لم يكن هناك ما يجعل قدري يلتقي بقدره، في مقدمات الولوج إلى الوجود، فقد رأيت النور، وتجاوزت عتبة الغيب، في الوقت الذي كان هو يضع قدمه في قبة البرلمان ويخطو مع المغرب خطواته الأولى التعددية ابتداء من 1963، وكنت في الشرق ما زلت أرضع ثدي أمي، في حين كان هو قد نضج في الغرب.
ولكن الحياة السياسية في المغرب، ذلك النهر الكبير الذي اخترعته الروح النضالية التي ساقتنا في هديره العاتي .. جعلتني ألتقي به في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في 2008، كان هو الكاتب الأول، وكنت العضو الجديد على قمطر القيادة في أعتى حزب اشتراكي ديموقراطي.
وكان علي أن أتعلم الكثير منه، وأقتسم معه رحلة قصيرة في القيادة، وطويلة في التنظيم، لكنها كانت عريضة وشاسعة فتحت فيها من جديد كراريس التعلم والاستفادة والإنصات وتمحيص الكفاءات الأخلاقية لجيلنا على ضوء معايير أمثاله في المسؤولية.
أحفظ له عبارات بذاتها، لخصت جزءا من رؤيته للذات وللمغرب وللسياسة.
أذكر أنه قال لي بعد انتخابه كاتبا أول، وهو وزير للعدل في نفس الوقت، والنقاش حامي الوطيس كما يقال، بأنه يدرك بأنه يعيش بثلاثية لم تتوفر لكثيرين مثله، وهي ثلاثية الرضى، وقد قال لي « زدي حميد، كما كان يحب أن يدللني: أنا رجل مرضي الشعب، فقد ظل ينتخبني ويمنحني ثقته ورضاه منذ 1963، ومرضي الملك الراحل والملك الحالي، حيث تم تعييني في مناصب ثقة من طرفيهما ومرضي الحزب الذي اختارني كاتبا أول له…”!
وفي العبارة مصنف حياة فريدة، ذات دلالات يجتمع الرمزي فيها مع المادي الواقعي، ويجتمع فيها الفكري مع العملي، وتلتقي في جداولها النظرية بالممارسة…
أذكر أنني استمعت إليه بقلق مشوب بتعاطف عميق، لما كان قد تلٍقى هجومات من هنا وهناك، بعضها من الأقربين، وهمس لي بنظرته الثاقبة وابتسامته المواربة التي تكشف الغضب أكثر من التفكه:” أنا إذا غادرت ذات يوم السياسة فلن يكون ذلك بسبب التعب أو العمر أو المواجهات.. أبدا، بل بسبب التسلكَيط”، وقتها ترجمت قلقه وغضبه الدفين في عمود تحت عنوان” السلاكَطوقراطية”!.
أبدو كأنني أستظل بشجرة وارفة، ولعل تسليطي للغة على شذرات من حياته كي أجعل منها مبررا لصداقة قدرية، لا يخلو من غرور، بل من تجاوز، غير أنني أعرف بأن ما عرفته معه كان من القوة بمكان في مساري الشخصي، جعلني بالفعل أفرد له مصطبة خاصة في القلب والروح…
ويوم كتبت عنه «بورتريه» غير موسع، اتصل بي ليشكرني قائلا: «لقد كدت تبكيني ..» واعتبرت ذلك دعوة حميمية بعدية ومنه هذه الفقرات التي أعيد نشرها:
سيحفظ التاريخ للكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أنه قاد أعرق حزب اشتراكي، في شمال إفريقيا، وآخر قلاع الفكر التقدمي الديموقراطي في العالم العربي والإسلامي، وفي ظروف خطيرة، قاسية، ومتلبدة بغيوم التحولات.
داخليا، كان الراضي مطالبا بأن يقود الاتحاد، الاستمرار الوظيفي والتاريخي لحركة التحرير الشعبية، بعد انحسار سياسي قوي، بدأ منذ 2002، وقد أفضى إلى أن لا يتمكن القائدان التاريخيان والمؤسسان، عبد الرحمان اليوسفي ومحمد اليازغي من عدم إتمام ولايتهما.
في أقل من 5 سنوات لم يستطع الكاتبان الأولان لحزب قوي، وتاريخي إتمام مهمتهما، من البداية إلى النهاية.
هذا الوضع دخل عليه الراضي وهو يدركه جيدا، ويدرك تفاصيله، وكان عليه أن يتصرف بناء على هذا الوعي بدون الإفصاح عنه أحيانا.
وضع كهذا يجعل من الدورة العادية في المسؤولية الحزبية تكاد تكون قرينة بالمعجزة، واستكمال أربع سنوات من المسؤولية، في ظروف التقلب والأزمة الداخلية المتفاقمة شبيه بالإنجاز القياسي.
وكذلك كان، قد ساعدنا عبد الواحد الراضي، في مسيرة مشوبة بالكثير من الصبر والتحمل والنظر إلى المستقبل، على أن نقبل بتحليل الأزمة، ونقبل بضرورة الخروج منها ونقبل نتيجة عملنا.
عندما كان يقول إننا سائرون إلى انتحار جماعي، كان يعرف بأن البقاء على الحياة الجماعية أمر يقترب من المستحيل، وأن الحياة، والحياة وحدها، يمكن أن تكون مشروعا قائما لوحده.
والحياة معجزة، أي أن نقف قبل أن نعلق المشنقة الجماعية أو نحشو بالدموع البندقية التي سنقتل بها أنفسنا.
لم يقل الراضي الطريقة التي كنا سنختار بها انتحارنا الجماعي، لكنه، في المقابل، دلنا إلى احتمال بسيط للإفلات من عقوبة الانتحار !
وطنيا، عاش عبد الواحد الراضي ولأول مرة، تقلبات الوضع السياسي عن قرب، مرات عديدة بدا شبيها بما يكتبه درويش :»أنا التوازن بين ما يجب، يجب الذي يجب«..
كان عليه أن يوازن بين من يدعوه إلى التمترس في الوسط، ومن يدعوه إلى الدفاع عن الغلط كالفدائي في قصيدة مديح الظل العالمي وهم يسمع تضارب الأقوال: يجب الذهاب إلى اليمين.
يجب الذهاب إلى اليسار
يجب التمترس في الوسط
يجب الدفاع عن الغلط.
لكنه كان يجد التمرين المناسب لكي يستمر الحزب حاضرا في المعادلة.
هذا الحزب الذي أنهكته الحروب الداخلية، وأنهكته صناديق الاقتراع، وتكالب القوى الإعلامية من كل حذب، كان على الراضي أن يصنع منه مخاطبا سياسيا، ومخاطبا للدولة وللأطراف السياسية، وبذلك استقبل الاتحاد، وهو في عز النقاش الداخلي، كل أطياف السياسة، لكي يطلق مشروع حوار وطني حول الإصلاحات السياسية والمؤسساتية، مع كل مكونات الحقل السياسي، من العدالة إلى الأصالة، مرورا بالأحرار وأحزاب الكتلة.
وبذلك أيضا، صاغ الاتحاد مذكرة إلى ملك البلاد حول الإصلاحات الدستورية وحول أفق الملكية البرلمانية، وقاد الاتحاد الفترة مابين رفع المذكرة وما بين نزولها إلى الشارع المغربي، عندما خرج الآلاف من الناس إلى الشارع يطالبون بتطبيق.. برامج الاتحاد الإصلاحية.
ولم تكن أمام المغرب، في لحظة البحث عن جواب، سوى مذكرة الاتحاد، فهو الحزب الوحيد الذي تقدم بالمذكرة، قبل أن يتقدم بها الشارع العام !
وكان الراضي في ذلك يسلك المسالك الصعبة، بتؤدة وبصبر الفلاحين، عشت اللحظات الصاخبة لهذا النقاش وشاركته فيه، بهذا القدر أو ذاك، وكنت أتابع الأستاذ الراضي والمجرب والسياسي والاتحادي الذي بدأ منذ كان الاتحاد.
أسر إلي ذات يوم أنه لم يسع إلى أي مسؤولية، وأن عضويته في اللجنة الإدارية للاتحاد في 1962 جاءت باقتراح من الشهيد المهدي.
تلك صيغته في الكلام لكي يقول بأنه لا يطلب المسؤوليات وأنها تأتيه دوما بقدر اتحادي.
وتلك طريقة، أيضا، لكي يربط بين قدره التنظيمي وبين قائد من كبار الآباء المؤسسين بن بركة.
أحيانا يجمع كل دوائر الرضى حول ذاته:
فقد رضي عنه المواطنون عندما اختاروه منتخبا لجماعتهم القصيبية، سنوات طويلة ونائبا برلمانيا من 1963 إلى الآن، كأقدم برلماني في المغرب المعاصر، تتجدد الثقة فيه ورأي الناس عنه.
ورضي عنه الاتحاديون عندما وضعوه في القيادة منذ الستينيات، ثم في القيادة الأولى في مؤتمر 2008….
والراضي لا يجد صعوبة في التحدث إلى الدولة وإلى قائدها والقدرة على الإقناع بما يراه صالحا للبلاد.
وقليون يعرفون أنه أحيانا يغضب، وبغضب بشكل حاد، وإن كان ذلك نادرا.
قاد كمسؤول وطني كبير حر…. جلسات التشاور والحوار حول دستور 2011 وكيف أنه رفض ان يناقش بيانا مهيأ سلفا ضد الذين انسحبوا من القاعة من أبناء اليسار والحركة الاتحادية، بالرغم من أن من دافع عنه كان هو محمد معتصم المستشار.
هي معلومة للتاريخ، وأيضا لكشف جزء من شخصية الرجل الهادئ والوديع، الذي يفضل جلباب البيداغوجي على الكلمات الحماسية، وينحو نحن اللغة الدارجة المتداولة، عوض الخطاب الناري،
فهو يدرك أن التاريخ قد تخلقه الأطراف الراديكالية، لكنه لا يستمر بدون اعتدال… ولا يستمر سوى بالإصلاحيين…
وكان يدرك أيضا، أن التاريخ قد يتقدم من أسوأ جانب فيه.
والراضي في تدبير العلاقة مع القرار يسعى إلى ألا يختار بين الحسم الذي يقود إلى الندم، وبين الانتظارية، هو ينضج الأشياء على نار هادئة تشبه طبعه، حتى يكون الحسم مرضيا لأغلب الناس.
يقتضي ذلك رفقة طويلة مع الزمن وجوارا كبيرا مع الوقت، وإنصاتا أيضا إلى دقات الساعة.
ليبرالي بالمعنى الموسوعاتي، يقر بالحق في الاختلاف، والسعي إلى الإقناع وتداول الأفكار، يؤمن بالتحليل الذي يفضي إلى وضع الدواء اللازم.
الراضي بكل هذه الخصال كان عليه أن يقود الاتحاد الاشتراكي، بتركيبته المتأزمة وأعطابه، وسط رياح التغيير الكبيرة التي هبت على المنطقة: سيحفظ له التاريخ بأنه قاد الاتحاد في زمن 20 فبراير، بدون أن يقع الاتحاد في خصومة – مثل الأحزاب التي أصدرت بيانا ضد المسيرات الشعبية – ولم يقدسها – مثل الحركات التي اعتبرتها هبة ربانية لابد من تقليد الشرق فيها، وتقليد المغرب الكبير.
كيف تقود حزبا شبه معطل تنظيميا، حركته هو بدوره رياح الربيع الديموقراطي، وكيف يمكن أن يساير سرعة التغيير بدون أن يتفكك هيكل السيارة؟ هي ذي المعادلة التي كان عبد الواحد -هكذا نسميه عندما نتحدث عنه بيننا – أن يدبرها دون أن يخسر الفرصة ودون أن يتعب الجسد بسباق يفوق قدرته!
لا يتعب الراضي من محاولات الإقناع ومن تقريب وجهات النظر، وعندما اغرورقت عيناه بالدموع، ليلة السبت – الأحد أمام عشرات المئات من الاتحاديات والاتحاديين، قلنا بأن الرجل لم يسبق له أن تأثر أو بكى مثل تلك الليلة، بفرحة من أوصل الحزب موحدا إلى بر الأمان.
تأثر لأنه جعل من وحدة حزب المهدي عقيدة، ولم يحدث ما يشوش على تلك اللحظة.
شكرا عبد الواحد الراضي، هكذا بإسمك الشخصي، لأنك الأخ الكبير الذي حافظ على تماسك الحزب وسط العاصفة.
وشكرا، مني، لأنني تعلمت الكثير منك، بالقرب من الشمعة التي تضيء.
سأذكر عنك هذه المقولة: إذا ما يوما ما غادرت السياسة أو خرجت بدون عودة فلن يكون ذلك بسبب المواقع، ولا بسبب الخصامات والاختلافات، لكن بسبب قلة الحياء،،« وتدني الأخلاق إلى الحضيض !