في أربعينية الفقيد نظمتها المندوبية السامية للمقاومين شهادات لقيادات من مختلف الأجيال والمواقع في حق الراحل عبد الرحمان اليوسفي

قال إدريس لشكر، الكاتب الأوّل لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية: « إنّ عبد الرحمان اليوسفي أحد الرجال البررة لهذا الوطن، وهو رجل رمز، رمز صنعه المغاربة في تعاملهم مع مساره طيلة ثلاثة أجيال، منهم من يرى فيه امتدادا للرعيل الأول من الحركة الوطنية، ومنهم من اتخذ منه منارا لنشأة الحركة النقابية الناشئة في الأحياء الصناعية البيضاوية، ومنهم من يلامس فيه مبدع ذكرى ثورة الملك والشّعب، ومنهم من عاشره كمؤسس فريق رياضي، ومنهم من يتذكّره صحافيا مبكرا في زمن القيود والمضايقات على حرية التعبير والرأي، ومنهم من يرى فيه الرجل الشجاع الذي صيغت خلال ولايته كوزير أوّل الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية التي ستشكّل قفزة نوعية في تغيير وضعية النساء المغربيات عبر مدونة الأسرة الجديدة، ومنهم من يتأمّل في حدث عيادة الملِكَين له وهو قيدَ الاستشفاء».
وأضاف الكاتب الأول في شهادته عن الفقيد اليوسفي، في لقاء نظمته المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، وبثّته جريدة «هسبريس الإلكترونية «، بمناسبة الذكرى الأربعينية لوفاة سياسي ومحام وحقوقي ومقاوِم من أبرز رموز المغرب الحديث والمعاصر، اليوسفي المنحدر من الوسط الشعبي الذي شكل نموذجا للشباب المتعطش للعلم، والذي أدرك مبكّرا أنّ التمكّن من المعرفة ليس رافعة اجتماعية، بل سلاحٌ للصراع مع المستعمر ندا لند، شأنه في ذلك شأن المهدي بنبركة، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد اللطيف بنجلون، وغيرهم من الشباب الوطني، وهؤلاء هم الذين كانوا يواجهون المستعمِرَ بمرجعيّته، مرجعية عصورِ التنوير والإعلان العالمي لحقوق الإنسان».
وساهم يقول لشكر في « تأسيس الاتحاد، ودعم الاتجاه اليساري داخله، الذي قاده الشهيد المهدي بنبركة ، حيث كانت الحداثة عنده من حيث الشكل تنتظم من خلال القوانين والمساطِر، وهو ما يعني أنّه ليس رجل التّوافقات، بقدر ما هو حريص على احترام القوانين المعمول بها في الدول الحديثة، ومن حيث المضمون، تبدأ (الحداثة) عنده بإقرار المساواة بين النساء والرجال، واحترام الرأي، وضمان الحقّ في الاختلاف، وضمان التعدّديّة السياسية والثقافية والفكرية».
و أنّ عبد الرحمان اليوسفي كان رجل دولة وليس رجل الدّولة، وزاد شارحا أن صفته ليست وظيفة، بل هي نتاج سلوك لا يَتغيَّرُ بتغَيُّر السياقات، تحكمه مبادئ واضحة للعيان، يتقدّمها احترام الأمة، والابتعاد عن أيّ تعال بحكم الوظيفة والموقع، وبرز رجلَ دولة عندما حشد العزائم، وشكّل حكومة التناوب التوافقي، وهزم الأنانيات بمشاركته في الانتقال السّلس للعرش».
وتطرق الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوّات الشعبية إلى البعد المغاربي في شخصية الراحل اليوسفي، البادي بجلاء عند إعداد المؤتمر المغاربي بطنجة سنة 1958، الذي أبان فيه عن قناعة راسخة حول الضرورة التاريخية للإطار المغاربي، المُنبَنية على وحدة التاريخ، التي كانت دوما نسيجا اجتماعيا وثقافيا متّصلا، دون أن يكون الاعتبار الاقتصادي هاجسا للسّعي وراء بناء الإطار المغاربيّ الموحَّد، والحال أن التجمعات الاقتصادية وقتها كانت في المهد، لذلك حرص أن يتضمّن بيان المؤتمر مبدأ تأسيس اتحاد فدرالي بين الدول المشارِكة في المؤتمر.
وأضاف لشكر قائلا: «ظلّت مبادرات اليوسفي ومواقفه مشدودة لهذا الأفق إلى درجة يظهر فيها أنّ الإطار المغاربيّ هو كيانه السياسي الطبيعي، وأنّ الحدود وهمِيّة، ودافع بعد شهور من ذلك عن أنّ خيرات المنطقة المغاربية خيرات مشترَكَة»، وأردف بأن الراحل «ظلّ مؤمنا بهذا التوجّه إلى آخر أيّام حياته، حين وجَّه نداء وَجْدَة للوحدة المغاربية والتوافق المغربي الجزائري في 7 دجنبر 2018». كما استعاد المتحدّث بهجة وحماس ومساندة اليوسفي «لليد التي مدّها الملك محمد السادس إلى الجارة الجزائر في خطاب الذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء، في 6 نونبر 2018».
ومن بين أوجه شخصية اليوسفي، وفق لشكر، بعده العربي؛ فقد كان متشبّعا بالبعد القوميّ، الذي كان يتمثّل عنده في بعده، كأبناء جيله، في السلفية التقدمية بوصفها حركة تجديدية، مع تأثره بالفكر التحديثي الذي أسّسه شكيب أرسلان، والذي وجد صداه في شمال المغرب بشكل قوي، عبر الجمع بين المطالبة بالاستقلال وتشييد الدولة الحديثة الديمقراطية ، وهو ما جعل معه القومية العربية امتدادا للحركة القومية العمّالية والتقدمية.
و أنّ مؤسسي الاتحاد لم يكونوا من المستلَبين، بل كانوا يؤمنون بالإنسِيَّة العالمية التي لا تلغي الخصوصية، بل تخصِّبها بالفكر التنويري والعقلاني، وهو ما جعل اليوسفي مدافعا قويا في مجال القانون الدولي، وحقوق الإنسان، وحرية الصحافة، وتحرير الشعوب من الاستعمار والاستغلال.
وختم إدريس لشكر شهادته في حق المجاهد عبد الرحمان اليوسفي : « تقمّص الفقيد بذلة المجاهد الفلسطيني، ودفاعه عن عدالة القضية الفلسطينية، وتعدد مساعيه في توحيد الصف الفلسطيني، وحنكته في تدبير الاتحاد الاشتراكي، وقيادته لتحقيق انتصارات تشريعية وحكومية وبناء ثقافي، وما سيحفظه له التّاريخ مِن عناية بالمقاومة وجيش التحرير، والإنصاف والمصالحة، وتجديد الترسانة القانونية للبلاد بوضع مدونات حقوقية جديدة، في الأسرة والشغل والصحافة والمسطرة الجنائية والتغطية الصحية والحماية الاجتماعية، وتطوير إشعاع المغرب وتوسيع شبكة حلفائه، وتحويل معارضين للبلاد إلى مؤيدين، في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا».
من جهته قال مصطفى الكتيري، المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التّحرير، إنّ عبد الرحمن اليوسفي كان «رجل السياسة بالأخلاق ومع الأخلاق بامتياز»، فـ»لم تجرفه ملذّات الحياة وإغراءاتُها عن الإنصات لنبض الوطن والشعب»، وأضاف: «هو هرم عظيم من أهرامات هذا الوطن (…) بصم بأفكاره السابقة لجيله وزمانه، والمعروفة بالوسط والاعتدال، المشهد الوطني والسياسي منذ السنوات الأولى للاستقلال، إلى حين التحاقه بالرفيق الأعلى».
وزاد الكتيري: «كان اليوسفي من الوطنيين الأوائل، ومناضلي الساعة الأولى، ومن الماهدين للعمل الوطني منذ التحاقه سنة 1943 بمدينة الرباط للدراسة بثانوية مولاي يوسف حيث تعرّف على الشهيد المهدي بنبركة، وتمرّس على نشر الوعي الوطني وتنوير أبناء جيله»، ثم استرسل متحدّثا عن «نضاله الطويل من أجل استقلال المغرب وحريتِه، وكرامة شعبِه، ومشواره الذي كان فيه أحيانا طريدا، وأحيانا شريدا مُلاحَقا، وفي أحايين أخرى مقرَّبا عزيزا».
ووصف المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير مسار «فقيد الحركة الوطنية والمقاومة والتّحرير» بكونه «مسارا نضاليا غاية في التّفرّد والتميز، وكله صدق وإخلاص، وبذل وعطاء، وعزم وإقدام، وتضحية وإقدام»، دون أن يكون «مفروشا بالورود»، وهو ما جعله حاضرا في «مختلف المحطات المصيرية التي شكّلت مغرب اليوم إمّا مشاركا، أو منظّرا أو مؤطرا أو مساندا، حسبما اقتضته الظروف ووضعيته إزاء الوطن».
واستحضر الكتيري مجموعة من محطات التجربة النضالية والتعبوية والنقابية للفقيد اليوسفي، وإسهامه في إشاعة الفكر الوطني، وتحدّث عن انتقال الراحل إلى فرنسا سنة 1949 لاستكمال دراسته الجامعية، وانغمارِه في هذا البلد «بمعهود حماسه في تأطير الطّلبة والعُمّال مغاربة ومغاربيّين، وإنشائه شبكة علاقات مع صفوة من المناضلين المغاربة والمغاربيّين، قبل أن يقرّر العودة إلى مدينته طنجة الدولية».
وذكّر المتحدّث بأنّ عبد الرحمن اليوسفي «كان مزوِّدا بالسلاح وداعما للمقاومة المغربية»، وقال: «بعد الاستقلال وصل الجهاد الأصغر بالجهاد الأكبر من أجل المغرب الذي نريده، بحضوره من بين المؤسسين الأوائل للاتحاد الوطني للقوّات الشعبية، امتدادا لفورة النضال التي شهدها المغرب إبّان الفترة الاستعمارية (…) وتسييره جريدةَ المحرِّر مع الفقيه البصري وصفوة من المحررين، التي كانتْ قناتَه للدفاع عن مجموعة من الحريات العامة الفردية والجماعية، وعن حقوق الإنسان، والمطالبة بإرساء دولة الحقّ وسيادة القانون والبناء الديمقراطي».
وعرج الكتيري على الاهتمام الخاص الذي أولاه اليوسفي لمؤسسة قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير خلال الفترة التي كان فيها وزيرا أوّلَ، نظرا «لعطفه الخاص على أسرة المقاومة وجيش التحرير»، وهو ما بدى في «زيادته معاش حماة الوطن، وذوي حقوق الشهداء والمتوفين من أعضاء المقاومة وجيش التحرير»، وحضوره أوراش صيانة وإنعاش الذاكرة الوطنية، مع حضوره الشخصي عند «افتتاح مركز الوثائق التاريخية ذات الصلة بالذاكرة التاريخية الوطنية المشتركة مع بلدان شقيقة».
وتحدّث عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عن ما يزيد من نصف قرن من علاقته بعبد الرحمن اليوسفي، رأى خلالها فيه: «الرجل الشغوف بالتجديد والتّغيير والتّقدّم والحداثة»، الذي «كان رجل العصر، ورجل القرن الحادي والعشرين، المحارب لكل أنواع المحافَظَة، والذي كان ضدّ كل الأنظمة التقليدية السياسية، وضدّ كل استبداد، كما كان معروفا بدفاعه عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والعدالة بمفهومها العام، وحقوق الإنسان، وعن مساواة المواطنين أمام القانون، ومساواتهم في الحظوظ، وخاصة المساواة بين المرأة والرجل».
وأضاف القيادي الاتحادي أن «اليوسفي رجل مثقَّف، ومن المهم أن يكون السياسي ذا ثقافة واسعة، لأنه يكون (بذلك) مؤهلا للنجاح السياسي، كما أنّه رجل قانون لا كمحام فقط، بل تابع دروسه ودراسته وحاز شهادات عليا في القانون الدولي والعلوم السياسية، وكان مهتما بالتاريخ والجغرافيا، ويتقن أربع لغات هي الفرنسية والعربية والإسبانية والإنجليزية، ونجاحه لم يكن صدفة، بل إنّه نموذج النجاح في الحياة السياسية».
وشهد الراضي على ما لمسه في رفيقه بـ»الاتحاد» بوصفه له بأنه «كان أخلاقيا مثاليا، ورجل المبادئ، الذي لم يكن سلوكه وتصرّفه مبنيا على المصلحة بل على المبدأ، وكانت عنده قناعات يؤمن بها، وكان يدافع عن حقوق الإنسان لإيمانِه بها، وكذلك المساواة بين الرجل والمرأة، وكان يدافع عن القيم النبيلة، وكان معروفا بالاستقامة، ووفائه بكلمته والتزامه، وكونه وفيا للأصدقاء والمبادئ والقيم الأخلاقية، وكان ذا نزاهة فكرية وحس بالمسؤولية، وكان منضبطا عندما يُتَّخَذ قرار جماعي يحترمه، وكان يحترم التراتبية داخل الحزب، ويحترم الميعاد»، وهي «أنواع سلوك كانت تُمَيِّزُه».
وسلّط عبد الواحد الراضي الضوء على «الدور الكبير في المصالَحة الوطنية» الذي لعبه عبد الرحمن اليوسفي، وقال شارحا: «كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بعده، يَعتبرُ كل الدساتير غير ديمقراطية، و(كان يرفض) التوجهات الاقتصادية والاجتماعية (الرسمية)، وهو ما كان يخلق توترا في البلاد»، وفي هذا السياق كانت للفقيد «قدرة تدبير الاتحاد ليَقبَل المصالحة التي تَمَّت بالتصويت بنعم على دستور 1996، وتوّجَها بقَبول التناوب وتسيير الحكومة، وهو ما تم مع الحسن الثاني، بعد أربعين سنة من المقاطعة والمجابهة والمواجهة».
بدوره، قال محمد بنسعيد آيت يدر، مقاوم رئيس مركز محمد بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات، إنّ الحديث الواسع عن الفقيد عبد الرحمن اليوسفي «برهان على ما يمثله المرحوم في الساحة الوطنية والعربية والعالَمية»، مضيفا أن «عبد الرحمن اليوسفي كان من الوجوه التي تفتخر بها المقاومة، وكان يقوم بعمل مهم في مجموعة من المواقع، من حقوق الإنسان والحريات العامة، والدفاع عن المظلومين».
وذكّر آيت يدر بمجموعة من المحطّات التي أسهم فيها اليوسفي في المحاماة، ومع جبهة التحرير الجزائرية عندما اختُطِف الجزائريّون الخمسة في سنة 1956، موردا أن «اليوسفي لعب دورا رائدا في العلاقات الثنائية على الصعيد الوطنيّ، والمغاربيّ، والدوليّ»، وبرحيله «فقد المغرب أحد روّاده المخلِصين، الذين أعطوا للبلاد مكانة كبيرة».
وقالت لطيفة الجبابدي، مناضلة حقوقية نسائية، إنّ عبد الرحمن اليوسفي «سياسي مُحَنَّك، وزعيم وطني من العيار الثقيل، بصم تاريخنا، وكانت له خصال، وكان خلوقا ورصينا وحكيما، وثابتا على المبادئ، وله قدرة استثنائية على الإنصات والحوار»، وكان من مؤسسي «المقاومة وجيش التحرير واليسار والحركة التقدمية»، مضيفة: «لكن، قليلا ما نعرف دوره في نشوء الحركة الحقوقية على المستوى العربي، فقد كان من المؤسِّسين الرائدين لها، وكان له دور أساسي في النضال من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية بالمغرب».
ونبّهت الجبابدي إلى الدور المحوري الذي لعبه الفقيد اليوسفي عندما عُيِّنَ وزيرا أوّل في مراكمة المكتسبات النسائية، مذكّرة بأنّ «الحركة النسائية كانت تخطّط لأن تخوض حملة من أجل حقوق النساء، بتهييئ مسيرة ضخمة يوم 8 مارس 1998، فاستدعانا للحوار، ولم يكن مناصِرا ومؤيِّدا فقط، بل تبنّى كل مطالبنا ووجهة نظرنا، والتزم بجعلها من أولويات حكومته، ووفى بوعده».
وزادت المناضلة النسائية قائلة: «كانت أول مرة وُضِعَت فيها حقوق النساء والمساواة بين الجنسين من أولويات البرنامج الحكومي، وهي سابقة فتحت الباب للكثير من الإنجازات»، كما أنّه جعل «قضايا مناهضة العنف ضد النساء من القضايا الأساس في السياسة الحكومية».
وعند التحضير لانتخابات سنة 2002، حيث كانت فقط نائبتان برلمانيّتان في مجلس النواب ولم تكن ولا نائبة في مجلس المستشارين، تقول المتحدّثة، «خضنا حملة واسعة، وعندما تقدَّمنا بمطالبنا من أجل آلية الكوطا، أي التمييز الإيجابي، ساندَنا بقوّة، وأدرج هذا في القانون التنظيمي لمجلس النواب، وخطا بذلك المغرب خطواته الأولى في مشاركة النساء في صنع القرار، وانتقلنا إلى تكوّن البرلمان من نسبة عشرة بالمائة من النساء».
وختمت الجبابدي شهادتها حول مسار الفقيد عبد الرحمن اليوسفي قائلة: «كان زعيما مقتدرا، ووطنيا كبيرا، وسياسيا محنّكا كقائد للمعارضة وكرجل دولة، وكرّس حياته لخدمة وطنه وشعبه، وستبقى ذكراه راسخة في تاريخنا وذاكرتنا الجمعية، وسيبقى نبراسا لنا وللأجيال القادمة، كمنارة وقامة شامخة (…) وندين له كنساء بكثير من المواقف المناصرة لقضايانا».
وتناول يونس مجاهد، رئيس المجلس الوطني للصحافة، بعدا آخر من شخصية عبد الرحمن اليوسفي «متعدّدة الأبعاد»، نظرا لجمعه «بين الرجل الوطني المقاوم، والرجل السياسي الذي واصل النضال من أجل الديمقراطية، والرجل الحقوقي أيضا لأنّ له ممارسة حقوقية إضافة إلى كونه محاميا، مع بعد العمل الصحافي والإعلامي، المعروف في كل الرجالات الكبار للوطنيّة والسياسة، الذين اعتبروا العمل الصحافي وسيلة أساسية للدّفاع عن الأفكار، والتعبير عن المواقف، وكان امتدادا لعملهم السياسي والحقوقي والنضالي الوطني».
وتحدّث رئيس المجلس الوطني للصّحافة عن «وعي اليوسفي بأهمية الصحافة والإعلام»، وذكّر بأنّه «كان من المؤسسين الأوائل للاتحاد العام للصحافيين العرب، وكان من مؤسسي النقابة الوطنية للصحافة المغربية، كما كان في جريدة التحرير التي كانت جريدة مناضلة في المعارضة، وتعرض بسببها لمحاكمات واعتقالات». كما استحضر اعتبار الراحلِ «الصحافة أداة رئيسية للدفاع عن المواقف السياسية والحقوقية، وهو البعد الذي أخذه عمله أيضا؛ فحتى لما كان بالمنفى كان مرتبطا بالعمل الحقوقي والإعلامي بالصداقات والكتابات».
وانطلاقا من تجربته معه في جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، ظلَّ اليوسفي، يقول مجاهد، مرتبطا بهذه الجريدة إلى أن صار مدير نشرها، بل وكانت في عهده الجريدة الأولى بالمغرب، وأضاف: «كان لديه وعي وإلمام قويّ بالعمل الصحافي، وكان يصدر توجيهات في عدد من الأمور، وحول مقاربة التعامل (مع بعض الأخبار)، وكان منتبها بشكل دقيق لما يجري على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي»، وكان له «نضج وطاقة وحكمة سياسية لعدم التفريط في أي من الأبعاد السياسية الحقوقية الإعلامية الوطنية». ثم أجمل يونس مجاهد قائلا: «برحيل عبد الرحمن اليوسفي، فقد المغرب أحد أهمّ رجالاته، وقائدا من القادة الوطنيين».
أمينة بوعياش، رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان، استحضرت التزام عبد الرحمن اليوسفي وعمله المتواصل للنّهوض بمشاركة المرأة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و»عمله المتواصل رغم الصعوبات ذات الطبيعة الإيديولوجية والسياسية».
واستعادت بوعياش «الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، والنقاش حولها، رغم الخلاف والاختلاف الذي عرفته في المجتمع»، ورأت في ذلك نجاحا لليوسفي «في جعل قضية المرأة قضية مجتمعية بالنقاش الذي أثاره»، إلى أنّ «تطور الأمر وعرضت مدونة الأسرة على البرلمان، فكان القطع مع المسارات التقليدية للقانون الذي يحدّد المعالم العائلية والشخصية للمرأة».
وأضافت رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان قائلة: «تابع اليوسفي هذا الالتزام في ما يخصّ المرأة بالعمل على النهوض بمشاركة المرأة سياسيا باعتماد لائحة وطنية للنّساء»، كما نبّهت إلى أنّ «نقاشات تمّت إثارتها خلال مرحلته (أي خلال تقلّده منصب الوزير الأوّل 1998-2002) سبب فيما نعيشه اليوم من تحمّل النساء، ولو ليس بالشكل المرغوب فيه، المسؤوليات الحكومية بالمؤسسات الوطنية، والمشاركة السياسية في البرلمان والجماعات المحلية».
وذكّرت بوعياش بأنّ اليوسفي «كان مقتنعا بأنّ النهوض بالمجتمع غير ممكن دون النهوض بالمساواة وعدم التمييز»، وبأنّه «جعل من التزامه ومِن مساره واجبا وطنيا للاستقلال ومناهضة الاستعمار، وبناء الديمقراطية، وترسيخ حقوق الإنسان»، علما أنّه «بقدر اتساع مجال تفكيره وعمله وعلاقاته بقدر تواضعه وتحفّزه في التصريحات العلنية والعمومية حول القضايا، فهو متحفِّظ وغير متسرّع، وهو ما أعطاه مكانة بالمغرب والعالَم»، كما ذكّرت المتحدّثة بما سبق أن عبّر عنه الفقيد من رهان على الشّباب الذي رأى فيه: «الطموح والأمل والجدية والتجديد لحقوق الإنسان بالمغرب».
«يصعب الحديث عن هذا الرجل»، يقول عبد السلام الجبلي، مقاوم ورفيق الفقيد عبد الرحمن اليوسفي بالمنفى، لأنّه قضى «ما يقرب من ثمانين سنة في النضال من أجل بلده، والمغرب العربي، ومن أجل الإنسانية، وكان نضاله على عدّة جبهات».
وأضاف الجبلي قائلا: «كنا نسمع في نشرات الحزب عن تحركات اليوسفي ونشاطاته، وكان يُعَدُّ بالنسبة لنا، ونحن شباب، مثالا أعلى في الكفاح والنضال ضد الاستعمار، وكنتُ أتابع نشاطه في مرحلة المقاومَة لمّا نُفِيَ محمد الخامس وبدأ التفكير في العمل المسلَّح، ومن بين ما كنّا نقوم به المراسلة بيننا وبين مجموعة الشمال التي كان ضمنها، وكان له دور كبير في الاتصال بالبلاد العربية وشمال إفريقيا، نظرا لعلاقاته الواسعة».
واستعاد الجبلي ذكرى خروجه من المغرب لملاحقته من الأمن، وعبوره إلى إسبانيا حيث التقى رفيقه الراحل كثيرا، ووجد أنّه كان يعرف فيها مجموعة من الشخصيات و»كان محترما بها». كما عدّد المتحدّث مجموعة من الخصال التي لمسها في الفقيد: «في وقت المشاكل لم يكن يصارع، بل في تدخلاته وسلوكاته كان رجلا لطيفا ونبيها ورجلَ أخلاق عالية، وحتى عندما يريد التعبير عن خلاف، كان يعبّر عنه بأسلوب لطيف وابتسامة، لها وجهان، فإمّا تدلّ على الاختلاف أو الاتفاق».
وذكر المقاوم الجبلي أنّ اليوسفي تمتّع بـ»مصداقية واسعة»، موردا: «لمّا سمع الشعب المغربي بتعيين عبد الرحمن اليوسفي وزيرا أوّل، استبشر خيرا، واستقبل هذا بتفاؤل»، ثم استرسل قائلا: «كان يُؤمِنُ بالديمقراطية الحقّة، وكان يَعمل من أجلها بالبلاد، وكان يؤمن بوحدة المغرب العربي، التي كنّا نؤمن بها في جيلنا، والغريب أن في علاقتنا بالجزائريين والتونسيين كان لدينا كلّنا هذا الهدف الكبير في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، (الذي مثّل) إيمانا قاطعا وجازما».
بدوره تحدّث نور الدين حشاد، رئيس مؤسسة فرحات حشاد للدراسات والأبحاث التاريخية، عن «فقيدنا العزيز وفقيد المغرب المجاهد»، الذي أحسّ بجانبه كمواطن تونسي من الجيل الثاني بـ»راحة وأريحية»، لِمَا لاحظه فيه من أبعاد متعدّدة المعرفة، وثقافة عالية متعدّدة الأركان في التاريخ والاقتصاد والاجتماع والثقافة، ومن كونه قريبا من الشعب يحسّ بأحاسيسه».
وقال حشاد إنّ اليوسفي ناشط سياسي ومقاوم ورجل دولة و»وطني حتى النخاع، جاهز من أجل الملك والراية، والقيام بجميع الواجبات مهما كانت المخاطر، وله ذكاء وخفة روح يقنعك (معهما) بسهولة بصواب الاختيار، وهو مغربي مغاربيّ روحا وعقلا وجسدا، بكل ما أوتي من تحقيق الأهداف، ويبني القوة عند اللزوم والدبلوماسية إذا اقتضى الأمر ذلك».
وأضاف: «سعى عبد الرحمان اليوسفي بكل ما أوتي من قوة لضمان الاستقرار في ربوعنا، وترك لدينا ذكريات خالدة في تونس عندما قبل دعوتي لإحياء الذكرى الخمسين لاستشهاد فرحات حشاد (زعيم نقابي تونسي وطني بارز اغتاله فرنسيّون)، وكانت مساهمته قيّمة، وأدلى بشهادته بمعرفته الشخصية بمؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل»، كما أنّه «قائد في الكفاح إلى جانب مجاهدين بررة، مع الملك محمد الخامس الذي وضع عرشه على المحك، ولم يفكر في نفسه، ولم يفكّر في تبعات القمع والجبروت مِن المحتل الفرنسي».
وكان اليوسفي، وفق نور الدين حشاد: «الرجل المناسب في الوقت المناسب، من أجل مغرب متأقلم مع سياسة وخيارات ملك شاب ذي بعد نظر، وأُبهِرت بهذين الرجلين من جيلين تفصل بينهما سنوات عدّة، ولكنهما كانا في تفاعل غيَّرَ وجه المغرب العزيز بسلاسة يُخَلِّدها التاريخ».
وعاد مبارك بودرقة، رفيق درب عبد الرحمان اليوسفي، إلى القرار الفرنسي بطرد عبد الرحمن اليوسفي، وتدخّل زعماء فرنسيين مِن أصدقاء الحركة الوطنية وحركات التحرير، لتقتصِر الحكومة الفرنسية على طرده من مدينة باريس، عقابا على نشاطه في صفوف العمال والمهاجرين، ودفاعه عن القضية الوطنية وتحرير المغرب من الاستعمار في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة التي انعقدت بباريس في سنة 1951، التي اكتشفه خلالها عبد الرحمن عزام، أول رئيس للجامعة العربية.
وقال بودرقة: «لمّا أنهى اليوسفي دراسته كان من المفترض أن يفتح مكتبة محاماته بنيويورك لكن الفرنسيين رفضوا إعطاءه جوازا، وسعى علال الفاسي لاستصدار جواز سفر مصري له، لكن جاء انقلاب جمال عبد الناصر ومحمد نجيب فلم يعد ذلك ممكنا، فالتحق مباشرة بطنجة نظرا لموقفه من قيادة حزب الاستقلال بالدار البيضاء، التي لم تكن تنظر بعين الرضى لتوسيع قاعدة الحزب من الطبقة العاملة والتجار الصغار والحرفيين الذين استقطبَهم عندما كان يشتغل بالحي المحمدي، باستثناء واحد كان ينظر بعين الرضى لهذا هو علال الفاسي».
وعرج مبارك بودرقة على إشراف اليوسفي على العمل المسلّح عند نفي محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس)، وبدء عمله مع المغاربِ عند اندلاع الثورة الجزائرية، وصولا إلى عودة محمد الخامس من المنفى، وقرار اليوسفي إجراء عملية استئصال الرئة، ليعود بعدها إلى البيضاء، كما ذكّر بأحداث أخرى في مساره من قبيل زيارة مقاومين، كان من ضمنِهم، لِمُحَمّد الخامس، عارضين عليه يوما للاحتفال بالمقاومة، ثم بعد ملاحظة الفقيد عبد الرحمان اليوسفي عدم تحمُّسِ الملك للتّسمية، اقترح عليه تسميتها «ثورة الملك والشّعب»، وكذلك كان.


بتاريخ : 11/07/2020