هذا حوار مع د. فتحي بن سلامة، عضو المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون (بيت الحكمة)، والمحلّل النفسي وأستاذ علم النفس في جامعة باريس ديدرو. وهو صاحب عدد من الكتب الهامّة، منها «الإسلام في ضوء التحليل النفسي» و«حرب الذوات في الإسلام» .وقد أشرف مؤخّراً على تحرير كتاب «المثالي والقسوة. الذاتية وسياسة الأصلنة».
أجرت الحوار ماري لومونييه. وصدر بصحيفة Le Nouvel Observateur الفرنسيّة في عددها من 5 إلى 11 ماي 2016.
n مثلما يتمّ الحديث منذ فرويد عن “الأنا الأعلى” للإنسان، فأنت تتحدّث عن «المسلم الأعلى» للإشارة إلى ميل بعض المسلمين إلى شكل من أشكال المزايدة الدينيّة، لكنّه يعمل في أساس العالم الإسلامي بمجمله. كيف توصّلت إلى بلورة هذا المفهوم؟
pp بدأ طيف المسلم الأعلى يراودني طوال الخمسة عشر عاماً من النشاط السريري في مقاطعة السين- سان دوني (Seine-Saint-Denis) شمال شرق باريس. فقد لاحظتُ من خلال عياداتي كيف بدأ بعض المسلمين ممّن عاشوا إلى ذلك الوقت علاقتهم بالإسلام بطريقة هادئة وتقليديّة، يغرقون في عذابات لا تنتهي، وباتوا يعتقدون بأنّهم ليسوا “مسلمين كما ينبغي”، بل ويشعرون بأنّهم في حالة ارتداد عن دينهم. لقد كان يهزّهم شعور عميق بالذّنب وبالرّغبة في استعادة كرامة مفقودة، وأنّ عليهم واجب أن يكونوا “أكثر إسلاماً” ممّا هم عليه، بتشرّبهم الوصم والمطالبة بعدالة هوويّة. لقد كنّا نتحدّث حينها عن «الأصوليّة». وعندما درستُ عن كثب خطاب التيّار الإسلاموي ونشأته، برز نمط «المثل الإسلامي الجريح» كمكان للدعوة إلى الإصلاح، إن لم يكن للانتقام، من خلال الدين. هذا اللقاء بين السريري والاجتماعي هو ما جعلني أمام المسلم الأعلى كصورة يمكن أن تُوجد في شكل توجّه ويمكن أن تتّخذ تجسّدات مختلفة، وتتمثّل في السعي إلى أن يكون المرء أكثر إسلاماً ممّا هو عليه والتخلّص من إحساس بالعار من خلال حماس ديني مفرط.
n كيف ولدّت الإسلامويّة تاريخيّاً هذه الصورة؟
pp العالم الإسلامي في حالة حرب منذ أكثر من قرن. لقد خضع لحملات عسكريّة وعاش في جميع أرجائه حربا أهليّة مقنّعة أو معلنة. وقد ولّدت حالة الحرب الدائمة هذه ما نراه اليوم: مجتمعات منكسرة، وفي بعض الحالات مدّمرة ذاتيّاً. ولكن «المشهد البدائي للإسلامويّة» يعود إلى حملة نابليون على مصر وصدمة اللقاء العنيف مع القوّة الغربيّة. وستولّد هذه الصدمة المؤلمة حرباً داخل الإسلام بين أنصار التنوير ومن رأوا فيها تدميراً لحضارتهم. وإذا ما كانت بعض النخب ستسعى إلى تبنّي الاختراع السياسي الأوروبي في التمييز بين السلطات واعتباره متلائماً مع الإسلام المتصّور كإيمان وأخلاق- وهو ما سيولّد حركة الإصلاح (النهضة) الكبيرة في القرن التاسع عشر -، فقد كانت ردّة فعل عدد من الآخرين الرفض ومعاداة حركة التنوير. وقد كانت اللحظة الحاسمة لولادة الإسلامويّة مع انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة في عام 1924 التي عاشها البعض بوصفها انهياراً للمثل الإسلامي. ومن هنا تولّد شعور بالخيانة والذلّ، شبيه إلى حدّ ما بما أحسّت به ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالميّة الأولى. واعتباراً من عام 1928، ستظهر الإسلامويّة في بنيتها الأوليّة من خلال جماعة الإخوان المسلمين التي ستعتمد معارضة الغرب بوصفه مخترع السياسي، أي الحياة المشتركة دون تدخّل من الله، وذلك من خلال العودة إلى الدين بوصفه الحلّ لجميع المشاكل (شعار الإخوان: الإسلام هو الحلّ). من هنا تولّدت إرادة التوجّه نحو «المسلم الأعلى». وبالتالي، كانت الإسلامويّة منذ البداية طوبى مضادّة للسياسي. وفي هذا الصدد، أجد أنّ تعريف الإسلامويّة بأنّها «إسلام سياسي» كان بمثابة حاجز نحو فهم حقيقي للهدف الأساسي المتمثّل في إنتاج قوّة فوق دينيّة تُعيد الارتباط بالمقدّس الأرخي (archaïque) والإنفاق الأضحوي (dépense sacrificielle). وهذه تصوّرات باتت ذكرى قوّتها الخارقة نسيّاً منسيّاً في أوروبّا … وبطبيعة الحال، فإنّ الأصوليّة لا تقتصر على العالم الإسلامي. فقد أظهر أوليفييه روا (Olivier Roy) ومارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) أنّ الإسلام الراديكالي هو مظهر من مظاهر التطرّف المنتشر في عديد كبير من الأديان في العالم، نتيجة ما قامت به الحداثة من تدمير للبنى التقليديّة. ولعلّ ما ميّز الإسلام في هذا الخصوص، يتمثّل في أنّ قسماً من أصوليّته كان، بسبب الحروب، مسلّحاً.
n كما راهنت الإسلامويّة كذلك بصفة كبيرة على فكرة أنّ نهاية إمبراطوريّة الخلافة كانت تعني انفصام علاقة المسلم بـ «الأمّة» التي يُنظر إليها على أنّها «أمّ حاضنة» (matrie) تلاشت وينبغي استعادتها، وهو ما يمثّل اليوم موضوعاً على غاية من الأهميّة ومصدر قلق بالغ من وجهة نظر الهويّة الإسلاميّة.
pp هذا هو التضليل الكبير الذي تعتمده الإسلامويّة في تغذية الوهم بأنّ الجماعة الدينيّة لا بدّ أن تتطابق مع امبراطوريّة. ذلك أنّ الأمّة في نظر المسلمين، هي الجماعة الروحيّة، وقد شهد تاريخ العالم الإسلامي تطابق الأمّة في الواقع مع إمبراطوريّة، ولكنّ هذه الأخيرة انهارت، وأضحت إعادة بنائها أمراً مستحيلاً.
على المسلمين التخلّي عن هذه الفكرة. لقد وُجدت إمبراطوريّات، إمبراطوريّة رومانيّة، وإمبراطوريّة فرنسيّة، وإمبراطوريّة انكليزيّة قيل أنّ الشمس لا تغرب عنها… لقد انتهت الإمبراطوريّة، وهذا لم يمنع أن يكون للإنكليز حضارة كبيرة. لقد انفصم الارتباط بين الإمبراطوريّة الرومانيّة والمسيحيّة، لكنّ المسيحيّة استمرّت في الوجود. فرنسا أيضاً تُعاني معاناة كبيرة من أجل تجاوز ماضيها الإمبراطوري الذي يلاحقها كشبح. كلّ يوم يطلع علينا أحد السياسيّين ويقول «ينبغي أن تستعيد فرنسا عظمتها». إلاّ أنّ فرنسا لا تحتاج من أجل ذلك إلى أن تكون إمبراطوريّة. فالحضارة الفرنسيّة موجودة، وهي جليّة أمام عيوننا، وعظيمة بحقّ في ذاتها، بثقافتها، ورقيّها… على المسلمين إذن التخلّي بدورهم عن وهم الإمبراطوريّة، والاعتراف بأنّ إمبراطوريّتهم قد هُزمت. ورُبّ هزيمة أشرف من انتصار، ورُبّ انتصار لا يعدو انتصار أوباش.
n ومع ذلك، نرى البعض يُفضلّ أن يموت من أجل “خلافة” مزعومة. لماذا يُضحي هذا النوع من الموت المتمثّل في تضحية الانتحاري بنفسه مرغوباً عند المراهق (تتراوح أعمار ثلثي الجهاديّين تحديداً بين 15 و 25 عاماً)، وخاصّة عند شباب غربي غير معنيّ مبدئيّاً بالمثل الإسلامي الجريح؟
pp الموت مرغوب أكثر بكثير ممّا نعتقد: تشهد فرنسا سنويّاً حوالي 200 ألف محاولة انتحار، ويموت بالفعل 10 آلاف شخص انتحاراً بالفعل، منهم 1.000 من الشباب. يُوجد اليوم عرض استشهاد موجّه إلى الشباب المسلمين يُبرّر ويُعزّز الرغبة في الموت دفاعاً عن قضيّة سامية. فالعرض إذن، هو ما يُحوّل محاولة انتحار بسبب اليأس، إلى عمل بطولي. نحن لا نزن الأمر كفاية بمصطلحات العرض والطلب، والحال أنّه تُوجد سوق للموت المرغوب، أو للتّضحية. الدعاة يتوجّهون إلى مراهقين منجذبين إلى السلبيّة، لأنّهم يعيشون تلك المرحلة المعقّدة من تحوّل الذات والنأي عن المثاليّة، وهي مرحلة يعجزون فيها عن مواصلة العيش في العالم الإيجابي للطّفولة ويبحثون فيها عن انتماء من خلال إعادة صوغ ذواتهم. وهنا يتمّ التلويح لهم بأنّه يمكنهم من خلال التضحية، النفاذ إلى متعة مطلقة وبطوليّة، وإلى عالم أفضل في الآخرة.
n وهذا ما يُعطي معنى للموت.
pp بل هو يتجاوز ذلك، فيُعطي مستقبلاً للموت وللآخرة، ولعمري أنّ هذا هو أيضاً معنى الرجاء الديني. هؤلاء الشباب ليسوا «سُذّجاً» كما يقول البعض. يُوجد من بينهم سذّج بالطّبع، ولكن الرغبة في الموت موجودة وغير سخيفة، ولا بدّ أن تُؤخذ على محمل الجدّ.