عودة الحدث الآني في التاريخيات المعاصرة

لحظة سقوط جدار برلين، بدأ بعض المؤرخين يُنبهون إلى تشكل تيار جديد في التاريخيات المعاصرة . القصد هنا «نظام جديد للتاريخية» بالعبارة الشهيرة للمؤرخ فرانسوا هارتوغ François Hartog. تُحيل هذه العبارة على مسألة التداخل. تداخل عمل المؤرخ مع عمل الصحفي، وبعبارة أدق، تداخل التاريخ والذاكرة. الملاحظ أن الذاكرة لا تثار كحقل إلا استجابة لرهانات معينة، وتحت يافطة «حتى لا يتكرر ما وقع». بينما التاريخ يثار بمنطق البناء المنهجي لإنتاج الذاكرة. ومن خلال هذا البناء يتم وضع شهادة الأفراد ضمن سياقات إنتاجها، مع ما يستتبع ذلك من توضيب الأحداث ضمن شبكات موضوعاتية دقيقة ووفق سجلات إشكالية جديدة.
لفك الالتباس المنهجي طرح البعض فكرة التمييز بين «التحري» وفهم «السياقات» للحديث عن قضية العودة إلى الحدث إلى واجهة المشهد التاريخي .
عودة إلى الحدث، الحدث في بنية الخطاب التاريخي مُتعدد الاستعمالات، يستعمله المؤرخ الاحترافي من أجل إعادة بناء الماضي وفق رؤى إشكالية جديدة؛ ويستعمله الصحفي من أجل إثارة الرأي العام إلى قضية تاريخية حارقة؛ ويستعمله السياسي من أجل تصفية خصوم أو تأكيد مشروعية وجهة نظر معينة؛ ويستعمله المدرس من أجل تعزيز الوظيفة الانتمائية الهوياتية لبلد معين؛ كما يستعمله الإنسان العامي من أجل تحقيب حدث أو ترسيخ أثر في المجتمع…لم تعد هذه الاستعمالات وحدها هي التي تُحدد استعمالات الحدث. فمع تطور وسائل الإعلام وتعدد وسائطها، تغيرت النظرة إلى الحدث، وتغيرت معها المقاربة التاريخية من تعقب أسباب الحدث إلى تتبع أثره، وانفرد الحدث الآني بخاصيتي الغموض والتجدد، غموض باعتباره مُنتجا فرديا وجماعيا، ومتجددا باعتباره قابلا لاحتمالية الظهور والاختفاء…فهل يجوز استعمال تعبير المنعطف النقدي لتوصيف التحول؟
يزاحم الصحفي المؤرخ في المهنة، يعمد الأول إلى تجزيئ الصيرورة، وسرد الأحداث بدون خلفية شمولية، ينطلق من الحاضر ولا يلتفت إلى الماضي، بينما الثاني يحفر في عمق الحدث، يبحث في الوثائق والمستندات. الصحفي بهذا التحديد مؤرخ اللحظة ومؤرخ الحاضر. هناك جزئية لا تخلو من دلالة في هذا السياق، حينما يتهيب المؤرخ من التاريخ الحاضر، فالأمر ينسب إلى ثلاثة اعتبارات: يتصل أولها بغياب البعد التاريخي، وثانيها بقضية المصادر الموظفة، وثالثها بصعوبة تحليل وتأويل الحدث الآني. وقد نضيف إلى هذه الاعتبارات تداخل التاريخ والصحافة والعدالة وما يثير ذلك من حساسيات سياسية.
ينبغي في هذا السياق كذلك تجنب الخلط بين أنواع الاشتغال والخطاب، بين الشهادة والكتابة التاريخية .
ينتصر المؤرخ لفكرة الفهم وفق ما جرى في الماضي بمقتضى «أن ما حدث قد حدث» وليس بمقتضى «حتى لا يتكرر ما حدث» دون خلفية الاتهام أو التبرئة. الحدث الآني من حيث التوصيف هو لحظة لإنتاج الذاكرة وليس التاريخ، لحظة نزع البُعد الميتولوجي عن السرد التاريخي، لكنها لحظة خالقة لميتولوجيات ورموز جديدة. لكن، القارئ ينتظر من المؤرخ أن يرافقه في عملية فهم الماضي من خلال اطلاعه الواسع على الأرشيف، وأن يشركه في إنضاج عملية التأويل المكثف.
في الواقع، لم تكن أحداث الحادي عشر من شتنبر وثورات الربيع العربي أحداثا سياسية وفقط، بل كانت تحولات مفصلية غيَّرت مشهدية الكتابة التاريخية، وغيَّرت معها النظرة إلى الحدث. عاد الحدث الآني المعاش إلى الواجهة بعد عقود طويلة من الكسوف الذي رسمته اتجاهات مدرسة الحوليات. لقد عاد التاريخ السياسي بوصفه «تاريخا ديناميكيا» بعبارة كي بوردي، وفرض نفسه باعتباره «حدثا حاضرا لا يكف عن الاحتراق في راهنيته» بعبارة المؤرخ الفرنسي فرانسوا هارتوغ François Hartog .مع دخول البشرية زمن الرقمنة بدأت تظهر صعوبات امتهان مهنة المؤرخ. يتعذر على المؤرخ أن يتابع بدقة سلاسل الأحداث التي تتدفق من سيولة الزمن الراهن. إننا في قلب ما سماه بيير نورا ب «التضخم الحدثاني»…أحداث مكررة، متشابهة، نمطية، ذات أفق محدود، تعالج في غياب السياق المؤطر لها.
يُشدد البعض على ملاحظة وجيهة، مؤرخين كبار ولجوا مهنة التاريخ من شُرفة الصحافة. علينا أن نستحضر في هذا السياق ألان نيفين في أمريكا مؤسس التاريخ الشفوي، وفي فرنسا جان لاكوتير الصحفي المشهور من جريدة لوموند مؤسس سلسلة التاريخ الفوري الذي جاء من الصحافة، وأيضا الصحفي روني ريمون الذي دعا إلى البحث في الملفات الحارقة، والأسماء كثيرة في هذا السياق.
على المستوى المنهجي، ما دلالة هذا التحول؟ يحيل التحول الانتقال من الحدث البنيوي الذي يرسم منحنيات التحول والقطيعة في مسار تاريخي معين إلى الحدث المجزأ والمفتت الذي يحمل صفة المباغتة والمفاجأة. يتعلق الأمر بحدث آني مباغت لا يمكن توقعه تتعدد منظورات الرأي إليه في عصر التأويل والهويات المتعددة . لا قيمة للحدث في ذاته إلا مُركزا عليه إعلاميا. لا يعرف الحدث بأهميته الإعلامية، وإنما بآثاره . الحدث هو ما يؤول إليه. تحدث بعض المؤرخين عن هذا الانزياح، يتعلق الأمر حسب المؤرخ بيير نورا بأحداث هجينة تتطفل على الأحداث الحقيقية وقد تحجب الأحداث الحقيقة من دائرة التناول والمعالجة.
في كتابه «انبعاث الحدث، التغيرات المعاصرة» يُمعن المؤرخ فرانسوا دوس النظر في الحدث الآني المشيد من طرف قنوات الاعلام. « الحدث ليس ما يمكن رؤيته، أو معرفته، ولكن ما سيؤول إليه». الحدث الآني شبيه بطائر الفينيق/ العنقاء الذي ينبعث من جديد. لا ينتهي الحدث، وإنما يترك آثارا تطفو على السطح من جديد . لا يختفي الحدث نهائيا، بل يتحول إلى صيرورة تاريخية قد تعلن عن نفسها في لحظة من اللحظات.
ينتظر القارئ من المؤرخ أن يشتبك مع تفاصيل التاريخ الحاضر، وأن ينقل أدواته إلى ميدان الراهن من أجل تقديم قراءاته إلى الأحداث المتسارعة. وهي دعوة تجد صدى لها حتى بين ممهتني الكتابة التاريخية. لا يجب أن ننسى أن أسماء من قبيل توسيديد وهيرودوت وابن خلدون كانوا مؤرخين لزمنهم من خلال تحليل أحداث عصرهم. ولكن بالعودة إلى مدار القرن التاسع عشر، كانت الكتابة التاريخية في عهد إرنست لافيس وجول ميشليه وشاتوبريان مرتبطة ارتباطا منهجيا بمركزية الحدث، والارتباط بالحدث معناه ارتباط بخطية الزمن التاريخي، وبتسلسل الأحداث الكرنولوجية. لقد كان من الطبيعي أن تهيمن هذه الرؤية على أعمال مؤرخي القرن التاسع عشر. مع الحوليات، لم يعد الحدث مجرد خبر ينتمي إلى سجل الماضي، وإنما يجب أن يتعامل معه كعنصر ينتمي إلى شبكة من البنيات، ويشمل المؤسسات والممارسات، الخطابات والبنيات غير المهيكلة.
نزولا إلى الإسطوغرافيا المغربية، يجب أن نُقر بأننا إزاء حقل معرفي قيد التشكل، قد تظهر عناصره في وضعية تفكك وعدم اتساق، لكنها تسمح بفرز اتجاهات بحثية واضحة. الحاصل، رافقت عملية تحديث الكتابة التاريخية ظهور مواضيع تهتم بالتاريخ الاجتماعي، بالموازاة مع تاريخ يهتم ببناء الذاكرة التاريخية الوطنية. تُظهر حصيلة البحث التاريخي في المغرب منذ الاستقلال غلبة الكتابات التاريخية ذات المنحى الهوياتي الذي يحاول أن يعيد كتابة تاريخ المغرب بخلفية تخليصه من الإرث الاستعماري. كتابات مالت نحو ما يسميه عبد الأحد السبتي ب»الارتداد التكراري لعصور القوة والازدهار وتحديدا العصر الوسيط، مع اختزال لحظات التوتر والتراجع في الضغط الأجنبي. وهناك كتابات تاريخية تبنت منطق الثنائيات: بادية في مقابل مدينة، سهل في مقابل جبل، عرب في مقابل بربر، مخزن في مقابل سيبة…أفلا يقود هذا المنطق نحو تأكيد فكرة غياب كيان سياسي وطني؟
افتحاص الحصيلة يدفع نحو تأكيد الملاحظة التالية: عدم التوازن بين عملية التوثيق وصياغة الإشكاليات. واضح أن الكتابة التاريخية المغربية لم تتعد المستوى الأول، وأهملت الاستيعاب النقدي للمناهج الحديثة. وفي جانب منها، بقيت وفية لمنطق المحاور الموضوعاتية التي تحاول تأكيد فكرة ثنائية الهوية والدولة الوطنية .
بخلاف ذلك، راكم مبحث التاريخ الاجتماعي في التاريخيات المعاصرة دراسات مرجعية مهمة، تهم تحليل الصور والتمثلات الاجتماعية هتم برصد لحظات التوتر السياسي والحركات الاجتماعية والبنية الثقافية واستجلاء العلاقة بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية والاهتمام باجتماعيات الدولة وتحليل السلطة داخل النسيج الاجتماعي .
في المحصلة، كل كتابة تاريخية ترتهن في تطورها المعرفي بشرطين أساسين: يرتبط الشرط الأول بتجدد فرضيات واشكاليات المعالجة، ويرتبط الشرط الثاني ببذل مجهود على مستوى الأرشيف…وبتوفر الشرطين معا، لا بُدَّ من توفر مناخ عام سياسي ضامن لحرية التعبير يضمن للمؤرخ الاشتباك مع القضايا التاريخية دون توجس سياسي. وعملية التجديد التاريخي تقتضي المزاوجة بين الاستقصاء المونوغرافي وبين الجرأة في التركيب، ومن خلالهما يتم تجديد الأسئلة وخلق حوار مثمر وخصب بين التاريخ وحقول العلوم الاجتماعية.


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 26/05/2023