في الحاجة إلى الأنوار

تعريف الأنوار في بضع كلمات؟ التمرين يدخل في نطاق المراهنة: دامت هذه الحركة في الحقيقة أكثر من قرن، وتطورت في العديد من الدول، وشهدت بالأخص مواجهة بين آراء متضاربة. حتى أن هذا التعقيد يُشكل سمة الأنوار الأولى، وعلى خلاف ما هو شائع، فمن الاختزال بما كان الحديث عنها كما عن تيار فكري أحادي الجانب. الأنوار، في الواقع، تحيل على فترة تجميع وتركيب، وليس ابتكار أصيل بالكامل؛ قامت باستيعاب إرثِ فِكرٍ بدأ منذ نهاية العصر الوسيط وتكرست عناصره إبان عصر النهضة والقرن السابع عشر.
سلطت الأنوار الضوء على مذهبي العقلانية والتجريبية (ليس من خلال المجاورة بينهما وإنما الربط)، ونادت بمعرفة القوانين الخالدة وتاريخ الشعوب على حد سواء، وكرست تعدد الثقافات كما وحدة الحضارة. دافعت الأنوارفي الوقت ذاته، عن العقل والمشاعر، وعن الجسد والعقل، وعن الفنون والعلوم، وعن الاصطناعي والطبيعي، وطبعت كافة ميادين الابداع الفكري من الفلسفة الى العلوم مرورا بالأدب، والقانون، والرسم….
جِدة الأنوار تكمن في مغادرة الأفكار للكتب لتجد تطبيقها في الحياة اليومية، وهو التحول الذي أخذ مع نهاية القرن أشكالا مُدوية: حرب الاستقلال الأمريكية والثورة الفرنسية ! وبالتالي فتعريف الأنوار لا يمكن أن يتم إلا على حساب العديد من التبسيطات: مهما كان التعريف المُعتمد، يُمكن دائما مواجهته باستثناءات.
غالبا ما ينسب الفرنسيون الأنوار إلى أنفسهم: لا شيء من ذلك، الأفكار الكبرى للأنوار نشأت أولا في بريطانيا العُظمى أو إيطاليا، ثم تعمقت لاحقا في ألمانيا. كانت باريس ببساطة صندوق الصدى الذي حمل هذه الأفكار إلى باقي أرجاء العالم، بفضل إشعاع الروح الفرنسية، وبفضل مُبَسِّطِين من الدرجة الأولى، مثل فولتير أو فريق الموسوعة (الإنسكلوبيديا)، التي غالبا ما يتم نسيان حقيقة أنها صِيغت كرد على موسوعة إنجليزية نُشرت سلفا.
وبالتالي فموطن الأنوار الفعلي هو أوروبا. فها هو مونتسكيو يجوب عدة بلدان أوروبية، وها هو فولتير يستقر في إنجلترا، وها هما الإسكتلندي هيوم والإيطالي بكاريا يقطنان باريس لفترة طويلة من الزمن. كتُب هؤلاء وأولئك تُرجمت، وحُملت على رؤوس الأشهاد أو اِنُتقدت؛ حتى أنها كانت تُنشر في الخارج أحيانا، بما أن مؤلفيها كانوا مُضطهدين في بلدانهم، لأن أفكارهم تُزعج!
إذا كُنا نُريد تقليص الإرث الفكري للأنوار إلى نواة هي بمثابة حده الأدنى، فعلامَ يجب التركيز؟ فكرة الاستقلالية: إمكانية الانعتاق من الوصاية التي تفرض على كل شخص نمطا واحدا من التفكير والشعور، أي الديانة المسيحية في ذلك الوقت؛ ما يجعل المكانة التي يحظى بها الدين داخل المجتمع موضع تساؤل. هذا البحث عن الاستقلالية يمس كافة مجالات الحياة: بداية من المعرفة: تحررت هذه الأخيرة من كل رقابة أيديولوجية، لُتحقق بذلك نجاحات باهرة. وأيضا القانون، والتربية، والفنون…
تطبيق فكرة الاستقلالية يكون على المستوى الفردي – ينبغي أن يكون كل شخص قادرا على تدبير حياته الخاصة بالشكل الذي يراه مناسبا – كما الجماعي: أن يكون للشعب الذي يتمتع بالسيادة القدرة على صياغة قوانين تُدير حياته واختيار الأشخاص الذين يتولون إدارة شؤون البلاد. بسبب هذا التعدد في الاستقلاليات، يجب على السلطات، داخل دولة ما، أن يمنع بعضها بعضا من أن تُصبح مُطلقة. الحرية الفردية تحد من السيادة الشعبية، بما أن العكس صحيح أيضا: الحرص على الصالح العام يُقَيِّدُ التطلع إلى الاكتفاء الشخصي. كل ذلك علما أن مُتَطلَّبُ الاستقلالية نفسه ليس مُطلقا. تَحُدُّهُ من جهة الغاية الممنوحة للفعل العمومي: خدمة رفاه الساكنة (غاية إنسانية خالصة إذا) و، من جهة أخرى، مبدأ الكونية، أي الاعتراف بالمساواة في الكرامة بين كافة البشر – ما ندعوه اليوم بحقوق الإنسان.

الظلامية والاختزالية

تظل روح الأنوار مهددة اليوم كما في وقتها. أولا من طرف أعدائها المُعلنين، الذين يرفضونها بالجملة. تُمثلهم، أساسا، مُختلف التيارات الدينية مهما كان توجهها: يهودي أو مسيحي، هندوسي أو مسيحي. هم يرفضون، بحسب الحالات، أن ترتكز قوانين الدولة على أساس إنساني محض، أو أن تمتنع الدولة عن محاكمة معتقدات رعاياها، أو ألا تُقيم المعرفة أي اعتبار للكُتب المقدسة. التهديد الثاني يُشكل خطرا اكبر، لأنه ينبع من أولئك الذين ينتسبون إلى الأنوار ولكنهم لا يأخذون سوى عُنصر ويتجاهلون بقية العناصر، من خلال جعله قاعدة لدوغما جديدة. إذا كان التهديد الأول هو تهديد الظلامية، فإن التهديد الثاني يُمكن نعته بالاختزالي.
لكن الاختزالية ليست وليدة اليوم، ولادتها كانت مع الأنوار: خلال القرن الثامن عشر، كان البعض يُؤمن بأن تاريخ الشعوب يتقدم وفق مسار خطي ومنتظم؛ أما البعض الآخر (أو البعض نفسه) فكان يعتنق «مذهب التفاؤل» الاجتماعي، مُعتقدا أن جميع آلام البشرية ستندثر بمجرد اعتماد أفضل تربية وأفضل حكومة. لكنه لم يكن اعتقاد مُفكري الأنوار الأكثر تبصرا، على غرار جان جاك روسو في فرنسا : لقد بقي ابن جونيف على وعي تام بِبُعْدٍ تراجيدي للشرط البشري لا يُمكن اختزاله؛ فلم يجهل تآزر المكاسب والخسائر التي يأتي بها كل «تحسين»، وأقر أن «الخير والشر يتدفقان من نفس النبع».

توازن مُعقد

لكن اختزالات من هذا القبيل لم تغب لاحقا. بالأمس، قام النظام الشمولي بحذف الحريات باسم إرادة شعب تفل الجبال، والتي كانت، في حقيقة الأمر، مُصادرة من طرف الطغمة الحاكمة؛ كما أنه أخضع الحياة الاقتصادية لمقولات السياسة، دافعا بالبلاد نحو حالة الندرة الدائمة. اليوم، اللبرالية المُفرطة تُزيح كل قيد عن الرغبات الفردية، وتتخلى عن فكرة الصالح العام، من خلال إخضاع المؤسسات السياسية لمتطلبات الاقتصاد، التي أصبحت غاية في حد ذاتها. بهذه الطريقة، ومن خلال الوفاء الحرفي لبعض أفكار الأنوار، نخون روحها بنزعها من الكَلِّ المترابط الذي تنتمي إليه.
ومع ذلك، فمبادئ الأنوار الكبرى تظل راهنية اليوم أكثر من أي وقت مضى. يُمكن أن ننتسب إليها مثلا من أجل محاربة التزييف العلمي باسم الدين؛أو من أجل إدانة التعذيب حتى لو كان باسم المصلحة العليا للدولة، والتنديد بالحروب الموجهة لجلب الأنوار لأولئك الذين يفتقدونها؛ أو من أجل احترام التعددية الثقافية في ظل الانتساب إلى بعض القيم الكونية؛ أو من أجل اعتبار النجاح الاقتصادي كوسيلة وليس غاية؛ أو من أجل تعزيز التعددية السياسية داخل الدول وبينها. كٌلها أمور يُمكن أن نفعلها، لكن بشرط عدم اختزال هذا الإرث في بضع تعاليم، والحفاظ على غناها والتوازن المعقد الذي كانت تصبو إلى إقامته بين مختلف أوجه الشرط البشري.

Le Point n° 26, Hors-série, La pensée des lumières


الكاتب : سفيتان تودوروف / ترجمة: يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 21/06/2024