يبدو في هذا البورتريه الأستاذ الباحث والفنان التشكيلي محمد سعود داخل هندام أنيق ببساطته ، يعكس شخصيته المتواضعة ، وبقبعة المبدع الملتصقة به على الدوام ، و التي تدثر وتغطي رأسه بالكامل ، و تخفي معها كثير من الأشياء.فهذا الرأس بضخامته ، لا يعتبر فقط جزءا من جسد ، بل هو خزان كبير للمعلومات ، يعكس ثقافته الواسعة وذاكرته القوية التي تستمد ظلها من رأس الفيل .
هذا الرأس يأخذ مساحة معتبرة في لوحة جاءت بضربات جريئة وبألوان غامقة ، تستمد قوتها وغموضها من شخصية رجل كتوم ، لا يبوح بكل شيء ، ولايعبر عن مشاعره إلا من خلال أعمال تتضارب بين التجسيد و التجريد ، غالبا ما يشتغل عليها بالليل ، ينفث فيها ألوانه على إيقاع دخان سجائره ، ولعل تلك الجيوب التي تحيط بعينيه تكشف عن هاجس السهر الذي يلازمه ، وكأنه دائم البحث في السواد عن ذلك الشيء المبهم الذي يطبع الحياة ، ويمنحها سحرا (le charme) ، وقد تنبه الفنان القدير عبد المجيد اللياوي إلى ذلك بحدسه ، مما جعله يركز على ملامحه ، ويحرص على أن يكون وفيا لقسمات وجهه التي تم تشكيلها بخطوط متباينة ، تمثل تجاعيد ، تختزل سنين من العمل و المثابرة من أجل البحث عن التفرد ، وفرض وجوده كفنان تشكيلي بكل ما تحمله الكلمة من دلالة ، سيما وأن النجاح ، و الشهرة في هذا المجال بالنسبة له ، لا تأتي إلا بعد الستين . فتلك التجاعيد البارزة تسرد مسار فنان عبقري ومناضل ، تبوح بذلك كذلك ، نظرته الملقاة نحو اليسار ، تشير إلى ميوله التقدمية والتي ترسخت عنده منذ مرحلة الدراسة الجامعية.
تختلف العناصر المتعلقة بالهندام ، ولكنها تجتمع لتشكل كتلة بأبعاد متعددة ، وإيحاءات مرتبطة برجل يتنفس تشكيلا.
المعطف جاء مفتوحا ليعبر عن التوق إلى الانطلاق والحرية ، و بلون أزرق غامق ، يميل إلى السواد ، يعكس قوة الشخصية والجرأة ..فسعود جريء في أعماله ، وحتى في تصريحاته أيضا. أما الوشاح الكستنائي الذي يطوق عنقه ، فقد زاده أناقة ، وصنع توهجا استقاه من أصفر ، طالما ميز أعمال معلمه الأول ، الفنان التشكيلي البركاني العالمي الراحل مصطفى السباعي.
إذا أمعنا النظر فيه ، يتبين أنه يشكل” V”، تلك العلامة التي ترمز للانتصار ، وتنبني عليها بعض رسوماته ، تبدو واضحة من خلال جزء صغير من ثوب أسود سلطوي ، محبوك بإتقان ، يمنح الحيوية بدفئه المستمد من قطن ليس فيه خشونة ، يذكر بنعومة أصابع خلاقة ، تأخذ مرونتها من يد فنان تشكيلي ماهر ، لم يعد يستعمل الريشة والفرشاة ، ولذلك تجد في أعماله تلك اللمسة الشاعرية التي يشعر بها قبل غيره.
فهذه الصورة تتجاوز البورتريه بإبعادها ، و بمشهدها الحميمي الذي يتم استشعاره من عمق ألوان تصنع عتمة ، جاءت بتدرجات لونية و هي إحدى العناصر المهمة في هذا العمل ، سيما وأنها تبرز التباين ، وتعكس جوهر الشخصية ، و تبعث على التأمل ، وقد أبدع الرسام في توظيف خطوط ، تتضارب بين الرهافة والقوة لإبراز التباين و الخصوصية ، ومنح الواقعية لوجه رجل معروف ، مفعم بالأحاسيس و مثقل بالحقب المضنية في خدمة هذا الفن الراقي ، مما يُشحنه بالأمل و الإحساس بعنفوان ، يذكي فيه التحمل والاستمرار في العمل ، وينسيه عمرا انساب مع الزمن.
فالفنان السي عبد المجيد ، من خلال هذا البورتريه قدم صورة قلمية تقرأ صاحبها من الداخل ، و ليست رسما بالكلمات كما توصف عند بعض النقاد ، فهي قراءة إبداعية من داخل الصورة ، تعتمد على ثقافة واسعة ومهارة ، سيما وأن رسم ملامح شخصية وإظهارها بشكل واضح ليس فيها أي لبس ، تكون دائما في حاجة إلى الاقتراب منها لنقل طبعها و إبراز مواقفها ، إضافة إلى ظلالها الإنسانية ، دون إغفال بيئتها ومحيطها ، يلاحظ ذلك في هذا البورتريه الذي يبقى ملتصقا بجغرافية المكان ، من خلال ألوان ، نابضة بالحياة ، فيها شيء من خصائص التربة ، الآتية من أعماق طبيعة بركان لتطبع هذا الوجه المعروف والمألوف الذي ألهم الرسام عملا فنيا لا يعتبر فقط صورة لشخص ، بل لوحة مفتوحة على عالم مبدع فذ ، ذاع صيته من هذه المدينة الصغيرة ، فملأ الدنيا ، و شغل الناس بأعماله التشكيلية ، وبحوثه ، وتعكس بلا شك إحساسا بالغا شعر به ، وهو يشتغل على هذا العمل ، مستحضرا النظرة الثاقبة للرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي التي تتجسد أمامنا إلى جانب إحساس و رهافة فان جوخ ، الرسام الهولندي الذي رسم بول غاشيه ، للتعبير عن معزته وتقديره لهذا الطبيب الذي اعتنى به خلال فتراته العصيبة قبل وفاته.
إذا كان الهدف من لوحة البورتريه هو تحقيق تشابه مع الأصل بحيث يمكن التعرف على صاحب البورتريه بمجرد رؤيته ، فإنه من الناحية المثالية هو حفظ جيد لمظهر الشكل وطبعه في الواقع وسماته.
حين يتأمل المشاهد هذا الوجه بتجلياته ، يكتشف بأن وراء الملامح والخطوط والألوان أفكار وأحلام تشغل بال صاحبه ، حيث أن الفنان يشعر بما يجول في الخاطر ، وعبر عن ذلك بلوحة مؤثرة تستقي جماليتها من دقة التفاصيل ، سيما وأنه يهتم بعلم تطوير الذات ، الذي يثير اهتمامه كثيراً ، فمع رسم الوجوه يحس بأنه يصل إلى مشاعر معينة كما يصرح دائما ، ولذلك يسلط الضوء عليها.فالأستاذ عبد المجيد فنان بالفطرة ، تعلم الرسم منذ صغره ، حيث كان يرسم كل ما يعجبه من حياوانات ، وأشجار وبنايات تثير اهتمامه ، وهو يتجول بين دروب وأحياء شعبية في مدينته أبركان ، ومع مرور الوقت ، وبعد تقاعده من وظيفته كمدرس للرياضيات ، أضحى من كبار الفنانين المغاربة الذين يهتمون بالبورتريه ، سيما وأنه يهدف إلى التعريف بمبدعين ومبدعات ، يتنمون إلى مدينته أو إلى مدن مغربية من خلال بورتريهات متفردة ، تتميز بلمسة خاصة ، تدعو إلى التوغل في التمعن الذي يجعل الرؤية تنتقل إلى رؤية أخرى تتجاوز المرئي ، وتؤجج الانفعال والتفاعل والإحساس بما شعر به المبدع وهو يرسمها.
هذه اللوحة تعتبر دعوة لرؤية اللامرئي للتعرف على شخصية محمد سعود الإنسان ، واستحضار مواقفه من خلال ضربات فرشاة جريئة صنعت خلفية كثيفة ، تتجاوز مقاس اللوحة بعمقها ، و ترسخ البعد الثالث الذي ينبني عليه العمل كله الذي يجعل هذه الصورة ليست مجرد بوتريها جافا بدون روح ، وإنما تحفة فنية ببعدها الزمني الذي يعتبر بالغ الأهمية في تحديد وضعية الشخص و سنه .
الإحالة على سيرورة الزمن لا تعكسه الظلال فقط ، بل تتجسد من خلال تجاعيد الوجه ، يظهر ذلك للعيان في هذا البورتريه الذي يعكس مهارة الفنان وذكائه ونظرته العميقة.
كل ما في الصورة له دلالته ، فالخلفية غامقة لاتمثل فقط ذلك الستار الذي يمتص الضوء في الصور القوتوغرافية ، وإنما تم توظيبها بهذه الطريقة لتعكس قوة الشخصية ، و تضفي عليها جاذبية ، و تطبعها بهالة تعكس طبع إنسان ، نادرا ما يبدو في وسائل الإعلام ، يشتغل في الظل ولا يحب البهرجة ، و تبعث بالإضافة إلى ذلك على الحميمية ، ولا تشتت النظر ، مما يجعل المتلقي يركز على صاحب الصورة ، و يتفاعل مع إبداع الرسام بكل جوارحه وعلى إيقاع نبضات قلب كبير تم احتضان توقيعه.
بين هذه الخلفية و الأمامية مسار مبدع جميل ، لم يحرق المراحل ، فقد شق طريقه بإصرار ، وفي صمت إلى أن وصل إلى العالمية ، وقد نجحت ريشة الرسام في تسليط الأضواء عليه بأسلوب واقعي ، فيه شيء من الانطباعية لتخرج الصورة من سطيحتها وتعكس عمق شخصية فذة ، لا تبقى محصورة في موقع جغرافي محدد ، بل تتمدد بفعل إشعاعها لتبرز أهمية المساحة في تشكيل الهوية داخل لوحة تعبر عن تقدير الرسام لمحمد سعود وترسخ الاحتفاء به على الدوام في كل مكان.
عين على بورتريه : صورة الفنان العالمي والناقد التشكيلي محمد سعود بلمسة صديقه الفنان عبد المجيد اللياوي

الكاتب : عبدالسلام صديقي
بتاريخ : 13/01/2025