سلّط التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات، الضوء على عدد من الاختلالات التي تخبّطت فيها جملة من المؤسسات الصحية العمومية، من خلال خلاصات له عمل على نشرها، والتي لم تكن مفاجئة في شقّ كبير منها، سواء بالنسبة للمهنيين أو للمهتمين بالشأن الصحي، بالنظر إلى أن العديد من الأعطاب شكلت محور انتقادات لمهنيي الصحة العمومية، وموضوع مواد صحافية وتقارير إعلامية، وهو ما يجعل من أعطاب الصحة العمومية، أزمة مركّبة، تتطلب تأملا رصينا من أجل تفكيك إيجابي بهدف تجاوز العثرات التي قد تسجّل هنا أو هناك.
سؤال الحكامة والتدبير
«عثرات» متعددة، أرخت بظلالها على التقرير الذي يخصّ جملة من المرافق الصحية العمومية، وضمنها المركز الاستشفائي الإقليمي للجديدة، الذي أكد بشأنه في الشق المتعلق بالحكامة وهيئات التدبير غياب مشروع المؤسسة الاستشفائية، الذي من المفروض أن يحدد الأهداف العامة للمؤسسة في المجال الطبي والعلاجات التمريضية والتكوين وتدبير نظام المعلومات خلال مدة زمنية محددة، وتأكد تدبير المركز في غياب التوجهات الاستراتيجية والمؤشرات المرجعية المتعلقة بالعرض الطبي وتدبير الموارد خلال الفترة مابين 2008 و 2012، فضلا عن عدم توفر هذا المركز الاستشفائي على «ميزانية البرنامج» وهو ما يعني غياب رؤية واضحة خلال تلك المدة.
طول آجال المواعيد شكلت هي الأخرى ملاحظة ضمن مجموع ملاحظات تقرير المجلس الأعلى للحسابات، التي وصلت في 2015 بالنسبة لبعض التخصصات إلى 7 أشهر والنصف، نتيجة للعدد المحدود للموارد البشرية في تلك التخصصات، فضلا عن ضعف استغلال الفترات الزمنية اليومية المتاحة بالمؤسسة من أجل برمجة فحوصات متخصصة لأكثر من مرة في الأسبوع، هذا في الوقت الذي استفاد فيه أشخاص آخرون من الفحوصات المتخصصة دون الحصول على مواعيد عبر تطبيق «موعدي»’ إذ وردت معلوماتهم في سجلات الفحوصات المتخصصة، وهو ما يعني حرمان المستشفى من مجموعة من المداخيل المادية، وينضاف إلى ما سبق التدبير الخاص لمصلحة التحاليل البيولوجية والاختبارات الإشعاعية للمواعيد بكيفية خاصة بعيدا عن مصلحة الاستقبال والفوترة المعنية بتحديد مواعيد الفحوصات وغيرها، وتبيّن على أن هناك ضعفا في التنسيق بين هذه المصلحة الأخيرة وباقي الوحدات الاستشفائية في ضبط معلومات المرضى وتأكيد ولوجهم للمستشفى ومغادرته من اجل تدبير أنجع للأسرّة، وهو الأمر الذي انتفى؟ ووقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات كذلك عند تشغيل جميع الأسرّة الاستشفائية بعدد من الأجنحة الخاصة بتدخلات جراحية معينة، كجناح الجراحة الباطنية، جناح الولادة، المستشفى النهاري وغيرها، في حين تفتقد عدد من المصالح والأقسام للشروط المتعارف عليها، كما هو الحال بالنسبة لمستعجلات مستشفى «أزمور»، وكذلك الأمر بالنسبة لظروف إيواء مرضى مستشفى «العياشي».
صحة نفسية معطوبة
تعتبر الصحة النفسية والعقلية بالمستشفى الإقليمي للجديدة احد العناوين القاتمة في تقرير المجلس الأعلى للحسابات، الذي أكد على عدم ملائمة ظروف الاستشفاء بمصلحة الأمراض النفسية، بفعل الاكتظاظ ورداءة غرف الإيواء وتلك التي تخص عزل المرضى العنيفين، وتفاقمت حدة الوضع بعد استقبال المرضى المرحلين من «بويا عمر». وأشار التقرير إلى أنه تم وضع مرضى في غرف تتكون من 11 سريرا دون اعتماد طبيعة المرض، وبالتالي جاور المريض «البسيط» الآخر الذي يعاني وضعا صحيا نفسيا متفاقما، مع الإشارة إلى غياب الأنشطة الاستشفائية وعدم السمح لهم بالخروج إلى ساحة المستشفى خوفا من هروبهم، علما أن مدة إقامة عدد منهم هي غير محددة زمنيا.
جراحة عليلة
لا يتوفر المركب الجراحي للمستشفى العام الإقليمي إلا على 4 ممرضي تخدير، مقابل 31 جراحا خلال سنة 2015، مما أدى إلى عدم احترام برمجة العمليات الجراحية، وأبرز التقرير أنه لم يتم استعمال سوى قاعتين من مجموع القاعات الجراحية البالغ عددها 6 قاعات، ما قبل سنة 2016، كما يتم الاحتفاظ بالمرضى مدة أطول بالمركب الجراحي مقابل عدم الاستفادة من الغرفة المخصصة لإيقاظهم التي يوجد بها 8 أسرّة بمساحة 90 متر مربع.
وأبرز التقرير على أنه رغم تحسن ظروف العمل والعدد الكافي للقاعات الجراحية ووفرة المعدات والآليات الطبية، وكذا ارتفاع عدد الأطباء الجراحين الذي انتقل من 21 جراحا خلال 2010 إلى 30 جراحا خلال 2015، فقد عرفت أنشطة المركب الجراحي للمستشفى العام الإقليمي تراجعا بنسبة 23.55 في المئة ما بين 2010 و 2015 ، إذ تراجع متوسط عدد العمليات الجراحية المنجزة من طرف الجراح الواحد من 21 عملية جراحية خلال سنة 2010 إلى حوالي 12 خلال 2014، كما تقلّص عدد العمليات الجراحية الكبيرة التي تتطلب الاستعانة بطبيب مختص في الإنعاش والتخدير، التي تم القيام بها بالمستشفى المحلي لأزمور خلال المدة ما بين 2010 و 2015 ، وتراجعت بمعدل سنوي بلغ 17.67 في المئة، خاصة سنتي 2011 و 2013 إذ لم يتم إنجاز إلا عمليتين جراحيتين كبريتين كمتوسط للجراح الواحد أسبوعيا. وكشف التقرير أنه في الوقت الذي أجرى أطباء عددا كبيرا من العمليات الجراحية فإن آخرين كانت مردودية تدخلاتهم الجراحية ضعيفة.
صحة بدون أشعة
وقف تقرير المجلس الأعلى للحسابات عند نقطة بالغة الأهمية تتعلق بالأشعة والتحاليل الطبية التي تعد عنصرا رئيسيا في تشخيص الأمراض ضمن مسار العلاج، وتبيّن غياب نظام داخلي على مستوى الوحدة المركزية للفحص بالأشعة ، كما تنعدم بالمستشفى العام الإقليمي عدد من فحوصات الأشعة الضرورية نتيجة لغياب المعدات التقنية أو بفعل ضعف جودتها، في الوقت الذي يفتقد فيه مستشفى العياشي الخاص بأمراض السل لمصلحة خاصة بفحوصات الأشعة على مستوى الصدر، مما يدفع المرضى للانتقال إلى مستشفيات أخرى، في حين وصلت بعض المواعيد إلى شهرين ونصف من أجل الاستفادة من الفحص بالصدى و»السكانير». وأوضح التقرير أن وحدة الفحص بالأشعة بالمستشفى العام الإقليمي سجلت تراجعا خلال بعض السنوات بلغ 10.90 في المئة خلال سنة 2011 مقارنة مع 2010 ، إذ تقلّص عدد الفحوصات من 25357 فحصا سنة 2010 إلى 22592 فحصا سنة 2011 ، في حين بلغ 7.25 في المئة خلال 2013 مقارنة مع 2012. أما بخصوص أنشطة مختبر التحاليل الطبية للمستشفى العام الإقليمي فقد عرفت هي الأخرى تراجعا وذلك بنسبة 21.28 في المئة خلال سنة 2013 مقارنة مع 2012 ، وتراجعا بنسبة 39.08 في المئة خلال 2011 مقارنة مع 2010، مع غياب نظام مندمج لتدبير نتائج التحاليل المخبرية، إضافة إلى عدم توفر مجموعة من التحاليل الطبية التي تشهد طلبا متزايدا بسبب نقص الموارد البشرية المتخصصة والمعدات والكواشف اللازمة.
أدوية ومستلزمات طبية
يعتبر تدبير الأدوية معضلة تعرفها عدد من المؤسسات الصحية العمومية، وأوضح التقرير المذكور، أنه وفضلا عن عدم توفيرها للمرضى بالكيفية المطلوبة، وكذا تواجد الصيدلية بمكان غير مناسب وافتقادها لعدد من المواصفات، فقد عرفت عدد منها انقطاعا لمدة بلغت السنة فأكثر، في حين أن نسبة انتهاء مدة صلاحية الأدوية والمستلزمات الطبية قد ارتفعت خلال الفترة مابين 2011 و 2015 بنسبة نمو وصلت إلى 719.78 في المئة.
إشكالية أخرى تهم التعقيم، أشار إليها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، والمتمثلة في تعقيم مجموعة من الأدوات الجراحية داخل المركب الجراحي وليس بوحدة التعقيم الخاصة، في الوقت الذي لم يتم تشغيل نظام معالجة الهواء بها، وكذا غياب مسطرة تنظم العلاقة بينها وبين باقي وحدات المستشفى العام الإقليمي، بالإضافة إلى توقف خدمة هذه الوحدة مساء وفي أيام العطل. ومن الملاحظات الأخرى التي تم التطرق إليها وجود ضبابية في تدبير التجهيزات والمعدات الطبية والتقنية، اقتناء أو صيانة، وغياب آثار مساراتها ونفس الأمر ينطبق على جرد المخزونات.
الموارد البشرية .. العطب الأكبر
تعيش المصالح الصحية على إيقاع الخصاص في الموارد البشرية، ووقف التقرير على ضعف أعداد الممرضين بشكل كبير، وتوزيعهم بشكل غير عادل، هذا في الوقت الذي يتم فيها تدبير وحدات بممرض واحد في النهار وآخر في الليل، يتابعون 30 مريضا، في حين أن مصالح أخرى إذا غاب عنها ممرض بسبب عطلة أو مرض لا يوجد من يؤمن الخدمات التمريضية كما هو الشأن بالنسبة لمستشفى أمراض الصدر والسل، أخذا بعين الاعتبار أن 42 في المئة من مجموع الممرضين سيتقاعدون خلال السبع سنوات المقبلة.
وعلى صعيد الأطباء تبين عدم تفعيل نظام الحراسة مع ما لذلك من تداعيات صحية على المرضى والحالات الطارئة، إضافة إلى غياب ديمومة إدارية أثناء الليل وخلال العطل، وكذا عدم احترام مجموعة من الأطباء لمواعيد العمل، وعدم توفر نظام لتتبع الغيابات، وفقا لتقرير المجلس الأعلى للحسابات.
وإلى جانب ما سبق فغن هناك ملاحظات أخرى لم يغفلها التقرير، ومنها موضوع احتلال السكن الوظيفي وتدبيره بكيفية غير قانونية، اختلالات تتعلق بالجانب الأمني في تدبير مرافق مستشفيات المركز الاستشفائي الإقليمي، وكذا غياب مخطط لتدبير الكوارث، فضلا عن الإشكالات المرتبطة بالتدبير المالي، التي شكّلت إلى جانب نقاط أخرى العنوان العريض لتقرير المجلس الأعلى للحسابات فيما يخص المركز الاستشفائي الإقليمي للجديدة.