زمن التجلي و الواقع كما هو أم زمن حصار أرغمني على الهروب إلى عالم الخيال والمقارنة بين زمنين رغم بعد المسافة ؟
سأتجرأ و أعبر بما يفيد أنني في عمق (فلسفة الملابس)… زمن أصرت فيه الجائحة على أن أرتدي ثيابي القديمة .
يا حضرة الوافدة الجديدة بضيافتك أسائلك لماذا أكتب متأخرة؟
لا اتردد في التعقيب عنك بما يفيد أنك أيقظتهمتي لكي أضع في المتناول أمانة كلفني التاريخ بنقلها انسجاما و نظرية ” دانتي ” القائلة ( المعرفة مكونة مما سمعه الإنسان ) هي معرفة أحضر فيها أنا كذات … نحن والآخر… و قبل صلاة الغائب .
بعد أن استقرت الرسالة في أيادي ما تبقى من أسرتها تراجع إخوتها فتحركت الأوصال، لم تمض سوى بعض الأيام حتى كانت مفاجأة لم تخطر على بال اخترقت جدران حي النساء، بصوت جوهري (ما تسمعوا إلا خبر الخير …خيرة عندها زيارة من طرف أسرتها) علمت بالصيحة حتى الجرذان اختبأت في مجاريها وحفرها لكي تفسح مجال الصدح بالتعبير المسكوك في الأفراح (الصلاة و السلام على رسول لله… إلى جاه إلا جاه إلى جاه سينا محمد لله مع الجاه العالي)… كان يوما استثنائيا بكل المقاييس كسر رتابة الوقت كما توزع حصصه على الدخول والخروج والاستراحة و الوقوف في طابور تناول ما يشبه الأكل أو قطعة صابون أو بنت بحر معلبة بالغش انتهت صلاحيتها (روطا) يسوقونها سردينا معلبا… كل من تجيد رفع عقيرة الزغرودة تفضلت. لم يخطر على بالي أن من بين العابرات (بنات العلوة) الشيخة والراقصة والمغنية، ولأول مرة تكسر القاعدة المختزلة في مثل شعبي عند وصف البخيل والبخل (الصدقة لا تخرج من الحبس) نعم خرجت الصدقة من الحبس ممثلة في ما يشبه الحلويات وزعت على البئيسات المارات من درب الازدراء، جادت به من تشترك مع خيرة الاستثمار… مرة أخرى ألفت انتباهكم السجن دولة بمبادلات ومصالح وأدوار، والأساسي في مثل هذه العلاقة هو المقايضات …من المفروض أن تلتقي خيرة مع أسرتها وكما العادة في قفص مسيج يفصل بين الزوار والسجينات ممر للمراقبة… لأول مرة ومع خيرة تستثنى القاعدة ويفسح المجال لبعض الساكنات معها والمدد الطويل – هن نساء عائلتها بطبيعة الحال – ويتم العناق وذرف الدموع خارج السياج , كاتبة الرسالة التي تفوقت في نقل تعبير ينزف دموعا لكن صعب عليها ترجمة مشاعر خيرة. بدا لي أنني كتبت جزء من سيناريو دراما حية حضرت تجسيدها على خشبة مسرح حي في السجن خاضعة لشح زمن الزيارة ومراقبة الحديث… صدقوني حينما كنت أكتب حاولت أن أنتزع ما يثبت أن خيرة ذات عاطفة جياشة ولو بذكر حدث أو عناق أو مناسبة مضت تذكر الأبناء والأهل والخلان لكن استحال علي الأمر، ظلت شجرة حب الملوك ساكنة لم تحركها ريح عاطفة أو حب وكأن الأمر لا يعنيها . من بين الزوار الأسرة سيدة عجوز والثانية شابة تحتضن رضيعة ويمسك بجلبابها طفلين… خيرة استفسرت الشابة هل انت ابنتي كبدي التي انتزعت مني في شهرها الثامن؟… وكأن قوة مغناطيسية فعلت فعلتها الفيزيائية فالتحم الجسدين ذرفت دموع حتى السجانات وطأطأ الحراس رؤوسهم كإشارة لاإرادية حركت عندهم مشاعر إنسانية ربما يؤجلونها عند ولوج مقر عمل صيغ على مقاس بالزجريتم تقويم الجسد .
حل عيد الأضحى …لم أستطع تمثل ما يشبه الفكر والعادات لسيدة اسمها خيرة تعرف في الوجود توزيع الأشغال على السجينات , سقف وعيها محدود في أبواب فولاذية ومزاليج بمفاتيح استحال علي وصفها متى استحضرتها رغم أن بعض المشاهد الدرامية لشريط سينمائي أساسا تركز على ما يصدر عنها من دوي ترتعد له الأوصال… تحرك ترسل إشارة قوية سريعة للتعيسات بالوقوف في طابور الإحصاء كل صباح واستعدادا لصد الأبواب في المساء …
خيرة بدولاب من القش وحقيبة ماكياج مرقعة تتباهى بصابون معطرة وكحل ومشط فسواك…حل عيد الأضحى ارتدت فستانا جديدا أكيد من الملاح أو باب فتوح أو القصابين يدللهم الفراشا لا غير وبأبخس الأثمان فالمهم أنه جديد احتفاء بالعيد … جرت العادة أن تشتريه لها عرابتها السجانة في كل عيد وطبعا يدخل في إطار المقايضة بين الطرفين والأمر ينسحب على كافة الحارسات في تعاملهن مع من هن تحت إمرتهن من (الكابرانات) مرة أخرى ألفت انتباهكم : السجن دولة بمؤسسات وتعامل تجاري يغطي مطالب الحارسات الأسرية من تغذية و اقتناص ملابس رفيعة موقعة من أغلى دور الأزياء ترتديها بعض المضبوطات في مواخر الدعارة الراقية …
ما زالت طقوس استقبال خيرة لعيد الأضحى تنفرد في ذاكرتي بحيز أستحضره متى حلت المناسبة… بعد أن نودي على التعيسات بمتابعة رمزية الذبيحة (كبشان كبيران سرديان) يحملان توقيع المرقد تربية مزارع ومرعى معين مشهور بجودة لحومها مثلهما نشاهد نحرهما يوم العيد في التلفاز … بسرعة البرق حمل سجينين الكبشين المنحورين لا تدري البئيسات إلى أين ؟ لا سقيطة ولا رائحة شواء من نصيبهن دم يتنافسن على تلطيخ جباههن ويسترجعن طقوس تنظيف المكان.
بعد فترة كانت كافية لسلخ وتنظيف (السقيطتين)… نودي على خيرة اعتلت درج باب الولوج إلى الساحة بحضور زميلاتها كل السجينات بما فيهن العجائز بحضور بعض الحراس بما فيهم المكلفون بالطواف من السطح يتابعون…سلمت لها قطعة في حجم كف اليد نيئة التهمتها أمام الأنظار… طرحت على السماء وشجرة الزيتون والقصب العشوائي وركام الخبز اليابس موطن الجرذان… ترى ما هو الخطب أن تقدم سيدة ما زالت تقاسيم الجمال تؤشر على أنها سكنت هذه الذات… أي ردود أفعال هذه دفعت خيرة لكي تلتهم قطعة كبد نيئ؟…التمست الجواب من حقيقة ترويها المنسيات والسجانات…جرت العادة كل عيد أضحى يكون نصيبها كذلك لكن شريطة أن يتمتع الساديون والساديات حراس المكان بمشهد يستعير فيه إنسان شراسة حيوان… عز علي أن تنجب الإنسانية كائنات موهوبة للقسوة والجفاء… لو غير الاتجاه صوب ما يتطلبه الفعل الإنساني القويم كما تقره الأرض والسماء وبخطوات إنسانية تحتضن السيدة بنت المكان مادامت المسافة الزمنية التي قضتها بين ظهران الخيمات الإسمنتية تتجاوز عمرها حيث قادها قدر عنيد لحياة موشومة بعنف تقاليد وباسم الدين فرماها في حضن بعل لم تختره وكانت تخريجة الخلاص بمعية العاشقة له أكتفي بهذا فالملابسات واضحة للعيان وهذه قصة خيرة وتمزيق المؤنث جدير أن تشنف سماع الناشطات الحقوقيات المتشبعات بالدفاع عن القضية فإجحاف النساء له عنوان .
خيرة لها منبت إنساني اقتربت مني كثيرا ذات يوم وكأنها تود أن تقدم لي الشكر على هذا الصنيع خاطبتني: أنت أستاذة لكن لماذا لم تواصلين دراستك حتى تصيرين حارسة يعني سجانة ؟؟ … إلى حدود ما حصل أنا غير مؤهلة لكي أجيب على هذا السؤال المفتوح القادم من وعي اللا شيء… ما زلت أنتظر علماء النفس والاجتماع وأنتروبولوجيا الإنسان يعمقون في البحث و التقصي حتى الوصول إلى معرفة من هو الإنسان؟