الحسن الثاني أهداني معطفه وبزاف لكساوي
وعيشي يابلادي أعادتني إلى القصر
هناك أحداث كثيرة ومواقف متعددة ،وذكريات تراكمت على مر السنين، منها ما تآكل مع مرور الزمن، ومنها ما استوطن في المنطقة الضبابية من الذاكرة، لكن تبقى هناك ذكريات ومواقف وصور ،عصية على الاندثار والمحو ،لأنها بكا بساطة ،كان لها في حينه ،وقع في النفس البشرية، ليمتد هذا الوقع إلى القادم من الأيام من حياة الإنسان.
في هذه الرحلة، ننبش في ذاكرة كوكبة من الفنانين ،حيث منحتهم إبداعاتهم ، تذكرة الدخول إلى قلوب الناس بدون استئذان، وهي إبداعات فنية ، استحقت كل التقدير والاحترام والتنويه داخل المغرب وخارجه، كما استحق أصحابها الاحتفاء بهم ، ويجدوا أنفسهم وجها لوجه مع ملك البلاد.
هنا نستحضر، ونسترجع بعضا من ذكريات هؤلاء الفنانين المبدعين مع ملوك المغرب ، بعدما صنعوا أسماءهم بالجد والاجتهاد والعطاءات الثرية كما وكيفا، واستطاعوا فرضها في ساحة تعج بالنجوم .
بالنسبة للفنان القدير محمود الإدريسي تبقى أغنية «عيشي يابلادي «فاتحة خير في مشواره الفني لأنها فتحت له «من جديد» أبواب القصر الملكي على مصراعيه .
هذه الأغنية التي هي من كلمات الأستاذ علي الحداني وألحان محمد بنعبدالسلام، يقول الصوت الذهبي كما كان يلقب، رأت النور سنة 1973 وبالضبط بمناسبة عيد العرش الذي كان يصادف الثالث من شهر مارس من كل سنة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، قبل هذا التاريخ، الذي سيبقى خالدا في ذاكرة محمود الإدريسي، يقول، كنت بمعية العديد من الفنانين في ضيافة الملك الراحل الحسن الثاني، وقد أديت أغنية أمام جلالته ، حين انتهيت كان جلالته يتحدث معي، لكنني تحت رهبة المشهد والموقف والدهشة بصدق كنت «مرفوعا «ولم أنتبه وأنا أتحدث مع الملك أنني أضع يدي في جيبي، هذا السلوك لم يستسغه جلالته، فغضب مني وخاطب البعض قائلا «علمو الناس الاحترام والانضباط ملي تدخل هنا «، وهي القصة التي استغلها بعض الفنانين، واعتبروها مناسبة للتخلص مني وإلى الأبد وظنوا أنها المرة الأخيرة لي في «دار المخزن «، المهم، يتذكر محمود الإدريسي، كانت أسوأ فترة عشتها في حياتي، وعدت إلى حال سبيلي بصحبة الملحن محمد بنعبدالسلام في سيارته، وقد لاحظ انزعاجي وغضبي وإحباطي، فخاطبني قائلا ،»المهم علينا أن نهيئ أغنية وطنية بمناسية عيد الشباب الذي يصادف 7يوليوز،علينا أن نشتغل على أغنية «عظيمة «ستجعل «سيدنا «ينتيه إلينا ويدعونا إلى القصر…»، أقسم بالله هكذا خاطبني الملحن محمد بنعبدالسلام، يقول الإدريسي، لكنني لم آخذ كلامه على محمل الجد، ولم نهيئ أي عمل فني بهذه المناسبة، لأني اعتبرت الأمر منتهيا منذ تلك الحادثة التى وقعت معي في القصرالملكي، خاصة وأنه يستحيل أن يتم تسجيل أي أغنية صحبة الجوق الملكي، لأن الكل كان يعتقد أن جلالة الملك الراحل الحسن الثاني قد غضب مني وعلي، وبالتالي كأنني مطرود.
وحدث ذات يوم أن كنت برفقة الملحن محمد بنعبد السلام بالرباط، فالتقينا بمحافظ الجوق الوطني في الساعة العاشرة صباحا تقريبا، فسأل المحافظ الملحن بنعبدالسلام إن كان لديه أغنية بمناسبة عيد الشباب، فرد عليه بسرعة ومن غير تردد، نعم «موجودة « فضرب معنا موعدا في السادسة من مساء نفس اليوم، اندهشت لموقف محمد بنعبدالسلام ،وسألته بعد أن غادر المحافظ ،»فين هاد الأغنية « فرد علي، «اليوم إن شاء الله سنهيئها،عليك بمسايرتي فقط…»، فعلا اتجهنا نحو مقهى «باليما «نبحث عن الشاعر علي الحداني، حيث كانت عادته أن يحتسي قهوة سوداء و»والماس «، فعلا وجدناه هناك، وسأله بنعبدالسلام إن كانت لديه قطعة غنائيةبالمناسبة، فأجابه الحداني،»هناك قطعة غنائية من خمسة أبيات ولم تكتمل بعد» ، فكان رد فعل بنعبدالسلام، «هذا يكفي»، وطلب منه مدنا بها، لكنه أعتذر لأنها في منزله، وكانت عادة علي الحداني، رحمه الله، أنه يخلد للنوم مباشرة بعد تناول وجبة الغداء، لكننا اتفقنا في الأخير أن يلتحق بنا بمسرح محمد الخامس بالرباط في الساعة الرابعة بعد الزوال، وبالفعل ، يضيف الفنان القدير محمود الإدريسي ،تسلمنا هذه القطعة الغنائية، وانزويت والملحن الذي كان مصحوبا بآلة عود في إحدى القاعات، وخاطبني أنه ليست لدينا آلة تسجيل، وبالتالي علينا أن نحفظ أي مقطع تم تلحينه، واقترح أن يكون الموال الذي يسبق الأغنية على الطريقة الرحبانية، وقد أضفت بعض الأشياء من عندي فأعجب بها الملحن محمد بنعبدالسلام، المهم، يضيف محمود الإدريسي، انتهينا من اللحن والحفظ وتوجهنا مباشرة من مسرح محمد الخامس بالرباط بعد أن اكتملت هذه القطعة في الساعة السادسة إلا ربعا مساء، بالفعل كنا في الموعد كما حددناه مع محافظ الجوق الوطني، وبدأت التمرينات، بدأنا بالموال وقد تم حفظه من طرف الكورال، وكلما أعدنا التمرين، تترسخ الأغنية في ذاكرتي القوية، في صباح اليوم الموالي تمرنا من جديد لنسجلها في المساء. وقد تفاجأنا برد فعل المغاربة الإيجابي عند سماعهم لهذه الأغنية، ويضيف الإدريسي، أنه حينما سجلت كانت تحظى بدعاية كبيرة في الإذاعة الوطنية، كانت تقدم بـ»عيشي يا بلادي» للصوت الذهبي محمد الإدريسي، وأنا الذي كنت ما أزال في بداياتي، وكنا نقوم بجولة غنائية في المغرب كله، وحكى لي الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، أن جلالته كان يسمع هذه الأغنية في الراديو، وكان دائما يحاول تسجيلها ظنا أن الأغنية ستذاع كلها، وإذا الأمر كان مجرد إعلان في إطار هذه الجولة.وحينما وصلنا إلى مدينة وجدة، أراد الملك الراحل أن يستمع إليها كاملة، مما اضطرنا إلى إيقاف الجولة والعودة إلى الرباط، حيث أديتها أمام جلالته وأهداني معطفه، ومن ثمة أصبحت معتمدا في القصر الملكي مع الجوق الملكي، وفي كل جولة نغني «عيشي يا بلادي»، وهي من الأغاني العزيزة على قلبي بشكل لا يتصور، وقال لي رحمه الله، هكذا كانت أغنية عبد الوهاب الدكالي محببة لي «يا حبيب الجماهير « وهي من الأغاني الوطنية التي أفتخر بها، والآن هناك أغنية «عيشي يا بلادي» التي أفتخر بها ولا يمكن ألا تتغنى في كل مناسبة، ويتم الافتتاح بها، بل إن جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله كان دائما يقول لي «غني لي أغنيتي «د”في إشارة إلى أغنية»عيشي يابلادي «.