وكالات
تحتل الكتب ذات المضمون السياسي، مكانة مهمة في المكتبات الدولية، ليس لأن السياسة هي المدخل الرئيس لدراسة التاريخ فقط، وإنما لأنها تقدم الصورة الحقيقية لأي مجتمع. ومع أن هذا النوع من الكتب يعرف ازدهارا مهما في الغرب بالنظر إلى تراكم التجارب الديمقراطية عندهم، فإنه في عالمنا العربي لا يزال مجالا محكوما بكثير من الخطوط الحمراء. وربما تسهم ثورات الربيع العربي التي أتت على أكثر من نظام عربي وأعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل في منطقتنا العربي في ازدهار مكتبتنا السياسية في العالم العربي.
الكاتب والباحث التونسي سليم حكيمي، اختار كتابا يخص واحدة من أهم الدول الأوروبية تأثيرا في منطقتنا العربية، وهي فرنسا، وتحديدا رئيسها الحالي إيمانويل ماكرون، الذي تحول إلى ظاهرة سياسية أسالت حبر الصحافة قبل علماء الاجتماع والسياسة.
في وصف «الماكرونية»
«ضدّ مَاكرون» كتاب صادر سنة 2019 لـ «جيون برويْكون» خريّج دار المعلمين العليا ودكتور القانون والمختص في العنف السياسي للجماعات ومستشار «جوليان أسَاناج» مؤسس «ويكليلكس». وفيه يبيّن المؤلف كيف تشكّلت طريقة ماكرون في الحكم منذ توليه السلطة، وهي طريقة بعيدة كل البعد عن المبادئ السياسة الفرنسية التي تريد بلاغة الوافد الجديد المُغالطة أن تبدو لصيقة بها. ولكن تجلى خطرها على الديمقراطية التي تجذّرت واستقرت نهجا سياسيا. لتبدأ نُذر السّقوط.
يقع المؤلّف في 133 صفحة، وينقسم الى مقدمة وتمهيد وفصول ثلاثة حوت العناوين التالية: الظّاهر، الرّمزي، واضع اليد المتشبث.
اُستهل الكتاب بوصف الماكرونية بانها «تنوّع فاشي جديد بامتياز، حيث يجب إيلاء الاهتمام إلى تغول كائناتها السياسية على مؤسسات الدولة الديمقراطية في لحظة الانتقال الديمقراطي الضروري الذي يحاول صانعو «ماكرون» قسرا تجنّبه». تلك هي أطروحة المؤلف الذي لم ير في وصول ماكرون إلى الحكم سوى خطر ماثل ماحق.
التمهيد
يذكر المؤلف لقاءه الأول بماكرون، الرّجل الطّارئ على السياسة، حين انتبه إلى دعِيّ ـ حسب رأيه ـ يتقدم إلى الناس في هيئة فيلسوف دون أن يكون قد كتب شيئا في حياته يستحق القراءة أو الذكر والنشر. فالرجل، وإلى حدود سنة 20 كان نكرة من عموم الناس. ولكنه فجأة وقع تعيينه وزيرا للاقتصاد في فرنسا دون وجود تفسيرات موضوعية توضح كيفية نيله هذا المنصب أو منصب الرئاسة فيما بعد. ولكنه جاء وقُدّم ليصطدم بالعصر الذي تغيّر فيه منطق الشعوب ومنطقة عفوها مع حكامها. فلم يعد هنالك صبر لها على الوجوه السياسية حال الإخفاق، ويمكن أن يندلع الرفض على الحاكم بعد برهة من حكمه وتطالب بإسقاطه وهي التي لم يمض زمن على انتخابها له.
وهذا هو ما يفسر ـ حسب المؤلف ـ وضع ماكرون غير الثابت والقابل للتقلّب إذ يقول ص (17) «هو رجل محمول على القمم الهشّة، حيث يقرّر واضعوه فقط قدرته على الفعل أو لجم الأمور أين تُرك في بحث محموم للسلطة وإثبات الذات الذي استحال إلى عاهة بحث فيها بالسرعة القصوى للتميّز وادعاء الوجود». وحين جاء إلى الحكم لوى ذراع النّظام الذي سارت عليه الدولة الفرنسية والمجتمع حتى كسَره. وهو ما يفسر ثبات الرفض على برامجه في التظاهرات التي عمّت فرنسا، والتي لا تترمّد إلا لكي تتجدّد وتنتهي بالمطالبة برحيله.
«السياسة تحافظ على علاقة مع ما هو الجمالي، وهذا يمرّ حتما بمفهوم الكرامة. وبعيدا عن الشعوذة الأخلاقية، فإن هذه العلاقة هي ما يفسّر رد فعل كل الجسم الاجتماعي ضده «ص (27). وعكس الرئيس جاك شيراك، الرئيس الذي تراجع وسحب قانونا وقع التصويت عليه حفاظا على السلم الأهلي، مثّل ماكرون طبقة أوليغارشية ورأس مال مادي رابح دوما، وله هو دون سواه من الطبقات تجسيد ما هو عصري ومنتصر، ثمرة للفردانية التي لا تثُمر ولا تستطيع أن تنشئ شعورا بالمشاركة. فالسلطوية والعنف ينبجسان من الفوارق التي لم نفكّر فيها بين الطبقات. ولينطلق ماكرون ـ حسب المؤلف ـ في عمى جماعي مع زمرته بعصبية أقلية الذين وجدوا فرصة للاغتناء بانتصاره الانتخابي. ولكن كل هذا الضعف السياسي الذي طرأ حين الأداء، وقع طمسه بعرض العنف العشوائي السلطوي والمسدد الذي يرفض التراجع. وهي خاصية الفاشيات التي تتحرك بغياب التفكير، مع اليقين بصحة ما تجترحه، والرفّض لكل تغيير. بينما تقابله في الضفّة الأخرى طبقة بقولها: فنحن بالرغم من ذلك من يدركون أنه في المشاركة والبحث عن العدالة تكمن السعادة التي لا تتوقف عن البحث عن مكنونها» ص (34)
الظاهر
بدا الرئيس ماكرون رئيسا مشتملا على طبقات من الخداع في شخصه. خداع يرمي إلى إخفاء خداع حقيقي آخر. به يغيب الوجود في شخصه، ولكنه صفة تتناغم بشكل تام في عيون من صاغوه على تلك الشّاكلة. فكل ظهوره وحركاته اشتغلت بطريقة قصوى بغاية التّناغم مع انتظارت العصر «تغذي مساحة قابلة للسّقوط لا يمكن أن يتعلّق بها شيء ولا يتنوع»(39). فهو في النهاية ليس إلا ثمرة الآخرين ونتيجتهم، ومنتجا مطابقا لعصره، ومن يرغبون في التهامه أو يستعملونه أداة للالتهام. وإخفاقه يعلن عن إخفاق طبقته وعدم قدرته على قول شيء شرعي. فهو ليس انعكاسا للوجود بل لمن قاموا بتكوينه ودفعه ليكون واجهة سياسية تخفي المحتوى الحقيقي للحكم. وهو على العكس تماما «من الرئيس شيراك الذي برز، رغم ضعفه السياسي وخوَره الخطر، مصمّما بمسار انتهى به بعد 40 سنة من السياسة إلى إرواء رغبته في السيادة، ولكن في قلب الاجتماع وفي رابط مع الشعب»ص(44). بينما وضع ماكرون علاقته بالجمهورية الفرنسية في صالح قدَره الشخصي. ابتدأ مخادعا وانتهى مزدريا للشعب والطبقات الضعيفة فانهال عليه الانتقاد وجرَت عليه الآفات. وانتهى الأمر بوضوح حكمه لأغمار الناس قبل أشرافهم مُعبّرا عن خطورة سياسة تم التعامل معها شيئا تافها غير ذي بال لا تتعلق بمصير الناس وخاصة الطبقات الضعيفة. فلم يكن ماكرون موضوعا واعيا بحاجة تدبير تشترطها الأمكنة السياسية، ولكن من نكد الفرنسيين أن تم اقتراح رئيس يهرب إلى الأمام في كل أزمة كديك مذبوح.
الرمزي
لا بد للسياسة أن تكون عملية، ولا معنى لها إن لم تكن إجرائية لتغيير واقع الناس. ولكن انتخاب ماكرون بدا كارثة انحرفت بالنصوص المؤهلة لحماية النظام الاجتماعي، بل التفكيك الرّجعي للانتخابات والسّلطة وتهديد المكتسبات الديمقراطية. جرى العرف السياسي أن كل السلطة في النظام الرئاسي الفرنسي، تُعطى رمزيا لشخص واحد عن طريق آلية الانتخاب، ليكون فيه الرئيس ممثلا لكل الجسم الانتخابي في مجمله، ولكنه ممثلا أيضا لكل ممالكه وأشيائه. فالانتخابات الرئاسية تمثل رمزية كبرى للفرنسيين، ولكن النّخب التي خاضت الانتخابات لفرض ماكرون كانت بعيدة عن أسس التّضحية السياسية التي قامت عليها. وعقدت جماعات ضغط عزمها مبكّرا على إيجاد رجل لاح في نظر المتابعين أنه ماكينة محكوم سلفا عليها بالإرهاق، بل لم يكن يعرِض على مواقع التواصل الاجتماعي سوى العدم كغيره من الذين يجنون الثروات. ولكنه في حقيقة الأمر واع بهشاشته، واتضح أنه سجين المستحيل الذي وضع فيه نفسه. ولتفسير المأزق، يتساءل المؤلف «كيف يمكن تفسير السّلطة وحدودها حينما تعني بطريقة حصرية استحواذية الاستجابة لانتظارات من صمّموها؟ ص (64)، لتعبر السلطة عن كائن وعد بكل شيء، وكان جاهزا لكل شيء، يلتهمه طموح دون محتوى ومؤهلات حقيقية لتحقيقه.
وينصح الكاتب القراء في النهاية معتبرا أنّه لا يجب إرهاق الرجل، فهو لا يمكن أن يكون إلاّ كذلك لا ينقص ولا يزيد، مُستغَلا من لوبيات المصالح في عرض سياسي فرجوي لم يعجب إلا المنتفعين وقوى الضغط العاتية، التي صارت حسب سبر آراء فرنسي أن 3/4 الفرنسيين يرون أن السّياسة في بلدهم يصوغها لوبي المصالح الماليّة والاقتصاديّة والشّركات الكبرى.
واضع اليد المتشبّث
هكذا كانت سنة 2017 التي لاحظ فيها أي مراقب خارجي في فرنسا وبطريقة مفارقة للمألوف السياسي، ظهور رجل، وخلافا لكل سابقيه بدا المجهول والذّائع الصيت في آن. رئيس تمّ الإلقاء به لاغتصاب كل عرف سياسي متجهّزا للاستيلاء فعليا على مجموع السلطات التي منحت من نسج الخيال لشخصه. «هذا الكائن الغريب الذي يُحيّر بداهة دون أن يستطيع الملاحظ الخارجي إدراك السبب بتمامه». ص (101). فهو حسب المؤلف ومنذ انتخابه يخلط بين المجالين الخاص والعام في حكمه ولا يقيم حدودا فاصلة بينهما. وكل ما فعله هو تجديد أجهزة الدولة لتكون قادرة على السّحق والخضوع لجسم فردي باحث عن التّقديس. يتمتع بكل مزايا الرئاسة ولا يعترف بحدّ من حدودها محاولا كل جهده للظهور بمظهر من يصل درجة الكمال في آدائه ويبين أنه لا توجد طريقة أفضل لما اختاره نهجا سلطويا.
والأصل في وجوده رئيسا للبلاد أن يواصل في المجتمع الفرنسي ترشيد تمشٍّ للاجتماع الإنساني يعزز إطارا واحدا أدنى مشتركا للعيش في مجتمع متعدد الثقافات والإثنيات ويسمح بالنقاش والمشاركة السياسية بالرغم من كل العوارض التي تواجه أي تشكل اجتماعي. فالانتخابات الفرنسية وظيفية لجعل الاندماج والاختلاف شيئا عاديا بين الأفراد والجماعات وصهره في بوتقة وطنية مشتركة رغم أصالة الاختلاف في طبيعتها.
خاتمة
كان كتاب «ضد ماكرون» أثرا تنبُئيا معلنا ثورة السّترات الصفر الحراك غير الجبهوي الذي يمثل رفضا مشتتا ولكنه جماعي. يفهم من خلاله القارئ الانحراف البوليسي والجاذب لنظام زمن تخلّقه أصلا فما بالك بلحظة حكمه، وكاشفا بتحليل عميق للغوائل التي نخرته وأدّت إلى انهياره. فليس الأمر متعلقا بالأداء في الحكم أو عدم خبرة به، بل بمقدمات الحكم أصلا التي انتهت بوصف الرجل بـ «الدّعي الصغير» فقط بعد ثمانية أشهر من حكمه لتلتهب الأرض تحت كرسي حكمه.
ومن هنا كان المؤلف لسان الدفاع لأبرز وجوه حراك السترات الصفر الذي انفجر بلا هوادة، مثابرا ضد نظام فرض المدن المُعولمة الطاردة للطبقة الوسطى منها وجعل أهلها شيعا على نواصي الحلم وأعتاب العيش، حاشية على متن المدينة والرفاه، وردّا على نظام حكم لم يعط الجِد حقه وَاحترف ازدراء الفقراء والمهمشين بدم بارد، فكان الرّد عليه ساخنا.