لا أحد يمكنه اليوم أن ينكر أن معظم محاكم البلاد – باختلاف درجاتها واختصاصاتها -في حاجة ماسة إلى قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة، وكتاب الضبط والأعوان، وهذا الخصاص هو ما جعل بعض المحامين وبعض المتقاضين يعبرون لنا عن معاناتهم اليومية، في هذه المحكمة أو تلك ، على امتداد الخريطة القضائية بالمغرب، وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في توسيع بعض المحاكم، وبناء أخرى في جماعات تحولت بفعل النمو الديمغرافي الى بلديات ومدن، وفرض هذا التحول والنمو تقريب المحاكم من المتقاضين.
جولة ميدانية
خلال شهر رمضان المنصرم قمنا بجولة عبر مجموعة من المحاكم، لنقف بالمعاينة والملموس على ما صرح لنا به هؤلاء المحامون والمتقاضون، علما بأن ما ارتكز عليه بعضهم، كان مجرد أمثلة، عن عدد الملفات المدرجة يوميا في مختلف الجلسات الصباحية أو الزوالية، سواء تعلق الأمر بالأقسام المدنية أو الاجتماعية أو الشرعية – قضاء الأسرة – او حوادث السير، والتجاري والاداري، التي تستمر لساعات طوال، حتى خارج أوقات العمل الأسبوعية، مثل جلسات القضاء الجنحي والجنائي ، حيث قد تضطر بعض الهيئات لرفع الجلسة للاستراحة ، قبل متابعة البت في الملفات لساعة متأخرة من الليل، وقد تؤخر بعض الملفات لجلسات لاحقة لكثرة المتهمين والضحايا والمطالبين بالحق المدني.
لقد عاينا العديد من القضاة والقاضيات يغادرون المحاكم وهم يحملون عشرات الملفات معهم لدراستها وتحرير الاحكام والقرارات بمساكنهم. و مازلت أتذكر أن إحدى القاضيات كان كثيرا ما يأتي عندها أحد أبنائها ليحمل حقيبتها المملوءة بالملفات من المكتب الى السيارة. قضاة يشتغلون على “حساب “حياتهم العائلية، مع ما لذلك من تأثير على علاقاتهم فيما بينهم أو مع غيرهم .
خصاص مرهق
إن المسؤولين اليوم، يعلمون علم اليقين، أن هذا العدد من القضاة والنيابة العامة والموظفين، لا يمكنه نهائيا أن يفلح ، وبشكل طبيعي، منطقي، زمني، في إنجاز المردودية المطلوبة منهم يوميا، أسبوعيا ، شهريا وسنويا – وهو طلب مرفوض تماما لكون القضاة وكتاب الضبط ليسوا عمالا في شركة لانتاج منتوج استهلاكي مهما كانت أهميته – هذه المردودية التي قد تجعل بعضهم لا يدرس بالدقة الواجبة الملفات المعروضة عليه لسبب أو طارئ قاهر ، رغم هذا العلم، فإن المسؤولين لم يعمدوا الى الرفع من عدد المرشحين لاجتياز امتحان الالتحاق بالمعهد العالي للقضاء (بالرباط) وأوقفوا عملية انتساب بعض المحامين الممارسين لمهنة المحاماة لمدة تفوق 20 سنة للهيئة القضائية ، والذين يمكن اختيارهم ،حسب تخصصهم، للتخفيف عن قضاة الأحكام وقضاة النيابة العامة.
لقد وقفنا في أكثر من محكمة، على خلافات تقع بين بعض مكونات الأسرة القضائية (من محامين وقضاة) خلال إعداد الملفات، أو خلال مناقشتها، حيث يتقدم أحد المحامين بطلب رام الى التأخير أو الى طلب تأخير إضافي لانجاز وثيقة ما، او إقناع شاهد بالحضور أمام مجلس القضاء او للمخابرة مع موكله الموجود تحت تدابير الاعتقال الاحتياطي، أو لأي سبب آخر قد يراه المحامي مهما وأساسيا للدفاع عن موكله، فيما قد يرفض رئيس الجلسة طلبه، تحت هاجس المردودية المفروضة عليه والمرتبطة بالنقطة التي سيمنحها إياه رئيس المحكمة، والتي تدخل ضمن أسباب تدرجه وتحسين وضعيته المالية ؟
تأخير البت
يشتكي بعض المحامين من التأخير في تنفيذ الأحكام والقرارات في مختلف القضايا – بما فيها حوادث السير والشغل، ونزاعاته ، وإن كانت الاولى منظمة بعض الشيء – وما يتعلق بالنفقة وتوابعها، التي تتضرر منها المطلقات وأطفالهن، خاصة منهن غير العاملات، ربات البيوت اللواتي لا دخل لهن. هذا التأخير يؤدي إلى سوء الظن وضعف الثقة بين بعض المحامين وموكليهم، وما ينتج عن ذلك من ترويج تأويلات وإشاعات قد تتعدى سلبياتها المحامين لتطال حتى بعض القضاة والموظفين، ناهيك عما قد يحصل من مشاكل اجتماعية للمطلقة . كما أن التأخير في تعيين الملفات والبت فيها أمام محكمة النقض له نفس النتيجة لنفس الأسباب: قلة العنصر البشري.
الحاجة إلى دعم
مشاكل كاتبات وكتاب الضبط مع بعض المحامين وبعض كتاب المحامين، وبعض المتقاضين او ذويهم كثيرة، وناتجة كذلك عن قلة عدد أعضاء هذه الهيئة، الذين هم أول من يستقبل كل من ولج المحكمة لوضع طلب أو دعوى أو شكاية، حيث يشرفون – كل من جهته وحسب المهام الموكولة اليه – على إعداد الملفات، وطبع الاستدعاءات وإنجاز المحاضر وتحرير المراسلات بين أعضاء النيابة العامة والضابطة القضائية، وغيرهم من مساعدي القضاء، وخاصة العاملين منهم في قطاع الطب وعلم التشريح ،او بين رئيس الجلسة والخبراء، وهي مهام يعرفها المحامون، لكن يجهلها المتقاضون الذين تصدر من بعضهم تصرفات وكلام يسيء لسمعة هيئة كتابة الضبط، الذين منهم من يتفهم نفسية المتقاضي ومنهم من يواجهه لتصل الامور حد التمسك بحقه في المطالبة بالمتابعة القضائية من أجل إهانة موظف أثناء قيامه بعمله.
لقد سجلنا أن بعض المهام مسندة إلى كاتب واحد أو كاتبة واحدة، والحال أن إنجازها بشكل يضمن سلامتها واستمرار ذلك المكتب او القسم في تنظيمه الملحوظ، كما هو الحال بأرشيف المحكمة الابتدائية – القسم الجنحي بعين السبع وبمكتب تسليم نسخ القرارات الاجتماعية بمحكمة الاستئناف “كوماناف” بالدار البيضاء، وبمكتب تسليم نسخ الاحكام بالمحكمة الادارية بالبيضاء، وبأقسام تسليم النسخ بمحاكم سطات، برشيد، المحمدية، بن سليمان، ابن احمد، خريبكة، تمارة ، سلا ، الرباط والجديدة، دون إغفال ما يبذل من مجهود بمحاكم مدن اخرى، لكون المستوى الدراسي والتكويني الذي يتوفر عليه اليوم معظم كاتبات وكتاب الضبط، يؤهلهم للقيام بمهامهم على الوجه الأحسن، وحتى يتأتى ذلك ، تقتضي المسؤولية الوطنية ،دعم مجهودات هؤلاء الموظفين، بزملاء أو أعوان يساعدونهم لكي تستمر تلك المكاتب والأقسام – تسليم نسخ الأحكام والقرارات، والأرشيف – في مجهود تجويد خدماتها أكثر . بل التفكير والعمل على تطويرها، واستخدام الالات الناظمة، وغيرها من آليات الترتيب والترقيم والرقمنة والحفظ الالكتروني.
وحتى يتصالح المتقاضون مع نظامنا القضائي، على الأسرة القضائية الواسعة والمتعددة الأطراف، أن “تتصالح” وتتعاون وتتفاهم فيما بينها، وتؤمن بأن عمل كل جهة هو مكمل لعمل الجهة الأخرى، وأن تعطي القدوة للمتقاضين، ولكافة المواطنين عموما.