باعتباره ترجمة لامتدادها الزمني وإنسانيتها وبصمات تفاعلها وإشعاعها، تعتز كل مدينة من مدن العالم العتيقة بما يعبر عن أصالتها من تراث. وكثيرة هي المدن التي تتفرد بما هو أصيل يعكس عمقها الحضاري وهويتها موقعاً ونشأة وتراثاً، كمعالم مادية وأشكال تعبير وأنماط عيش وتقاليد وسبل انتاج وفضاءات وثقافة، فضلاً عما يندرج في هذا الاطار من فنون وغناء واحتفال وأساطير وجميع ما هو متوارث رمزي. مع أهمية الاشارة الى أن المآثر جزء من الثقافة والهوية وفقدانها لا يقدر بثمن، وعياً بأن حياة الانسان شهدت تطورات منذ القدم وهو ما لا يمكن تلمسه إلا عبر المعالم الأثرية، ومن هنا أهمية ما يحميها ويؤطرها من ضوابط أخلاقية وإنسانية وقانونية.
وعلى أساس عمقها التاريخي وتلاقح أزمنتها الحضارية لفترات، تعد تازة من مدن المغرب الأصيلة التي تقوم على إرث مادي ولا مادي غني، يؤهلها لتكون بموقع انساني ويجعلها بحق في أخذ صفة تراث وطني منذ عقود. غير أن واقعها التراثي تتقاسمه اختلالات عدة جعلها تشهد تراجعاً معبراً في وظيفتها كمدينة تاريخية، لدرجة أنها فقدت أدوارها وتوازناتها الثقافية والاجتماعية والتفاعلية في اطار محيطها وضمن ما هوجهوي ووطني، خلافاً ما كانت عليه قبل حوالي ثلاثة عقود. بحيث كثيرة هي مظاهر تلف العمران العتيق من خلال ما يظهر على مستوى أسوار المدينة وأبراجها وأبوابها القديمة وحصونها، باعتبارها مكونات ذاكرة محلية وهوية وجدانية للأهالي.
وبخلاف غيرها من مدن البلاد العتيقة التي أحيطت بما أحيطت به من عناية خلال العقدين الأخيرين في اطار سياسة إنقاذ المدن العتيقة، فإن ما سجل بتازة هو ترقيعات محدودة القيمة والأهمية والمجال من فترة لأخرى، فضلاً عن سطحية الورش وتعدد المتدخلين والمقاربات، بحيث يتبين للمتتبع أن هناك افتقارا لآليات تشاور وتنسيق جادة، بما في ذلك ما هو معطيات تاريخية في غياب دراسات شافية داعمة. ناهيك عما يسجل من مقاربة قطاعية ضيقة تبدو أنها كانت بدون رؤية شمولية من شأنها تحقيق تأثير على أنسجة وأنظمة تازة العتيقة، وعليه ليس سهلاً الحديث عن رد للاعتبار وتأهيل مجال المدينة الأصيل، دون خريطة طريق مؤسسة وتشاركية ودون استراتيجية تدخل بوعي وفهم استشرافي.
بنايات آيلة للسقوط
ضمن ما هو بحاجة لإنقاذ وتأهيل وترميم ورد الاعتبار وبحاجة لرقابة الوضعية ووقف التجاوزات، وضمن ما هو مهدد وآيل للسقوط من بنايات تاريخية على أساس ما هو مسجل، يمكن الحديث عن هول الكائن الذي يخص مجال تازة العتيق، خاصة وأن المدينة توجد بموضع هو هضبة صخرية تتقاسم أعماقها سلسلة مسالك باطنية تتبين من خلال كهوف جانبية محيطة، وربما فراغات على مستوى سطحها غير معروف كيف غمرت مع الزمن وتم تعميرها. وعليه بنايات أثرية عدة هنا وهناك مثبتة فقط بأعمدة خشبية، ولعلها مشاهد مألوفة تصادف في مدن عتيقة أخرى تعاني من نفس الاشكال كما فاس، ولولا هذه الأعمدة كأساليب وقاية يتم اعتمادها لتساقطت هذه البنايات منذ زمان.وفي هذا الاطار نسوق نموذجاً من تازة يخص اقامة تعليمية عتيقة كانت تابعة لجامع المدينة الأعظم، وهي بناية أثرية لا شك، لكن هل هي مدرسة أم اقامة لطلبة كانت ملحقة بهذا الجامع، فهذا فيه نظر ويحتاج الى تدقيق في غياب إشارات شافية حولها في المصادر.
وفي هذا الاطار رغم أهمية إفادة «الاسحاقي» الوزير من خلال مذكراته الحجية وما قد يكون حصل له من خلط فيما جاء به وأشار اليه حول تازة، يُعتقد أن هذه البناية ليست مرينية، بل شيدت خلال فترة لاحقة بدليل ما جاء عند»الضعيف»الذي أورد أن سيدي محمد ابن عبد الله بنى بتازة مدرسة بجامعها. ولعلها الاشارة نفسها التي أوردها «المشرفي» في حديثه عن بناء هذا الأخير لمآثر بالبلاد وإصلاحه لأخرى، وكذا عند»الكنسوسي» في حديث عن فضائله في المآثر والعمارة ، وقد تكون إشارة هؤلاء تقصد عملية ترميم وليس بناء. ومن جملة ما أورده العقيد»فوانو» حول معالم تازة الأثرية إشارته الى أن البناية التي تقابل جامع تازة الأعظم، بُنيت أواسط ستينات القرن الثامن عشر زمن سيدي محمد بن عبد الله.والذي تذكر الرواية التاريخية أن عنايته بتازة كان من خلال تشييده لـ(مدرستين) أو (إقامتين) لمن كان يتلقى دروسه بجامعها الأعظم، لعل الأولى تلك التي تقابل بابه الرئيسي من جهة الجنوب ولا تزال معالمها شاهدة، انما في حالة متدهورة وبحاجة الى انقاذ وكانت تتوفر على عشرين غرفة وساحة تتوسطها مع مرفق للنظافة وتتزود بمياه تنقل عبر قناة إلى الجامع الأعظم، أما الثانية فكانت ربما خارج السور الأثري للمدينة غير بعيد عن باب الجمعة وقد اندثرت معالمها.ومن هنا أهمية عمل التشارك في إنقاذ التراث عموماً ورد الاعتبار لمعالم تاريخية، من خلال التعريف بحقيقة نسبية طبعاً والحديث عنه عبر ما هو مؤسَّس.
الحاجة إلى إعادة الجاذبية
تبقى تازة العتيقة بحاجة الى اعادة الجاذبية اليها إن صح هذا التعبير الذي قد يكون وجدانيا شاعريا لا غير. وبحاجة الى انعاش ما تحتويه من مكون ثقافي حضاري مادي ولا مادي، أمام ما هو كائن منذ سنوات من نزيف ديمغرافي وفقدان توازن وقيمة مجال في شموليته. فضلاً عما ينبغي من تعبئة لتدخلات من شأنها التخفيف من أثر ما بات ظاهراً ومؤثراً من اختلالات مركبة ومتداخلة، عبر تحفيز الاستقرار إن لم نقل اعادة توطين هذا المعطى عبر مقترحات واجراءات داعمة، وتثمينه في علاقته بما هو تراثي رمزي في أفق جعل موارد التراث أكثر انسجاماً مع حاجيات التنمية محلياً وفي اطار ما هو جهوي من رؤى واعدة أيضاً.
وحول تازة المدينة العتيقة تحديداً والتي ينبغي أن تكون منتجة لثروتها، رغم ما تم الحديث عنه منذ سنوات وربما منذ عقود حول أهمية معالمها الأثرية ومؤهلاتها السياحية الثقافية التي عقدت من أجلها عشرات الندوات على الأقل منذ بداية تسعينات القرن الماضي، وكانت هذه المواعيد دوماً تنتهي بتوصيات منها أهمية الترافع وتجميع جهود كل الأطراف المعنية، من اجل تصنيف المدينة تراثاً وطنياً على الأقل قبل فوات الأوان وبلوغ الواقع الحالي (حالة باب الريح، باب الجمعة، الحصن السعدي، كفان بلغماري برمزيتها الانتروبولوجية الاركيولوجية الدولية..)، وغيرها من معالم المدينة التي توجد في وضع يرثى له لشدة الاهمال واللامبالاة والتجاوزات، وعياً بأنها ملك للمغاربة والإنسانية وذاكرة لا ينبغي العبث بها.ورغم كل ما انشغل به المهتمون والفاعلون والمدبرون للشأن المحلي على امتداد عقود حول رهان المدينة السياحي وأهمية حماية مبانيها الأثرية باعتبارها رأسمال تازة العتيقة الأساسي، يبدو وكأن كل شيء تبخر وما تم بلوغه من منشود في هذا الاطار بقدر ما جاء متأخراًو خجولا بقدر قيمته المضافة لخير البلاد والعباد.
ضرورة مقاربة تشاركية «تنصت» لذوي الاختصاص
إن جاذبية المدينة العتيقة تازة العليا مازالت محدودة جداً والحديث هنا ذو شجون حول ما هو أسباب وتجليات، فضلاً عما هناك من حاجة لجهود ينبغي أن يسهم فيها الجميع كل من موقعه، بما في ذلك الساكنة. ناهيك عما هو تقني داعم لهذا الرهان وتعريفي واشعاعي وظيفي بعيداً عن هدر مال المدينة العام، بحيث لابد من جهود ارشادية تقوم على دلائل سليمة ولوحات تعريفية وخرائط توجيهية من شأنها تسهيل ولوجية المجال العتيق وتحقيق جاذبيته، بحيث كلما كانت هذه العملية ممكنة وسهلة ومفيدة كلما انتعشت المدينة، بل ومن المفيد رسم مسارات سياحية ثقافية تعريفية اشعاعية تاريخية تهم مجال المدينة العتيق وفق ما ينسجم مع أهم النقاط والمواقع الأساسية. الأمر الذي يقتضي عملا تشاركياً وإنصاتاً لرأي كل الأطراف ذات التماس والوجيهة المقترح والقيمة المضافة، تجنباً لما قد يحصل من هدر للموارد والزمن وعدم بلوغ المنشود من الأهداف على المدى المتوسط والبعيد، مع أهمية الاشارة لِما يمكن أن يسهم به الفعل الثقافي الوظيفي من أدوار، وما يمكن أن تقدمه فرص الترفيه من خدمات على ايقاع ما توجد عليه مدن مغربية أصيلة أخرى،تتقاسم تازة بعض المشترك على مستوى موارد الموقع والزمن والتاريخ والذاكرة والثقافة وغيرها.
ومقابل ما هو متوفر من إرث حضاري بتازة التي باتت تراثاً وطنياً منذ حوالي السنة- بقدر قيمة هذا الالتفات معنوياً بقدر ما هو تكليف ومسؤولية وليس تشريفا- ، يسجل ما هو كائن من وعي بواقع حال تراث المدينة لِما هناك من اختلالات ومشاكل عالقة وتجاوزات تقتضي مناظرة محلية لطرح ملفاتها، وتحديد ما ينبغي من اجراءات عملية في هذا الاطار لإنقاذ رأسمال تازة التاريخي والحضاري، وانصافه بوضعه رهن إشارة التنمية المحلية لا غير، من خلال سبل توظيف واستثمار واشعاع لفائدة المدينة. ولعل تتبع المهتم ووعي المجتمع المدني وساكنة المدينة بتراثها ومعالمها التاريخية، هو بانتظارات واسعة في أفق حماية هذا التراث وتدبير أفضل لموارد زمن تازة، مع وقف ما هناك من أشكال تدهور واستغلال وعبث غير قانوني بهذا الغنى الجماعي ، على أساس أن العناية بهذا الارث المادي واللامادي هو حفظ لذاكرة وهوية محلية ووطنية وانسانية معاً. ولا شك أن المهمة صعبة ومكلفة لِما هناك من تداخل بين ما هو إرادة حقيقية وقانون مؤطر للمجال، وبين كلفة تدبير القطاع وتنميته ورد الاعتبار له واستثماره من شدة هموم وتراكمات الماضي، وبين مصالح ورؤى ضيقة في علاقتها بتراث المدينة يغلب عليها الذاتي وليس الموضوعي. ناهيك عما يزيد من تعقيد وضع المجال من نقص إن لم نقل انعدام دراسات علمية تهم سبل التدخلات وأجرأة الفعل، اللهم تقارير تقنية لمصالح عمومية الى جانب قطاعيتها هي غير شافية للخوض في موضوع على درجة من التعقيد والحساسية والتقاطع. ومن هنا ما ينبغي من أبحاث بطبيعة تاريخية وسوسيولوجية مؤسسة، ومن دراسات مجالية وتعميرية وقانونية وبيئية وغيرها، فضلاً عما يمكن أن يسهم به أرشيف المدينة المشتت هنا وهناك، من سبل اشتغال ضمن ورش إنقاذ بطبيعة إنمائية استشرافية واعدة لفائدة مدينة وبلاد وعباد.
عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث