تُحاولُ هذه القراءة الإنصات إلى الآفاق التي تفتحها الترجمة العربية الأولى لـكتاب موريس بلانشو “كتابة الفاجعة»، بما هي حدثٌ رئيسٌ، له سلطته ضمن الترجمات الكبيرة والنادرة التي عرفتها الثقافة العربية. على أنّ لقاء فكر بلانشو وفلسفته باللّغة العربية، من خلال ترجمة عزالدين الشنتوف، فَتحٌ يَعِدُ بإبدالات معرفية متعدّدة، لها أن تُضيء المشروع الكتابي للفيلسوف الفرنسي، وتهيّئ أمكنةً جديدةً تدعونا التّرجمة العربيّة لاكتشافها وتأمّلها.
تستند ترجمة عزالدين الشنتوف لكتاب موريس بلانشو إلى لغةٍ وفكرٍ كاشفين. إنّه الكشف الذي يضيف إلى فكر بلانشو بُعداً لا نعرف نهايته، يمتدّ في مدى أبعد مما نتخيّل، لأنه مفتوح دائماً، لا يتوقف عند حدٍّ أو عند سياج. كشفٌ في اللغة وباللغة لاختراق فكر فلسفيٍّ موغلٍ في التّعقيد، يجعل رهان الترجمة عند عزالدين الشنتوف حفراً عميقاً في فلسفة موريس بلانشو.
1. سلطة الكتاب سلطة الترجمة
يُعدًّ كتاب عزالدّين الشنتوف الترجمة الأولى لكتاب موريس بلانشو الأخير، كما يرى إليه بلانشو نفسه، وذلك بالنظر إلى المكانة التي يحظى بها عنده، بالرغم من صدور أعمال أخرى متأخرة عليه زمنياً. وإذا كان «كتابة الفاجعة»، من حيث هو بحثٌ عن مفهوم “الكتاب” من خلال ممارسة الشكل المتخيل للكتابة، يستمد أهميته من كونه الكتاب الجامع لتصورات مؤلّفه عن الكتابة ومآلها من داخل الإبداع، فإنّ سلطته تتبدّى في قُدرته على إثارة النّقاش حوله وهو يطرح أزمة العلاقة بين الكتابة والقراءة، من خلال عدد كبير من الدّراسات، التي تعكس أهمّية “كتابة الفاجعة» في فرنسا وفي العالم.
تصدّرت ترجمةَ «كتابة الفاجعة» مقدّمةٌ نظريةٌ، تجاوز رهانُها تقديم العمل وإضاءته إلى طرح القضايا الموصولة باستيعاب فكر موريس بلانشو ومشروعه الكتابيّ، بما هو مطلب يستجيب لشروط استضافة فلسفة موريس بلانشو في سياق عربيّ. ذلك ما يجعل من المقدّمة بناءً فكرياً يستوعب تاريخيّة تَشَكُّل أهمّ المفاهيم التي تشتغل في أعمال بلانشو، ويقوم على معرفةٍ نسقيّة، تسندُ قراءة وتأويل «كتابة الفاجعة» قبل الانتقال إلى ترجمته.
إنّ اختيار مَسْلَكَ الترجمة البَحثيّة، المشروطة بالاطّلاع على أغلب أعمال بلانشو وعلى ما كُتب عنها من دراسات ومقاربات مختلفة التوجّهات، سعيٌ مُعلنٌ نحو مرافقة السؤال، وهو ما يجعل كتابة مقدّمة العمل فعاليةً معرفيّةً خاصّةً، تفتح أفق تلقّي كتاب موريس بلانشو وتأويله على مُمْكنات الزمن المعرفي الذي ننتسب إليه. ذلك ما يجعل ترجمة عز الدين الشنتوف موسومة باشتغال نظري، ومنشغلةً بإنتاج أسئلة ذات نسب معرفي، لا تستسهل ترجمة فكر بلانشو بقدر ما تسعى إلى إبدال موقع قراءته.
2. مُساءلة العبور
تقوم ترجمة عزالدين الشنتوف على قراءة عاشقة لأعمال موريس بلانشو. وتهيّئ هذه القراءة موقعاً خصباً لإنتاج معرفة بالمقروء، وتشقُّ مسالك جديدة في طرح ومُصاحبة البناء النظري في “كتابة الفاجعة»، وهو ما يجعل الترجمة ممارسةً معرفية ذات انشغال نظري. ومن ثمّ يُمكن القول إنّ المُصاحبة العاشقة لكتاب بلانشو تراهن على فتح النص واستنبات أسئلة فيه، بما يصون الوعي النظري بفعل الترجمة، ويسمح للقراءة العاشقة أن تترسّخ عن معرفةٍ لا عن جهلٍ.
تُصرّح الترجمة، إذن، بانتسابها إلى المعرفة وتحصين منطلقاتها استناداً إلى قراءة نسقيّة لأعمال موريس بلانشو، تستحضر بوعي مشروعه الكتابيَّ، وتقوم على فتح مداخل قرائية، تُتيح ملامسة القضايا والأسئلة النظرية التي تطرحها “كتابة الفاجعة».
وقد راهن المترجم، في مقدّمة عمله، على تسييج تَمَثُّل بلانشو للكتابة، بما هي «تجربةُ بحثٍ وحركةٌ مُوجّهة نحو نقطة دائمة الاحتجاب، تُعدُّ أصل الكتابة»، وتتبّع تسرّب هذا التصوّر إلى بنية «الكتاب الأخير»، كما يرى إليه بلانشو نفسه، بالكشف عن المفاهيم العُمدة التي يتأسّس عليها العمل، كمفهوم الفاجعة، ومفهوم التجربة، والحاصل، والمحايد، والمحو…، على أنّ هذه المفاهيم قد شكّلت مداخل/ مفاتيح، تُسعف القارئ في مواجهة كتابة بلانشو وأسئلتها المركّبة.
قامت مقدّمة ترجمة «كتابة الفاجعة» على تحديد الأمكنة النّظرية التي وجّهت أعمال موريس بلانشو، وتتبّع مجموعة من المفاهيم التي يسترشد بها الفيلسوف الفرنسي في تجربة الكتابة، بما يتيح تحصين عبور فكر بلانشو إلى اللّغة العربية. وقد صاحب عزالدين الشنتوف هذا الانتقال مُوَجّهاً بالسؤال المعرفي، بُغية إضاءة الإشكالات التي يثيرها تأويل فكر بلانشو، والكشف عن مآزقه بحثاً عن تأويل أكثر تماسكاً، مادام التأويل النهائي غير ممكن.
3. بناء المفاهيم
راهنت ترجمة “كتابة الفاجعة» على استيعاب فكر موريس بلانشو، واستندت في نقلها، من اللّغة الفرنسية إلى اللّغة العربية، إلى مفاهيم تشتغل بوعي نظري، يسعف في الإنصات إلى النّص الأصل ومُحاورته. بذلك جاء عملُ عزالدين الشنتوف ترجمةً عالمةً، تنتسب إلى المعرفة، وتستهدي بالتصورات النظرية التي تشتغل في أعمال موريس بلانشو.
وقد ترتّب على هذا الوعي بناءُ مفاهيم/ مفاتيح تُتيح قراءة الترجمة العربية لـ “كتابة الفاجعة». على أنّ تلك المفاهيم التي تشتغل بتكتّمٍ في النّص الأصل، بَدَتْ في خطاب المقدّمة موصولةً بحقول معرفية متعدّدة، حرص عزالدين الشنتوف على مُساءلتها وضبط أسسها الابستيمولوجية حتى لا يغدو تشغيلها حدسياً. ولنا في ما سيأتي عرض البناء المفاهيمي الذي خلص إليه المترجم من حيث هو مدخلّ رئيسٌ، يسنُدُ قراءة “كتابة الفاجعة» ويُتيح فهمَ وتَمَثُّلَ القضايا التي تَشَكّلتْ أثناء ترجمة الكتاب:
1.3. مفهوم الحاصل: يرجع هذا المفهوم إلى ليفيناس، الذي بلوره في ضوء نقاشه ومراجعته لمفهومي الكينونة والوجود عند هيدغر. والأساس في صوغه تخييليٌّ، ينطلق من افتراض العودة إلى العدم الشامل الخالص، حيث يغدو الغياب، بحضوره في هذا العماء، مجالاً لقوى فعل الوجود؛ لا يقوم به أيّ أحد، لا ذاتاً ولا صفةً، سوى ما يحصل من غير فاعل. لقد استوحى بلانشو من ليفيناس أهم خصائص “الحاصل” التي بثّها في معظم كتاباته، مثل الغفلية والرتابة والحضور اللازم واختناق الذات. وكلّها نتائج لحركة الحاصل الذي لا يُعلَمُ له فاعلٌ.
2.3. مفهوم المحايد: يلتقي مفهوم المحايد مع مفهوم الحاصل في عنصر “الغياب” بصفته مشروع كلّ كتابات بلانشو، وقد شكّل المحايدُ هاجساً إبداعياً في كتاباته منذ الأربعينيات. على أنّ العلامة الفارقة التي مثّلها “المحايدُ” في «كتابة الفاجعة» تتمثّل في كونه أصبح “تفكيراً بالمحايد” انطلاقاً من عنصر “فكرة السّرّ” التي يؤطّرها معجمٌ خاصٌّ، يتقدّمه لفظ “السّهر/الرّعاية”.
3.3. مفهوم المحو: يحضر المحو في الكتابة الشذرية باعتباره إحدى علامات الكتابة، حيث يتّخذ صيغة محو الأصل. وبما أنّ القارئ كاتبٌ بمعنى ما، فإنّ صلته بالكلام تقتضي تشطيب ما هو أصليٌّ، تماماً كما يفعلُ الكاتبُ بتشطيب الكلام الصادر عن المتكلّم. من جهة أخرى، يُعدّ المحو إحدى مهمّات الفكر الجدلي، الذي يُنَصّبُ نفسه فكراً لا أصل له ولا غاية له أو نهاية، يتجلى في الكتابة آليةَ إرباكٍ لمبدأي الهويّة وعدم التناقض.
4.3. مفهوم الاستكانة: مفهومٌ جامعٌ لمختلف مظاهر الذاتية التي لا فاعل لها، وهي ذات تجلّيات عديدة، وتنتقل في حركة وأفعال الكاتب بدون مبرّرات أو مقدّمات وعلاقات تعليل منطقية وموضوعية. وقد ربطه بلانشو بمفهوم “الخارج” الذي لا يتجاوز الأنا بإضعاف قواها وحسب، بل يلغيها ويقصي إمكانياتها وتطلّعاتها لتكون وعياً، فتفقد الذات صلتها بالتجربة وبذاتها، لأنّ ما يقع لها يلغيها.
4. الكتابة الشذرية
يستند اختيار المترجم لـ»كتابة الفاجعة» إلى عامل موضوعي، يتمثل في كونه الكتاب الذي تبلورت فيه نظرية بلانشو الخيالية حول الكتابة الشذرية، بما هي ممارسة بدأت، عملياً، مع L’attente l’oubli في سياق الكتابة الروائية، قبل أن تُدرِجَ التأمّل النظري الخالص مع L’entretien infini. ليندمج التأمّل النظريُّ مع الإبداع السردي والشعري في صيغة واحدة مع كتابيه: Le pas au-delà و «كتابة الفاجعة»، رغم اختلافاتهما البنائية.
يرى بلانشو أنّ الكتابة الشذرية تتشكّل وفق الضّرورة الشّذرية، التي تتّصل بتمثيلٍ معيّن للزمن، وليس وفق ضرورة الكلّ أو الكلّية. وذلك ما يقيم التمييز بين الكتابة الشذرية من جهة، والشّذريّ أو الضرورة الشذرية من جهة أخرى؛ فالشذريُّ، بما هو»لغةٌ أخرى» لا يتطابق مع الشّكل الذي يرتبط بممارسة فعل الكتابة الشذرية، لأنّ الشّذريّ لا يمكن أن يحضرَ ويتجلّى إلا عندما يُقال كل شيءٍ، وينتهي منجزاً مكتملاً بصفته لوغوس، ويُستنفدُ الكلامُ عند نهاية المكتوب، سواء أكان قصّةً أم قصيدةً أم سيرةً مُتخيّلةَ.
ولهذا السبب لا يتقدّم الشذريُّ إلا من حيث كونه ضرورةَ وفرضيّةَ وليس حقيقةَ. والكتابة التي ترتهنُ بالخطاب وتهتمّ به لا تستطيعُ أن تكون ممارسةً للشّذريّ، بل تحيله إليه وحسب. وليست الشذراتُ التي تنشئها سوى علاماتِ وسماتِ الشّذريّ، وليس بوسعها أن تقومَ بشيءٍ عدا استقبال الشّذريّ والاستجابة لضرورته.
تركيب:
تُشكّل ترجمة عزالدين الشنتوف العالمة لـ»كتابة الفاجعة» واستضافة هذا العمل باللّغة العربية حواراً معرفياً، وفتحاً في حقل الترجمة، يُتيح الانفتاح على فلسفة بلانشو، مع ما تطرحه من قضايا وأسئلة متشعّبة. وقد كان الرّهان على الترجمة البحثيّة والوعي بمشروع موريس بلانشو الكتابي، كما جسّدتهما مقدّمة المترجم، مدخلين رئيسين، يجعلان من هذه الترجمة استثناءً، يهيّئُ للقارئ مفاتيح مواجهة كتابة بلانشو بعنفها واشتباهها وتناقضاتها.
* الترجمة العربية الأولى لكتاب موريس بلانشو «كتابة الفاجعة l’ecriture du désastre» لصاحبها عزالدين الشنتوف، الصادرة عن دار توبقال للنشر، والحائزة على جائزة الأطلس الكبير في دورتها الخامسة والعشرين(2019).
* كاتب وباحث مغربي
حاصل على شهادة الدكتوراه في التصورات النظرية للأدب العربي الحديث