المشرقية والمغاربية… لهذا نعتبرها هنا رابطا ثقافيا وفنيا مشتركا بين الثقافتين المغربية والمصرية… وتجدر الإشارة في هذا المقام، إلى ذكر كون الفنان الشاهادي قد اهتم في آخر أعماله الصباغية، ذات التوجه السريالي، باليد رمزا وموضوعا، ناقلا إياه من كونه مطوِّعاً -بكسر الواو- للمادة إلى كونه مُطوَّعاً –بفتح الواو.
اهتمام عليش إذن بالخميسة هو اهتمام منبعه المعرفة الرصينة بالتراث العريق المشترك بين البلدين، جاعلا منها في القلادة تتدلى كأنها تتدفق وتفيض من الدائرة، أو العنق في حالة اللوحة. وكما أن الدائرة متكاملة، فـ»يد فاطمة» في صياغتها وصناعتها وصباغتها، تعتمد على التكامل عبر التناظر والخروج عن الدقة الفسيولوجية.
هذا وقد تم تفسير مجموعة متنوعة من أسماء التميمة من خلال العديد من الأساطير. أحدهم يشرح أصل اسم «يد فاطمة». فاطمة هي ابنة النبي محمد. ذات مرة ، عندما أحضر زوجها علي بن أبو طالب زوجة ثانية أصغر منه إلى المنزل، أسقطت فاطمة ملعقة من صدمة حزينة، وبدأت الحلاوة الطحينية التي كانت تطبخها لوالدها تقلب بيدها. كما أن هذه التميمة هي تجسيد لقوة الإرادة، وضبط النفس، والتحمل والعديد من الخصائص الروحية العالية، لكونها يد ترى، تتوسطها العين، والفن رؤية قبل أن يكون شكلا وألوانا وأفكارا. وأيضا إحالة على مد اليد والتصافح، ومنه الصفح والسلام.
إننا بالتالي أمام اختيار صياغي وصباغي عماده المشترك الإنساني والثقافي الضارب في القدم وعراقة التاريخ الذي يتقاسمه المغرب ومصر.. بل الشرق والغرب. وقد استطاع أن يجسد ذك حسن عليش عبر ذلك الطقم المجوهراتي المدهش، بينما رفعه عبد الإله الشاهدي إلى مستوى الكمال الأنثوي النابع من السديم، أو الكوسموس، الذي يعد عند الإغريق مرادفا التناغم والكمال، هذا المفهوم الأخير الذي يعيدنا إلى الأنثى والدائرة.. وكلها مفاهيم تتكامل إذن داخل هذا العمل الفني.

* (شاعر وباحث جمالي)


الكاتب : عزالدين بوركة 

  

بتاريخ : 06/09/2021