1
في التسعين من عمره (أمده الله تعالى بالصحة والعافية)، ولهذه المناسبة تحديدا، تتحقق تقاليد الاحتفاء الرمزي بالاسم العلم الأستاذ عبد الله العروي(1933)، في نوع من الوفاء وتجديد الوفاء لمسار فكري، إبداعي، عقلاني وتنويري أثار وما انفك، العديد من التساؤلات منذ نهاية الستينيات حين أصدر الكتاب العمدة «الإيديولوجية العربية المعاصرة» (ماسبيرو/ 1967) باللغة الفرنسية، فيما ظهرت الترجمة الأولى عن (دار الحقيقة/بيروت/ 1970)، وهي الترجمة التي أقدم عليها اللبناني محمد عيتاني(1926/1988)، وضمت تقديم المؤرخ الفرنسي مكسيم رودنسون (1915/2004)،حيث جاءت بداية التقديم كالتالي:
« هذا كتاب مرموق، بصفاء نظرته، وإخلاصه. ولسوف تبدى الدهشة يوما لأنه لم يكتب قبل هذا الحين، لشدة ما يبدو من أن الحاجة تتطلبه. لكن الأمر هو، كما قال قائد عسكري عظيم أو لاعب ماهر في الشطرنج، ما عدت أذكر اسمه، إنه بعد كسب معركة ما، ينبغي كسبها مجددا. بل إنه لمن المدهش الآن أن هذا الكتاب قد كتب، لكثرة ما كان يستوجب الأمر من مزايا متضافرة ليكون مؤلفا جديرا بالدور الذي وفره له تطور الأفكار التاريخي. ويثبت عبد الله العروي أنه جدير بذلك.» (ص:5)
على أن في الترجمة الثانية التي صاغها الأستاذ عبد الله العروي، وصدرت عن (المركز الثقافي العربي/بيروت/1995)، تم حذف تقديم رودنسون.
2
لقد مثل الكتاب العمدة، وما تلاه من مؤلفات، نواة المسار الفكري للأستاذ العروي. النواة التي انبثقت عنها مؤلفات فكرية عربية تناولت بالتحديد قضايا ومشاكل التخلف والتقدم والعلاقة مع الغرب، إلى رسم صورة عن أساليب التعبير الأدبي عن الذات. بيد أن ما لا يجدر الغفل عنه، كونه البداية الحقة في التأليف والكتابة أدبية. ودل عليها نص «رجل الذكرى» الذي كتب في (1958)، وأعيد النظر فيه في (1960)، لينشر ضمن العدد الأول من المجلة الرائدة «أقلام»بعد رفض نشره في مجلة «دعوة الحق» بمبرر غموضه. هذا النص حدده الأستاذ العروي أجناسيا في «حوار تلفزيوني»، وضمه لاحقا إلى قصة «الغربة»، أقول قصة في طبعتها الأولى (دار النشر المغربية/1971)، علما وكما أشرت غير ما مرة، بأن النقود الأدبية التي تولت بالدراسة والتحليل والتأويل هذه القصة، لم تهتم بملحق «رجل الذكرى» الذي يعلل الأستاذ العروي إضافته بكونه يبدد الغموض الذي يسم نص القصة. وأعتقد بأن عدم الاهتمام قاد إلى حذفه في الطبعات اللاحقة لقصة «الغربة»، ليتم صدوره بشكل مستقل عن(المركز الثقافي العربي/بيروت/ 2014).
يرد في التقديم له:
« قرأت مؤخرا رجل الذكرى بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود. استثقلت الأسلوب غير المتجانس وزدت قناعة أن المرء لا يتعلم الكتابة إلا بالكتابة. لذلك قررت مراجعة النص مراجعة تامة حتى لا ينفر من مطالعته قراء اليوم.» (ص:5_6)
والملاحظ بخصوص هذه البداية الأدبية الأصل، طبيعة الاهتمام الذي يوليه الأستاذ العروي لشكل الكتابة. إذ حافظ على اعتبار «الغربة» قصة وليس رواية، و»رجل الذكرى» بمثابة حوار تلفزيوني وليس مسرحية، وكأن مفهوم الكتابة الأدبية لديه يجب أن يتأسس انطلاقا من بداياته الموازية لنشأة وتكوين المجتمع العربي، وهو الجانب المعبر عنه في الكتاب العمدة وبالضبط في الفصل الموسوم ب «العرب والتعبير عن الذات». على أنه لم يحدد الهوية الأجناسية لبعض مؤلفاته، كمثال «استبانة» (المركز الثقافي للكتاب/بيروت/ 2016). وهو الكتاب الذي يبدو أقرب إلى الاعترافات.
بيد أن الهوس بشكل الكتابة يمس اللغة، وبالضبط لغة السرد الروائي. فالأستاذ العروي يدخل تعديلات على صيغة الكتابة، وهو ما يحتاج إلى دراسة أعمق تستند للمقارنة بين رواياته في طبعاتها الأولى واللاحقة. وتكفي في هذه الكتابة الاحتفائية الإشارة إلى فصلي «الفقيه يترنم» و «دعاء السارية» في قصة « الغربة».
إن الكتابة الأدبية فرضت ذاتها بالموازاة والمسار الفكري، وتنوعت صيغة وشكلا وفق الإشارات الواردة في يوميات «خواطر الصباح». وهو المنحى ذاته الذي نهجه الراحلون: محمد عزيز الحبابي، محمد زنيبر، عبد الكبير الخطيبي، وبنسالم حميش أطال الله تعالى في عمره. ويمكن أن نضيف سعة الاهتمام بالتجارب الروائية العالمية تمثيلا واستشهادا على المستوى الفكري، من منطلق كون الرواية صورة عن العالم؟
3
رسم الأستاذ عبد الله العروي صورة المثقف الموسوعي الجامع. إذ يخوض في مختلف القضايا التاريخية، الفلسفية، اللغوية، الأدبية والسياسية، معتمدا التفكير العميق كأساس، ومرتهنا لقواعد المقارنة بين ما ساد في مرحلة زمنية مضت وما يطبع الراهن من تحولات، علما بأن ما ظل يهيمن على تفكيره وكتاباته سواء الفكرية أو الأدبية مسألة التأخر والتقدم، وكيف يتأتى بناء حداثة تؤسس لمجتمع مدني وديمقراطي.يقول محمد نور الدين أفاية في كتابه « النهضة المعلقة» (المركز الثقافي للكتاب/بيروت/ 2020):
« ولعله من قبيل تحصيل الحاصل القول إن العروي في (الإيديولوجية العربية المعاصرة)، وفي غيره من مؤلفاته، أظهر قدرة لافتة على السؤال والتفكير، وعلى تجاوز صفة الباحث في تاريخ الأفكار، ليكثف مقومات مفكر يحركه نزوع نقدي مسكون بقضية الإنجاز التاريخي للمفاهيم.» (ص/ 64)
وتحق الإضافة في هذه المناسبة الاحتفائية التسعينية الرفيعة، إلى كون الأستاذ عبد الله العروي يرسخ تقاليد البحث الفكري العميق بالإقدام على ترجمة ينابيع الفكر العالمي التي تعزز التوجه وتستكمله، ونستدل ب» تأملات في تاريخ الرومان» (مونتسكيو / المركز الثقافي العربي/ بيروت/ 2011)، «دين الفطرة» (جان جاك روسو/ 2012)، «شيخ الجماعة» (هنري دي مونترلان/2013) ومؤخرا « مقالة في السياسة» (المركز الثقافي للكتاب/ 2023). والواقع أن صورة الأستاذ العروي مترجما تقتضي إفراد بحث خاص تستجلى فيه عوامل اختياراته، ومدى الإضافة المتحققة للمعبر عنه في مساره الفكري. وأستحضر في هذا المقام ملاحظة كان أبداها الأستاذ عبد الفتاح كيليطو في كتاب من كتبه، ومؤداها كون الأستاذ العروي الوحيد الذي يسهم بالنقل من اللغة العربية إلى الفرنسية.
4
في التسعين من عمره(أمده الله تعالى بالصحة والعافية)، يواصل الأستاذ عبد الله العروي كتاباته القيمة. ويحرص غاية الحرص على الالتزام بالمسار الذي وفى وأوفى له، ولعل الدليل الأمثل صدور – إذا حق – الجزء الخامس من يومياته التي اختار تحديدها في «يوميات كوفيد» (2023)باللغة الفرنسية، وتمتد من (2013) إلى غاية (2023). ويتناول فيها كالمعتاد قضايا ذاتية وفكرية وسياسية مغربية وعربية ودولية، في نوع من المتابعة الدقيقة والتحليل الرصين الدال على عمق تحليل للقضايا التي تشغل وينشغل المغرب والعالم بها ككل. وتقتضي الإشارة إلى كون الجزء الرابع من هذه اليوميات شمل السنوات من (1999) إلى (2007) و وسم ب « المغرب المستحب أو مغرب الأماني».
على أنه وبالموازاة وهذه اليوميات، أصدر الأستاذ عبد الله العروي – كما سلف- «مقالة في السياسة» لـ سبينوزا. ومن ثم فهو ينحو ذات الخط الذي استنه منذ نهاية الستينيات، والمتمثل في إثراء الفكر العقلاني والتنويري، و تزويد المكتبة العربية بما هي في أمس الحاجة له وإليه.