فضيحة «الرادرات الثابثة».. حكاية فساد عمرها 14 عاما

 القصة الكاملة لملف ظل يتدحرج على مكاتب 4 وزراء للنقل والتجهيز

 

صفقة الرادارات الثابتة التي فضحها أمس تقرير المجلس الأعلى للحسابات، لها حكاية طويلة تتمطط منذ أزيد من 13 عاما، وتصلح مادة دسمة لرواية عنوانها «مسلسل الفساد والعبث في الصفقات العمومية بوزارة النقل والتجهيز».
انطلقت أطوار هذا المسلسل سنة 2009 على عهد الوزير الاستقلالي السابق كريم غلاب، الذي وقع حينها بالموافقة على مشروع طموح يقضي بتجهيز الشبكة الطرقية للمملكة برادارات للمراقبة بغية الحد من كوارث حرب الطرق التي كان المغرب يحطم فيها أرقاما مفزعة قدرت خسائرها حينئذ بأزيد من 11 مليار درهم سنويا. ونظرا لأسباب بيروقراطية وتقنية، فإن التأشير على الصفقة بشكل فعلي من طرف الوزير كريم غلاب لاطلاق طلبات العروض، لم يتم إلا في آخر الولاية الحكومية، وبالضبط في منتصف شتنبر 2011.
وفي سنة 2012، وبعد مجيء البيجيدي على رأس الوزارة في شخص الوزير عزيز الرباح، تم تعطيل الصفقة و إعادة صياغتها من جديد. وكانت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» حينها سباقة إلى تسريب تفاصيل إلغاء صفقة غلاب و تعويضها بصفقة الرباح، حيث كشفت مصادر مطلعة من داخل وزارة التجهيز والنقل إن صفقة تفويت استغلال الرادارات الثابتة لمراقبة السرعة للخواص، والتي كان عزيز الرباح يحضر لإطلاقها، كانت في الأصل قد أطلقت على عهد الوزير السابق كريم غلاب، وقد فتحت أظرفتها في عز الحملة الانتخابية، غير أنه تم طمس آثارها ولم تستكمل باقي إجراءاتها بعد تدخل الاستخبارات العامة على الخط.
وعزت مصادرنا هذا التدخل إلى تقرير استخباراتي حذر من خطورة تفويت شأن أمني لشركة خاصة سيصبح بإمكانها الولوج إلى قاعدة البيانات الخاصة بنظام ترقيم السيارات، بما فيها سيارات الأمن وسيارات الجيش وكبار الشخصيات، كما أن الشركة المحتمل فوزها بالصفقة، مثلها مثل شركات الصابو، لن تفرق بين سيارة مسؤول أمني أو سيارة شخصية مهما علا شأنها.. على خلاف ما يتم اعتماده حاليا داخل المركز الوطني لمعالجة مخالفات الرادارات، حيث يتوفر التقنيون على لوائح استثناء تضم جميع السيارات والعربات غير القابلة للمساءلة.
وبسبب هذا التقرير تم إقبار الصفقة الأولى، رغم خروجها الى حيز الوجود. لتأتي بعدها محاولة الرباح هذه المرة في تمرير صفقة مماثلة ويتعلق الأمر بتفويت عملية تركيب واستغلال الرادارات الثابتة الخاصة بمراقبة السرعة، لشركة خاصة ستتولى استغلال 960 رادارا متطورا لمراقبة السرعة على طول شبكة الطرق الوطنية، كما ستتولى الشركة وضع 120 جهاز مراقبة مزود بكاميرات لضبط السائقين الذين لا يحترمون إشارات الضوء الاحمر عند ملتقيات الطرق بالمدارات الحضرية، بالإضافة إلى 10 رادارات لمراقبة متوسط السرعة داخل المدن. غير أن جزءا كبيرا من هذه الأرقام ظل حبرا على ورق، وتم الالتفاف على الموضوع عبر صفقات صغيرة وهامشية أقبرت هذا الملف للمرة الثانية على التوالي. خصوصا بعد مجيء الوزير نجيب بوليف في 10 أكتوبر 2013.
وفي سنة 2019 ، وفي آخر ولاية نجيب بوليف، كشفت وزارة التجهيز والنقل واللوجستيك والماء عن تفاصيل جديدة بخصوص الرادارات الألمانية الجديدة التي قيل إنها ستراقب المخالفين لقانون السير على طرقات المملكة، مؤكدة أنها تتوفر على ميزات خاصة، منها إمكانية رصد أكثر من عربة مخالفة في آن واحد. حينها أكدت وزارة بوليف أن ائتلافاً مكوناً من ثلاث شركات حاز صفقة تثبيت وصيانة 552 جهازاً للمراقبة والمعاينة الآلية لمخالفات قانون السير في إطار تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للسلامة الطرقية، التي ترمي إلى خفض عدد قتلى حوادث السير بـ50 في المائة في أفق 2026.
وفعلا لجأت الوزارة لاقتناء رادارات ألمانية متطورة، وكانت الصفقة تقضي بتثبيت 276 جهازاً لمراقبة السرعة خارج التجمعات السكنية، و204 أجهزة لمراقبة احترام إشارة الضوء الأحمر والسرعة داخل التجمعات السكنية، و72 جهازاً لمراقبة السرعة المتوسطة على مستوى الطرق السيارة. غير أنه بعد الإعلان عن صفقة الشراء، تعطل الأمر سنتين من أجل أن يقتنع الوزير الإسلامي الجديد عبد القادر اعمارة بجدوى المشروع.
وفي بداية 2021 أعلنت وزارة النقل والتجهيز التي كان يرأسها حينئذ عبد القادر عمارة عن تركيب 552 جهاز رادار متطور، ضمن مشروع المعدات الخاصة برادارات الطرق، الذي أطلقه الوزير الإستقلالي كريم غلاب عام 2009، ثم أوقفه خلفاؤه، عن حزب المصباح، عبد العزيز رباح ونجيب بوليف، قبل أن يتم تنفيذه من طرف عبد القادر عمارة. وكانت الصفقة المحينة من طرف اعمارة تقضي بأن تكون 90% من هذه المعدات الجديدة، من الرادارات الذكية، حيث تتضمن الأجهزة التي تم تركيبها في المناطق الحضرية بمجموع 552 جهاز رادار، ضمنها 480 وحدة لمعاقبة السرعة ومخالفات الضوء الأحمر … يضاف إليها 72 وحدة أخرى على أجزاء من الطرق الرئيسية.
‎واليوم، وبعد هذا المسلسل الطويل من الإخفاقات، جاء تقرير المجلس الأعلى للحسابات ليفضح التخبط الخطير الذي اكتنف هذا الملف، مؤكدا أن عملية اقتناء وتركيب الرادارات الثابتة شابها تأخر في أشغال تركيب الرادارات الجديدة، بحيث وبعد انصرام ثلاث سنوات من تاريخ المصادقة على الصفقات المخصصة لاقتناء 552 رادارا ثابتا، لم يتجاوز معدل الرادارات التي تم تركيبها 12% من مجموع العتاد، مقابل 29 % من الرادارات في طور التركيب و 59 % لم يتم الشروع في تركيبها بعد. وتجذر الإشارة إلى عدم تحديد الصفقات المبرمة لجميع مواقع تركيب الرادارات، وهو ما نتجت عنه عدة معيقات إدارية وتقنية ومالية، تتعلق على وجه الخصوص بصعوبة الحصول على الرخص الإدارية وربط الرادارات بالكهرباء والأنترنيت. ;من أجل ذلك، أوصى المجلس بتسريع وتيرة عملية تركيب وتشغيل الرا دارات المقتناة، وتحسين مسطرة تحديد الحاجيات والتخطيط لاقتناء الرادارات الثابتة، وتحديد مواقع تركيبها قبل الإعلان عن طلبات العروض المتعلقة باقتنائها.
الفضيحة الكبرى في هذه الصفقة، لا تكمن فقط في طول زمنها القياسي ( 14 عاما) بل في نجاعة الصفقة برمتها، حيث تبين بعد الاستعمال، ضعف نجاعة نظام مراقبة ومعالجة المخالفات الملتقطة بواسطة الرادارات الثابتة، حيث نتج عن معالجة المخالفات الملتقطة بواسطة هذه الرادارات قبول 8,52 مليون مخالفة وإلغاء 6,69 مليون منها، وهو ما يعادل نسبة إلغاء تجاوزت 39 %. كما أن التعرف على أرقام تسجيل المركبات المخالفة يعرف صعوبات تتعلق بتحديد هوية مالكي هذه المركبات.
وفي نفس السياق، يتم تحرير محاضر المخالفات المرتكبة من طرف المركبات المسجلة بالخارج دون إشعار المخالفين المعنيين، بسبب صعو بة تحديد هوية مالكي هذه المركبات. كما لا تتوفر الوكالة الوطنية للسلامة الطرقية على منصة مشتركة مع الشركة الوطنية للنقل واللوجستيك من أجل مدها بالمعطيات اللازمة لتحديد مستعملي سيارات الدولة المرتكبة للمخالفات.


الكاتب : عماد عادل

  

بتاريخ : 09/03/2023