فاعلية اللغة وحيزها الشاعري الاغترابي في ديوان «ما تأخر من القول» لحميد سعيد

لاشك في أن اللغة الشعرية هي الأفق الجمالي لتفعيل كل قيمة جمالية في النص الشعري؛ وهي الأس الجمالي في الحكم على أية قيمة جمالية ترتقي بالأفق الجمالي للنص الشعري؛ ولهذا، فإن لغة الشعر تنشأ بين الشاعر وبقية المدركات التي تكون عالمه الشعري؛ ذلك أن اللغة الموجودة خارج الشعر تكون في حالة فوضى لايعبر فيها الإنسان عن نفسه، ولكنها حين تدخل في إطار الشعر يصنفها الشاعر وينظمها مخلصاً إياها من الفوضى، ليحقق وجوده من خلال التعبير الفعال لآلية وجودها في العملية الإبداعية”(1).
والشاعر المبدع هو الذي يوظف اللغة توظيفاً فنياً يرتقي بآلية تلقي النص الشعري؛برؤية حداثية ومنطق فني مغاير لما هو مألوف؛ وهذا يعني أن الشاعر المبدع هو الذي يشكل اللغة تشكيلاً مغايراً؛ تبعاً لمسعاه الفني؛ ومقدرتها الإبداعية الخلاقة؛ لأن الشعر – بالأساس- هو طاقة إبداعية متغيرة؛ إذ ينبني الشعر على “ تفجير اللغة؛ وجعلها تضيف إلى نفسها؛ ومن داخلها عنصراً آخر هو الإيقاع؛ ويقوم ذلك الإيقاع؛ فيما هو يتولد عنها؛ بإجبارها على التشكل وفق ما يتطلبه هو نفسه في خرقه للنمطية المعروفة في تشكيل الكلام”(2).
وهذا يعني أن لغة الشعر هي كسر اللغة اليومية المألوفة بلغة غير مألوفة أو غير معتادة، أو غير متوقعة، ووظيفة الشعر هي أن يحدث الصدمة الجمالية أو اللذة الجمالية في التلقي الشعري الجمالي؛ والشاعر المبدع هو الذي يكسر التوقع المحتمل من القارئ، ليجعله يسبح في معمعة الاحتمالات الرؤيوية اللغوية المتغيرة؛ ولهذا؛ تعد القصيدة المبدعة عالماً متماسكاً من التآلفات والتناغمات النسقية التي يصعب تفكيكها وعزلها عن الكلمة النصية؛ ولهذا تبقى اللغة الشعرية متأبية عن التنميط، أو القولبة في شكل لغوي معتاد أو متواتر؛ وبهذا المعنى يقول رينيه ويليك:” القصيدة – القصيدة لا تنثر ولا تترجم. فهي عالم متماسك ، قوامه الأصوات والمعاني؛ ويبقى من تلاحم عناصرها أننا لانستطيع فصل الشكل عن المضمون؛ ويستغل إمكانات اللغة إلى أبعد حد ممكن؛ مبتعداً بنفسه عن الكلام العادي بواسطة الأصوات والأوزان، وكل الوسائط التي تتيحها الصور الشعرية؛ أو ( لغة فوق اللغة) أي أنها لغة لها شكلها المستقل تمام الاستقلال؛ والشعر –عند فاليري- حساب وتمرين، بل هو لعبة وأغنية وترنم وسحر وتعويذة؛ إنه فن يقوم على الصور البلاغية، والترنم، وهو مواءمة بين الصوت والمعنى؛ ليصل حسب تقاليده هو حتى لو كانت تعسفية إلى درجة المثال الذي تشكل عناصره وحدة واحدة تتجاوز الزمن وتصل عالم المطلق”(3).
وبهذا التصور ، يمكن القول إن شعرية اللغة تتأتى من خلال القوة التخييلية العالية التي يملكها الشاعر بالانتقال من أسلوب إلى آخر، عبر كسر النمط الشعري السائد وخلق لغة شعرية مواربة تؤكد قوتها الاقتضائية في خلق الممانعات النصية التي تظهر أحقية الشاعر الإبداعية والسستم الإبداعي في تفعيل الرؤية الشعرية بتشكيلات خلاقة لها دورها الفاعل في خلق النص المثير وإبراز درجة الشعرية التي وصل إليها الشاعر في خلق نصه المثير، وتشكيل مواطن دهشته النصية المتنوعة.
والتساؤل المثير الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي:
ما هي المفاتيح النصية التي جعلت قصائد” ما تأخر من القول” للشاعر العراقي حميد سعيد تحقق إيقاعها الجمالي على المستوى التشكيلي الإبداعي وحراك المشاهد الشعرية المتحولة برؤاها ومنظوراتها الفنية؟
وما هي القيم الفنية والجمالية التي ارتكز عليها حميد سعيد في خلق لغته الشعرية المثيرة لاسيما في تفعيل الأحداث واسترجاعها عبر تقنية الاسترجاع الزمكاني، وتلوين المشاهد وتنويعها عبر حراك المشاهد الشعرية رؤيوياً وبصرياً؟ وهل استطاع حميد سعيد أن يجعل من لغته الشعرية اللغة البرقية الزوغانية بأسلوبها الوصفي المشهدي الدقيق وتتابع مؤثراتها الفنية وتواترها من بداية القصيدة إلى نهايتها؟
ما مصدر الدهشة الجمالية في تشكيل اللغة الشعرية في قصائده وتحميلها من الرؤى والدلالات الشيء الكثير، وما مدى الحنكة الإبداعية التي اشتغل عليها حميد سعيد في تخليق الفضاء الجمالي الرؤيوي لقصائده الوصفية المشهدية واستقطابها الفني الشاعري المثير؟ وهل توفق حميد سعيد في الفرادة الإبداعية واقتناص التمايز الإبداعي بهذا النمط الإبداعي والأسلوب الشاعري المتبع؟
إن من يتأمل قصائد حميد سعيد في ديوانه”ما تأخر من القول” بعمق وعين رؤيوية كاشفة يدرك أن لعبتها زمكانية ارتحالية ، حيث تملك قصائده نغمة الاغتراب الزمكاني الذي يبث الحنين والشجن، والحزن الداخلي، وهذا يؤكد أن شاعرية الرؤيا وتبئير الدلالات من أهم المثيرات في تفعيل اللغة الشعرية وجعلها لغة اغترابية مواربة برؤاها ومؤثراتها الفنية المتنوعة.
وهنا قد يتساءل القارئ: هل شعرية اللغة عند حميد سعيد في هذه القصائد لعبتها شعرية الرؤيا وتبئير الدلالة أم شعرية التشكيل واقتناص التشكيلات الاستعارية المتوهجة من خلال دهشة الوصف السرد والعزف على بانوراما الأحداث الوصفية الدرامية بما تستبطنه من مؤثرات ومحركات جمالية وهاجة؟
لاشك في أن القارئ الحصيف للفضاء الرؤيوي اللغوي الجمالي لهذه القصائد يدرك أن لعبتها شاعرية الرؤيا الزمكانية وتقنية الاسترجاع الزمكاني الفني للأحداث والذكريات الماضوية، والانتقال من خلالها إلى بانوراما الواقع، بحركة زوغانية استثارية مرهفة في تحريك الأحداث، والعزف على متغيراتها الفنية؛ فلا يجد القارئ في هذه القصائد مبالغة في السرد الوصفي الذي يوقع القارئ في الرتابة، والتكرار واجترار الأحداث، بل نجد انتقالاً استثارياً بليغاً على مستوى الرؤى ودلالاتها ومؤشراتها الفنية وتفاعل الأحداث واحتدامها تبعاً للمتغيرات الرؤيوية الاغترابية التي يعيشها الشاعر في واقعه الزمكاني المتغير شعرياً؛ وهذا يعني أن الحراك الرؤيوي النصي لهذه القصائد حراك جمالي خلاق للمعاني والرؤى الشعرية البليغة، وهذا يجعل القارئ يلتفت دائماً إلى القوى العلائقية الرؤيوية للأحداث الماضية وربطها بالمشاهد والتفاصيل الواقعية ليعكس من خلالها فنية المناورة الوصفية السردية في تخليق الرؤية الشعرية الجمالية،وخلق مثيرها الفني.
ولا بد للإحاطة بهذا الحراك الرؤيوي الجمالي، على مستوى الأحداث والرؤى الشعرية، من الكشف عن المفاصل النصية الحساسة التي تشكل المرتكزات الفنية الدقيقة في هذه القصائد، وهي كما يلي:

1 – شاعرية الوصف السردي المغترب:

ونقصد ب( شاعرية الوصف السردي المغترب): شاعرية السرد في بث الحالة الشعورية الاغترابية التي يعيشها الشاعر؛ ومن المعروف أن لغة الشعر اليوم لغة استشرافية تعتمد التفاعل الفني والتداخل الجناسي مع مختلف الفنون، والوصف الاغترابي يعد تقنية فاعلة في فنون القص كالسرد والرواية من خلال تفاعل عنصري الزمان والمكان، ولهذا يعد الزمن أو لعبة الزمان والمكان من محفزات اللغة السردية الوصفية في كشف فواعل الشخصيات في القصة أو الرواية، والاغتراب الزمكاني كما هو عنصر مؤثر في الرواية والقصة دخل فضاء الشعر والشعرية بقوة بمداخل فاعلة رؤيوياً من خلال تنامي الرؤى بالأحداث، وتفاعل الأحداث الماضوية بالحاضرة لخلق الدراما الشعرية المتوترة، وهذا يعني أن شاعرية الوصف الاغترابي في لغة الشعر لايقل حضوراً ولا أهمية عن حضوره في السرد القصصي والروائي؛ وقد استطاع الشاعر حميد سعيد أن يخلق من لغته الشعرية لغة إبداعية خلاقة بمؤثراتها ورؤاها النصية، لاسيما في قصائد ديوانه ( ما تأخر من القول)، حيث يفيض بلغة زمكانية استرجاعية حاضرة بقوة على مستوى سرد الأحداث بتفاصيلها ومتخيلاتها ومؤثراتها النفسية الاغترابية على المستوى الوجودي؛ فهو شاعر استثنائي في وصف الأحداث وتلوينها بمرجعياتها النفسية ومؤثراتها الشعورية ليخلق من الأحداث في حراكها الرؤيوي البصري قيمة عليا في تحريك المتلقي،وجذبه إلى زمانه وزمان أحداث قصائده بمتخيلاتها الرؤيوية ونبضها الشاعري الاغترابي الذي يبث الشجن والأسى العميق، وكأن خواء المكان وتغير ملامح الشخصيات جزء من لعبة الرؤيا الشعرية لتحاكي الذات الشعرية في اغترابها وشجنها العميق، إذ يقول:
“مدنٌ تتغيبُ عن زمنٍ..
تتدثرُ فيه الثواني بأوجاعها
وتغيبُ..
كل الذي كانَ صار بعيداً وملتبساً
وعلى غير ماكانَ
أحلامُها وحكاياتُها والتواريخُ والناسُ
واللغةُ المتداولةُ”(4).
هنا،كرس الشاعر جوانب الاغتراب النفسي الزمكاني بكل إحساس شعوري عميق، بإيقاع سردي وصفي متلاحم الرؤى والجوانب الشعورية التي تبث الأسى الشعوري العميق:[ تتدثر فيه الثواني بأوجاعها وتغيب..]، وكأن تلاشي الثواني في الغياب هو تلاشي الذات في أحلامها التي كانت، ومضت لم يعد منها إلا خيط الزوال والغياب، حتى الأحلام والحكايات والتواريخ والأزمنة واللغة التي كانت تلاشت في تيه الغياب وتغير الأزمنة ورحيلها وغيابها في سراب الأحلام وزوالها.
واللافت أن السرد الوصفي الاغترابي الشائق في قصائد حميد سعيد يتبع الحالة الشعورية التي يعيشها ويكرسها في فضاء قصائده، فهو لاينفصل عن القصيدة حياة ونبضاً وشعوراً؛ وكأن كل شيء يعكس حالته الاغترابية على المستوى اللغوي والبصري والرؤيوي، لدرجة أن القصيدة جزء من كيانه الشعوري، وكونه الوجودي، إذ يقول:
“ فارق الشعراء قصائدهم
وتعثر ظلُّ القصيدة بالمتداركِ
والتحق المتقاربُ بالراحلين
ليس في هذه المدينة طحنٌ
وليس في هذه البلاد طحين”(5).
هنا، يبدو لنا أن العقم الوجودي هو صيرورة اغترابية تكشف عن إحساس الشاعر الاغترابي بالواقع وتغير الأشياء وفقدان بريقها،وهذا ما يكشفه قوله:[ ليس في هذه المدينة طحنٌ/ وليس في هذه البلاد طحين]؛وهذا يعني أن فاعلية الرؤية الاغترابية عبر جمالية السرد الوصفي تتبدى في هذه التآلفات اللغوية التي تكشف شعرية المشهد، وحراك الرؤى الشعرية المرتبطة به؛كما في هذه التشكلات الاغترابية في تجسيد عمق الرؤية الزمكانية التي تدل على الخواء والارتحال والغياب، والذكريات الموجعة :[تعثر ظلٌّ القصيدة بالمتدارك/ والتحق المتقارب بالراحلين]؛ وهكذا يجسد الشاعر اغترابه بإحساس وجودي عميق؛ يعكس حراك المشاهد رؤيوياً وبصرياً في كشف الجوانب النفسية العميقة التي تنطوي عليها الذات في إحساسها الوجودي القلق المتغير بالأحداث والتفاصيل اليومية،واسترجاعها الزمكاني الوصفي الدقيق. ولهذا تتحرك المشاهد الشعرية في قصائده حراكاً مشهدياً مكثفاً ينم عن موهبة فائقة في تحديث المشهد الشعري واسترجاعه الزمكاني عبر حراك الصور والأحداث والرؤى الماضوية بإحساس شاعري رقيق.
والمثير – على المستوى الوصفي المشهدي-أن حراك المشاهد الشعرية اليومية باسترجاعها من الزمن الماضي، وارتداد الماضي إلى الحاضر، والحاضر إلى الماضي، هو من منبع شعرية الفضاء الزمكاني لقصائده،لاسيما في هذا الديوان، وخصوصاً قصيدته( تأويل الغياب):
“ تعودُ مغنية الحيِّ بعد غيابٍ
إلى الحيِّ..
تبحثُ عن صوتها لتلم شتاتَ الصدى
لم تجدْ أحداً
البيوتُ التي فارقتها.. رأتها تغير عاداتها
تتغيرُ…”(6).
إن القارئ هنا أمام لوحة وصفية في تجسيد الرؤى الاغترابية الزمكانية، حيث دلت المغنية على ليالي الأنس والجمال في الأزمنة الماضية، لتعكس من خلال خواء المكان خواء الحياة وتلاشيها من نبضها الوجودي الجميل، فقد تغير كل شيء حيث فقدت البيوت ملامحها وتغيرت، فكيف بالإنسان الذي فقد كل شيء وارتحل في فراغ البياض والخواء؛ وهذا ما جسدته رؤيوياً في قولها:
“جاراتها لم يعدنَ كما كنا من قبلُ
بعد ضمورِ الشذى ورحيلِ الحدائقِ”(7).
هنا، إن اعتماد الشاعر السرد الوصفي المشهدي الاغترابي المثير جعل حراك الدلالات الاغترابية يتماشى مع حراكها البصري، وكأن انتقال الشاعر من الحدث المشهدي الجزئي إلى صيرورة الأحداث الماضوية الشاملة جعل المشاهد الشعرية متلاحمة بدلالاتها ورؤاها الشعرية المتحركة، وهذا يعني أن الشعرية ليست تكريس مشاهد شعرية فاعلة بقدر ماهي تحريك للمخيلة الشعرية بمبتكرات لغوية تؤكد حنكة الشاعر وموهبته في خلق المتعة الجمالية أو اللمعة الجمالية، كما في قوله :[ ضمور الشذى / ورحيل الحدائق]، فالحدائق لا تغير مكانها وإنما الذي يتغير هو من يرتادها ويتنشق هواء وجوده بوجودها، وما ارتحال الحدائق إلا ارتحال للحياة برمتها وتغير الأشياء واغترابها وتلاشيها واضمحلالها، وهذا يعني أن شاعرية اللغة في قصائده تتبدى في إيقاعها الاغترابي ورشاقة الصور ومشاهدها المتحركة التي تعكس دهشة في وصف الأماكن وخلق ممانعتها النصية الآسرة عبر الفواعل النصية الاغترابية التي تثير الحدث الشعري، وترتقي به جمالياً.
وصفوة القول:إن شاعرية الوصف السردي المغترب- في قصائد[ ما تأخر من القول] تنبني على حراك المشاهد الشعرية، وسرد الأحداث بتفاصيلها الجزئية واسترجاعها بمخيلة رؤيوية براقة تعكس قدرة الشاعر على التوصيف السردي المشهدي بإيقاع اغترابي شاعري سرعان ما يتفاعل القارئ مع الأحداث والمشاهد الماضوية بإحساس واقعي شاعري يبث الأسى والشجن العميق، وهذا يعني أن الفضاء الرؤيوي الشاعري لقصائده فضاء شاعري مفعم بالإحساس ودهشة الانتقال من مشهد شعري وصفي إلى آخر، وكأن القارئ في مشاهد بانورامية متحركة تجمع بين الأحداث الماضوية والحاضرة بإيقاع وصفي شاعري مشهدي رشيق يعكس شعرية اللغة وشاعرية الرؤية في تجسيد المشاهد وتحريكها بصرياً. وهذه المقدرة الشعرية لايملكها إلا الشاعر المبدع الذي يملك القوة الرؤيوية الفاعلة في تحريك الأحداث وتفعيلها مشهدياً.

2 – شعرية المشاهد الشعرية المتحولة جمالياً:

إن الشعرية تفاعل مشهدي استثاري يرقى الشاعر من خلاله أعلى قيم الجمال والاستثارة والمبالغة الوصفية في رسم الأحداث، وتفعيلها رؤيوياً،وما نقصده ب( شعرية المشاهد الشعرية المتحولة جمالياً : تلكم المشاهد الشعرية التي يجسدها الشاعر بطزاجة الحدث الماضوي واسترجاعه في الوقت الراهن ممازجة جمالية بالتحول مما مضى رؤية إلى الواقع الراهن حضوراً وتكثيفاً جمالياً، فليست القيمة في الشعرية بالصور والمؤثرات الفنية التي تفرزها القصائد وإنما بلعبتها الاستثارية في تحريك الوصف والسرد ورسم الأحداث بما يحايث الواقع الراهن ليجعل التحول الجمالي الوصفي ذا قيمة في تشكيل الحراك النصي الجمالي؛لأن الشعر في المحصلة:» تفاعل حس ولغة»(8).وهذا التفاعل هو الذي يخلق المتعة في تلقي اللغة الشعرية تلقياً جمالياً؛ فالقيمة في المشاهد الشعرية تتأتى من حراك الرؤى الشعرية وتفعيلها بما يحقق قيمتها الاستثارية في ربط الأحداث ونقلها واسترجاعها أو استقطابها من أزمنتها لتحايث أزمنة الشاعر الراهنة، وهذا يجعل الفضاء الزمكاني الشعري فضاء جمالياً بمشاهده الحية، وتنوع القيم المرتبطة بالمشاهد الواقعية التي تبدو حية ومباشرة وكأنها رهينة اللحظة الطازجة إبداعياً.
ومن يطلع على الفضاء الرؤيوي الجمالي لقصائد حميد سعيد في ديوانه( ما تأخر من القول) يلحظ تنوع المشاهد الشعرية لتشكل بانوراما متحركة من المشاهد الزمكانية الماضية والحاضرة ،وكأنها تشكل جسد اللحظة الراهنة بكل متغيراتها الزمكانية، وحراكها المشهدي الرؤيوي الفني، ففي قصيدته(العجوز اليساري) نلحظ تنوع الرؤى الزمكانية بين الوصف والسرد وتكثيف المشاهد الزمكانية في حيزها الماضوي وترسيمها في حراكها الشعوري، وكأن الذات تعود إلى صراع اللحظة بين ما كان وما سيكون في الواقع وتحدث الذكريات الماضية بعبق الحاضر ونشوة الذكرى وإيقاعها الاغترابي الحزين:
« لم يعد للعجوز اليساري ما يتحدث عنه..
ويدعو إليه
إذ اختطف الغجر العابرون: نجمته
وتوارى الذي بين يديهْ»(9).
هنا، يدمج الشاعر اللحظة الماضية بالحاضرة ليعلن حالة الاغتراب القصوى التي وصلها إليها فلم يتبق له من أحلام وتطلعات وآمال، ليتحدث عنها أو يذكرها؛ وهاهنا تموت اللحظة الشعرية الحاضرة في الغياب، ويضيع أمل الشاعر ويتوارى في السراب ،لاسيما بعد أن جفت ذاكرته في الحنين والغياب، ليعلن الشاعر مشهدية اللحظة الراهنة بقسوتها ومرارتها والحنين إلى ما كان:»
« يتخيَّلُ ماضيهْ
فليتخيله مثلما يتمنى… وليس كما كانَ
إذ جفتْ الذاكرةْ»(10).
هنا ، يضعنا الشاعر مشهدياً أمام لحظة التلاشي وفقدان الأمل بعد أن شاخت الذاكرة وجفت ينابيع الذكرى الخضراء في فضاء التيه والغياب وجفاف المكان وعقمه الوجودي؛ وهذا يدلنا على أن الفضاء الرؤيوي الجمالي المشهدي فضاء زمكاني اغترابي، إذ إن الشاعر يبحث عن حيوية اللحظة ويجسدها شعرياً لتحمل نفثات شعوره الاغترابية وحنينه إلى ماكان بتلاعب مشهدي زمكاني استثاري يحرك الأماكن شعرياً قبل أن يحركها مشهدياً؛ وهذا الأسلوب الشعري المتنوع هو الذي يجعل المشاهد حية في لحظتها الراهنة وواقعها الاغترابي الداخلي النفسي الذي يرتد من الذات للمكان ومن المكان إلى الذات، بتفاعل رؤيوي زمكاني مفتوح على مختلف الرؤى والدلالات وتفاعل الرؤى الشعرية التي تثيرها القصيدة،كما في قوله:
« غادرتِ المقهى..
فتذكر خفق عباءتها
ابتعدتْ..
……..
……..
شخنا.. وتغيرت الدنيا
إلا خفق عباءتها.. ظلَّ كما كان»(11).
هنا، يبدو المشهد الاغترابي الشعري متحولاً جمالياً؛ من خلال رسم المشهد الشعري الواقعي بتفاصيله وحرارة اللحظة الحاضرة مشهدياً، من خلال رسم ملامح المرأة التي في المقهى، وخفق عباءتها الذي يعيده إلى أزمنة ماضية ليعكس من خلالها حيوية المشاهد وحراك الرؤى الشعرية المرتبطة بها، وما قوله:[ شخنا .. وتغيرت الدنيا إلا خفق عباءتها ظل كما كان]؛ إلا استرجاعاً زمكانياً مشهديا إلى ما مضى وربط مصاحبات اللحظة الماضوية بما تثيره من متعة وحياة فيما مضى، وربطها باللحظة الراهنة لحظة الغربة والارتحال الزمكاني بالشيخوخة والهرم وتلاشي اللحظات الجمالية الحميمية التي كانت تبث الحياة في عروقه الوجودية،ومشاهده الحيوية الخضراء.
واللافت أن شعرية المشاهد الشعرية المتحولة جمالياً- في قصائد(ما تأخر من القول) متنوعة تبعاً لحراك الرؤى الشعرية وكثافة المشاهد والصور المتحولة جمالياً بإيقاعها الترسيمي الاغترابي ، ومشاهدها المتوترة درامياً، كما في قوله:
«وهي عجوزٌ عجفاءٌ.. تكحلُ عينيها
وتلوِّنُ خديها وأظافرها والشفتينْ
مثل صبيةٍ
تبادلنا القولَ..
ذكرتُ لها اسمك..
قالتْ:
كانْ»(12).
هنا، يجسد الصور المشهدية المتحركة التي تقرب الحدث والمشهد الشعري من واقعه وحيزه الوجودي الدقيق،إذ يرسم اللوحة الشعرية لصورة المرأة ، وكأنها تحدث في اللحظة الآنية، وهذا الاستقطاب الترسيمي الدقيق دليل قدرته على ربط السرد الشعري باتلمش وهذا الاستقطاب الترسيمي الدقيق دليل قدرته على ربط السرد الشعري بالترسيم المشهدي، كما في قوله:[ تلون خديها وأظافرها والشفتينْ/ مثل صبيةٍ / تبادلنا القول…]؛ وهكذا، تتأسس شعرية المشاهد المتحولة جمالياً من خلال تفاعل الرؤى والدلالات الاغترابية التي تثير المشهد الشعري، وترتقي به جمالياً.
وصفوة القول إن -شعرية المشاهد الشعرية المتحولة جمالياً – في قصائد ( ما تأخر من القول) لحميد سعيد – تتأسس على مثيرات الحدث الشعري، وتفاعل المشاهد والرؤى الاغترابية التي تجمع الأحداث واللقطات بين زمكانية الحدث الماضوي وطزاجة اللحظة الواقعية بمؤشراتها ورؤاها النصية.

الحواشي:

(1)ترمانيني ،خلود،2004- الإيقاع اللغوي في الشعر العربي الحديث، أطروحة دكتوراه، مخطوطة جامعة حلب، ص34.
(2) اليوسفي،محمد لطفي،1985- تجليات في بنية الشعر العربي المعاصر،سراس للنشر، تونس، ص24.
(3)ويليك ، رينيه،1987- مفاهيم نقدية، تر: محمد عصفور، سل : عالم المعرفة، الكويت، ع1، ص478.
(4)سعيد ،حميد،2020- ما تأخر من القول،دار دجلة، عمان، ط1، ص73.
(5) المصدر نفسه، ص75.
(6) المصدر نفسه، ص79.
(7) المصدر نفسه، ص74.
(8)عصفور، جابر،1982- مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، دار التنوير للطباعة، بيروت،ط2، ص265.
(9)سعيد، حميد، 2020- ما تأخر من القول، ص41.
(10) المصدر نفسه، ص41.
(11) المصدر نفسه، ص9.
(12) المصدر نفسه، ص10.


الكاتب : إدريس علوش

  

بتاريخ : 25/08/2023