فسيفساء من وحي التراث في أعمال كاميليا الزرقاني

 

تفردت تجربة الفنانة كاميليا الزرقاني بأسلوب شخصي يختلف كل الاختلاف عن محاولاتها السابقة، كقفزة نوعية تمكنت من خلالها الوقوف على ملامح جمالية نابعة من إحساسها المرهف بكل ما يجول بمحيطها المعيشي، استنادا إلى مرجعية ثقافية مغربية أصيلة بكل مظاهرها الإبداعية الممتدة في الزمان والمكان جغرافيا وتاريخيا، مما شكل في ذاكرتها مشاهد التقطتها بعين متفحصة لكل التفاصيل الراسخة والعالقة في لاشعورها.
يقول الناقد د.أكرم قانصو في مقطع من كتابه الموسوم ب «التصوير الشعبي العربي» عن سلسلة «عالم المعرفة» عدد 203، سنة 1995 في فصله الثالث تحت عنوان «الرسام الشعبي وأهم مصادره الثقافية ما يلي: «الرسام الشعبي، أحد أفراد المجتمع، يعيش وسط الجماعة، يتأثر بهم، ويحمل ثقافتهم، ويمارس عاداتهم ومعتقداتهم. وهو بدوره يجسد في أعماله الفنية كل المفاهيم الاجتماعية والثقافية الشعبية. لذلك نرى أنه من الضروري أن نفهم دور الرسام قبل الدخول في عالم اللوحة الشعبية. ونفهم أيضا مستواه الثقافي وأهم وسائل نشر تلك الثقافة التي هي بدورها ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه الفنان.».
لذلك يمكن اعتبار تجربة الفنانة كاميليا، تصب في ملامح ما جاء في هذا الكتاب، فهي أولا جزء من المجتمع المغربي برؤية شخصية وبمرجعيات ذاتية استمدتها من واقعها وكيفية نشأتها في بلد محافظ يؤمن بالتقاليد والأعراف ويحافظ عليها، حيث استلهمت هذه الوضعية من قولة الفيلسوف (كارل ماركس) «من لا يعرف التاريخ محكوم عليه أن يعيشه من جديد»، وهي الآن تعيد التاريخ برؤية متجددة من خلال بحثها ومثابرتها للوقوف على ملامح هذا التاريخ لتقديمه للمتلقي بطريقة حداثية تبعث على التساؤل في خضم تاريخ الحركة التشكيلية المغربية، تقنيا وموضوعيا.
أما ثانيا، ولكي نقف على أهم ملامح هذه التجربة الجنينية، لا بد وأن ننفذ إلى أغوار تفاصيلها، لنستطيع الجمع بين شخصية الفنانة كميليا الزرقاني ومشروعها الفني برمته.
إن الثقافة الشعبية كانت ولاتزال مرتبطة بفكر جماعي تحكمه تقاليد وأعراف ممتدة من واقع ومحيط معين، بطريقة متوارثة متجلية في كل مناحي الحياة، تتطور وتتحول من جيل لآخر، لذلك كانت جميع أعمال الفنانة كاميليا الزرقاني تصب في هذا الاتجاه، لما راكمته في تجربتها الحياتية واستقته من محيطها المحافظ على كل ما ورثته من تكوينها وثقافتها المتجذرة تاريخيا، بأسلوب عفوي وعجائبي تقنيا وموضوعيا.
فكان لجل مظاهر الحياة حضور بالقوة والفعل، من خلال فسيفسائها الشكلية بمنحى عن السلطة الأكاديمية التي تحكم القوانين المنظمة للإبداع التشكيلي الكلاسيكي، مما أعطى لعملها فسحة وحرية في التعامل مع المكونات والعناصر المؤثثة لتجربتها وبعدا حداثيا لهذا المنجز التراثي.
إن الأشياء الجذابة تجدها في بساطتها، وهذا ما حاول التعبير عنه الفنان بابلو بيكاسو بقوله ما يلي: «لقد استغرق الأمر مني حياتي بأكملها لأعرف كيفية الرسم مثل الأطفال»، وهذا ما انطبق على تجربة الفنانة كميليا الزرقاني، لبساطة وعفوية بل وعذرية انتقاء مشاهدها، بنظام محدد تحكمت فيه عناصر رمزية مأخوذة مما تداولته وراكمته الحقب عبر تاريخ غني ناتج عن طبيعة الحياة اليومية للشعوب الإفريقية عامة والشعب المغربي على الخصوص، بما فيها الزخرفة بترنيماتها الهندسية وأيقوناتها الروحية كاليد أو (الخميسة) ثم (العين) بدلالاتهما الغيبية، معتمدة على عنصر العين بالتحديد، انطلاقا من مرجعية عقائدية فرعونية، كرمز وشعار فرعوني ذي خصائص تميمية، يستخدم للحماية من الحسد ومن الأرواح الشريرة ومن الحيوانات الضارة ومن المرض وهي على شكل قلادة يتزين بها الشخص، وتعبر عن القوة الملكية المستمدة من الآلهة حورس أو رع، وتعد رمزاً شمسياً، يجسد النظام والصرامة والوضع المثالي، وهذا ما يشبه في بعده الدلالي استعمال (الخميسة) في الثقافة الشعبية المغربية.
تعتبر الفنانة كميليا الزرقاني مؤرخة للوجه الحضاري المغربي الضارب في التاريخ، برؤية ذاتية خاصة، تتمثل في العادات والتقاليد والموسيقى والأفراح واللباس والطقوس.. من زاوية مسطحة لا تخضع لمنطق الأبعاد Dimensions المتداولة، بما فيها الأسلوب، والأشكال والألوان، حيث اعتمدت على تكوينات أفقية، بملون بني ساخن بتدرجاته الترابية، لتؤكد على أصالة انتمائها الروحي والديني والجسدي لطبيعة زمان ومكان مرور أسلافها.
لم تكن المرأة في تجربتها بمنحى عن صلب اهتماماتها، بل احتلت مكانة أساسية ضمن أسئلتها المحورية، باعتبارها امرأة أولا، ثم لإبراز قيمة ومكانة وقوة هذه المرأة في المجتمع المغربي ثانيا، باعتبارها عمود الأسرة بامتداداتها اللاشعورية في وجدان الشعوب وتوازناتها.

* تشكيلي/ باحث جمالي


الكاتب : شفيق الزكاري

  

بتاريخ : 11/01/2024