«آه ، كم أحببنا بعضنا البعض كثيرا..»
إيطوري سكولا.
صدر للكاتب أحمد الخالدي كتاب بديع تحت عنوان»بهاء ذاكرة» يدعّمه عنوان فرعي اختار له جنس:سيّر مبدعة عن دار سليكي أخوين بطنجة،2023.
الكتابة و منطق التثنية:
بني هذا الكتاب من حيث الشكل والصورة على ثنائيات عدة.فهو أولا بفصلين الأول حول المدينة (أصيلة) والكتابة، والثاني بعنوان سيّر مبدعة.عنوان الكتاب نفسه بمثنى اللفظ «بهاء ذاكرة». وكل عناوين الفصلين برمتها ثنائية يربط بين طرفيها إما واو المعية أو الفاصلة كعلامة للترقيم.وكل شخصيات الفصل الثاني تحمل في عناوينها صفات مثنية وتتوزع إلى سرد من جهة وحوار من جهة ثانية.
حتى تقديم الشاعر حسن وسيني لا يخلو من ثنائيات. عنوان تقديمه يجمع بين «حكاية البدء»و»ذاكرة تحكي». وصلب تقديمه بني على المثنى من الثنائيات: «العود الأبدي»و «ضربة المطرقة»تيمّنا بنيتشه.ثم تثنية الذاكرة فهي مرة «ذاكرة خلاقة» و»ذاكرة الحكي»أو»حكي الذاكرة»ومرة أخرى»ذاكرة الذاكرة»أو»أدب الذاكرة» إلى حدّ الوقوف على الأضداد باعتبارها ثنائيات غير تكرارية كـ «الواقعي مقابل المتخيل» و «الحس الفلسفي مقابل الحس الفني» والوعي الثقافي مقابل الوعي السياسي»…
لهذه الثنائية كمفهوم فلسفي (ديكوطومي)منطق خاص هو الذي يدعّم ويؤطّر كل معمار «بهاء ذاكرة» مجدا وعظمة وإشراقا ونضارة. هذا المنطق التقابلي صاغ إشكاليته الشاعر حسن وسيني في تقديمه على الشكل التالي :»هل هناك جسر واصل بين الكتابة والقيم التي يتحدث عنها الكاتب طي مؤلفه:الصداقة، السعادة، التواصل،المدينة…» (ص 6)أي ما علاقة الكتابة (الذاكرة، الثقافة، الفلسفة،الأدب، السينما، التشكيل..) بالقيم الإنسانية، علما بأن هذه الأخيرة لا تستقيم في السرد أو في الاستشكال إلا مثنوية.؟
إن اختيار الكتابة بدل الاكتفاء بالشفوي في الحديث عن حنين (نوسطالجيا) الذاكرة والمدينة اختيار ثقافي.يقول الكاتب أحمد الخالدي «لم أجد، من جانبي، على الأقل لتجاوز عجزي أمام ما تواجهه المدينة و البلد بوجه عام، إلا وسيلة اللجوء إلى الكتابة …إنها الكتابة عن مدينة وأصدقاء …إنهم روح المدينة وسر سعادة أهاليها،وجمالها الإنساني الأسمى.»(ص 29). هاجسه الألمع في هذا الاختيار هو بسط دروب عدة لبلوغ المقاصد الإنسانية النبيلة في مدينته ولدى أناسها البسطاء.
كانت الثقافة الفلسفية هي مسلكه الأول.حضور هذا المسلك بارز باد في كل أركان هذا الكتاب كاعتماده على نيتشه في وصف الحاجة إلى الصداقة وعظمة البداية أو الرجوع إلى أوغست كونت للإشارة إلى «ملذات الوفاء» وحب الغير في الشدائد، وجيل دولوز ..و هيباتيا…و م. ع. الجابري..
مسلكه الثاني هو الثقافة السينمائية ووقوفه مليا عند شريط إيطوري سكولا المحتفي بمحبة الأصدقاء وتآزرهم أمام محن الحرب وغشوم الفاشية وإشارته إلى ريادة السينما الواقعية الإيطالية.
مسلك الأدب مع الإحالة إلى ج. أورويل وسياسة الأخ الأكبر..و محمود درويش وشعرية أحد عشر كوكبا وبودلير وأزهار الألم.. ثم مسلك العمل الثقافي الجمعوي في تجربة جمعية قدماء الإمام الأصيلي والتعلم لأول مرة من «أول مرة» ثقافة الالتزام والتعاون والتعاضد..
وأخيرا مسلك الفن التشكيلي وابتهال الذوق الجمالي لإدراك قيمة الجمال وتعميم أريجها ومناهضة القبح، سواء في السلوك المدني أو في اهتبال فرص المسامرة و الاحتفال..رامبرانت والفيلسوف المتأمل وغوغان وأسئلة الوجود.
بهذا الإبداع المتعدد الأوجه يمكن بلوغ القيم .رصدها ووصفها والتيمّن بها في مضّانها وعند أهلها.»إن الإبداع الحقيقي،في رأيي، هو الذي يسمو بوجودنا إلى أعلى مراتب السعادة الروحية والجسدية، ومدينة أصيلة، رغم محنها الكثيرة، تسمح بهذا الارتقاء والتسامي، فهي مدينة جميلة ومفتوحة على العالم ، وأناسها بسطاء، طيبون، يقنعون بما توفر لديهم، أوليست السعادة زهدا وكفافا؟ (ص36).
السرد و الحوار:
كان السرد الأبدي (ولم أقل الأدبي) ولم نكن..وسيبقى إلى الأبد ولن نكون. لذا فنقطة بداية الحكي لا معنى لها في سياق الأبدية.إنها «صيرورة ونمو وحركة دائمة، يجب أن نفكر فيها بوصفها حدثا وليس زمانا له بداية و له نهاية»(ص 5) السرد أو الحكي أفق من آفاق هذه الثنائية «البداية والنهاية» تسعفهما ثنائية أخرى هي «التذكر والنسيان»..نتذكر البداية لأننا نسيناها وننسى النهاية لأننا نجهلها.لذا قال أفلاطون:»العلم تذكر والجهل نسيان»كان ذلك يوم رفع من شأن الخطاب الشفوي وحط من شأن الكتابة .لأن الكتابة تدنّس الخطاب وتقيّد حرية الخطيب وتحد من خيلائه «إن الكلمة المنطوقة أقرب إلى الحقيقة من الكلمة المكتوبة»(ج لاكان).في الأطراس والألواح والآجور يوم قيّدت الكلمة اغتنت الذاكرة وتحصّنت ضد الموت لا الفناء ،لأن الفناء لانهائي في ثنائيته سواء من حيث السلب اللانهائي أو الإيجاب اللانهائي (الكاووص).ضمن هذه الثنائية جعلنا لأنفسنا ماضيا و حاضرا و مستقبلا تراقبه تثنية ذاكرة استرجاعية وأخرى استشرافية، تحيا بينهما الكتابة في آنها وتموت،بحثا عن المعنى.ولامعنى للكتابة بدون بحث عن المعنى.فهي أثر دال على الأحاسيس والانطباعات ..هي القيم المبتغاة ، مقاصد الكتابة العليا والنبيلة أي قيم الحب، الصداقة، الإيثار، الفضيلة ، المروءة، السعادة..
«لامعنى» الحياة يساوي العدم في البداية وفي النهاية، هي الفوضى، التيه، الغمام،العمى..لذا لا بد من اختيار الإيجابي من بين ثنائيات هذه القيم: الحب بدل الكراهية، السعادة بدل الشقاء، الصداقة بدل العداوة، الصدق بدل الكذب…
أول حب ابتلى به الكاتب أحمد الخالدي هو حب بلدته الأطلسية «أصيلة».حب الكتابة عنها وصفا، ليس فقط «لمحنها ومشاكلها التي لا تنتهي، و»إنما الكتابة أيضا عن بعض شخوصها وأمكنتها الدافئة الحميمة «(ص 15).لا يتصل الأمر بكتابة تأريخ للمناقب بل هو محبة وبحث عن المعنى:معنى الحياة منظورا إليها من زاوية السمو الروحي والأخلاقي والشموخ والتعالي الذي يعلو ويدنو من الصداقة والسعادة.
يرنو الكاتب أحمد الخالدي من جهة أخرى إلى محبة الصدق الصداقة من حيث هو «قيمة و فضيلة وبوح وعطاء»(ص17). بالصدق تتوطد الصداقة والصديق من صدقه والصادق من صدوقيته..لذا قال أرسطو:»آه يا صديقي ليس هناك من صديق ..أصدق منك».إن حب المدينة يعني حب أهلها ..فرغم أن أصيلة «مدينة صغيرة لكن محنها كبيرة». ورغم بساطة أهلها فهم سعداء.»سعداء ما زالوا يحافظون على كبريائهم، يحمون ذواتهم وأسرهم من تأثيرات إغراء السلطة والمال والجاه وعدم السقوط في نظام النرجسية العمياء..»(ص19).هكذا يتساءل الكاتب أحمد الخالدي بصريح العبارة:»لماذا هم سعداء في مدينة المحن؟(ص20) محن المدينة جاءتها دوما من البحر ونادرا من البر(الشرقي مثلا رغم بعض منافعه والعشب الأخضر وتحولاته) رغم أن البحر ذاته لا يخلو من ثنائية: عمقه خير وثراء وأمواجه وأنواؤه وعواصفه شر وبلاء. فمنه جاء الاستعمار البرتغالي ثم الإسباني وبسبب هيجانه أعلن الحداد أكثر من مرة في العديد من عائلات البحارة.. ولعنة الميناء القاتل ما زالت حتى الإصلاح الأخير ماثلة للأعين والعيان..بعضهم ظن أن المواسم الثقافية قادرة على إنعاش اقتصاد البلدة وإذا بها لا تكفي ذاتها ولا إدارتها لولا المساعدات الأخوية . الجفاف الحاصل من الأعوام العجاف سرّع وتيرة الهجرة القروية فأنبت أحياء كالمكسيك والبويبلو والعشب الأخضر عطل اليد العاملة وحولها من جنس الذكور الكسالى إلى جنس الإناث العاملات النشيطات..أما الهجرة إلى أوربا فقد تركت البلدة عقاريا سكنا للأشباح. ..محن في محن.
فمن أين لها ولسكانها بالسعادة؟ الحديث عن السعادة يقصي إقصاء لا رجعة فيه فئات من ذيول الوصوليين والجشعين وذوي الزلفى والاتّكاليين. فهو لا يخصّ سوى البسطاء الذين يقيسون نمط العيش ببيض النمل.. به كمقياس يقنعون في عيشهم بالكفاف والعفاف والغنى عن المرتزقة:القليل من سمك السردين أو الشطون والعدس أو صحن من الفول والجلبان المطهّي طهيا وزيت الزيتون والخروب الحار..يكفيان ليسمو هذا الجسد الضعيف والبسيط في سماء التسامح و الإيثار لمؤازرة وحب الألوان البيضاء والزرقاء النيلية للمباني والخضراء لأصص النبات والغروس المبهجة .
لم هم بسطاء؟لأن البساطة التي اختاروها في حياتهم زكتها تمارين الزهد والتحمل والمقاومة «تعلمنا أن الألم جزء من أمل الحياة، و أن الحياة يسكنها الموت و أن السعادة بدون شقاء وجهد واستحقاق، وبدون ألم لا قيمة لها» (ص22).البساطة كمبدأ في الحياة تسهّل ممارسة الإيثار ونكران «الذات القصدي» وتمنح مساحة شاسعة لمحبة الغير ومغازلة الغيرية .البساطة موحّدة تكره التفاضل والتّطاوس .سعداء المدينة يرون مدينتهم أفقا مفتوحا على مصراعيه ضد الشوفينية والعنصرية، في هذا الأفق يتعاطون لطقوس الأممية والعالمية . سعداء العالم .هذا فضلا عن أن البساطة صفة من الصفات الربانية.فالله بسيط لأنه غير مركب. والتركيب شرك وفساد.لذا البساطة أصل. وكل أصل عظيم « ما يولد عظيما يبقى عظيما» أي مقاسا على أصله و فصله.
في رسالته حول الثقافة (ص 41/47)ينتصر الكاتب أحمد الخالدي للثقافة الجديدة. ضدا على الثقافة العتيقة وعلى ربيباتها بكل تلاوينها الرجعية والليبرالية أو التكنوقراطية.ويعتبر أن جدّة هذه الثقافة تكمن في حسّها النقدي المراجع حتى للبداهات وفي جرأتها التساؤلية بله الشكّية وفي ميلها إلى تغيير الأشياء بدل الاكتفاء بتفسيرها.»فالاختلاف والجدل والحوار والنقد ،هو جوهر الثقافة المبدعة..وهذا ما يقلق خطاب السلطة ..كيفما كانت هذه الأخيرة.»(ص45).
في هذه الثقافة فائدة وليست منفعة.إنها تفيد التنوير بما هو متصل بالعقل ونضج الإنسان وتفيد تثقيف الإنسان وصقل ذائقته الجمالية والروحية ..وهي لا تؤجل المتعة وخيراتها إنما تنشدها في هذا العالم وفي حدود الإنسية لا أكثر ولا أبعد من ذلك.الثقافة تشذيب لعود الناس والأخلاق تقويم لمسلكيات هذا العود. لذا لا يدرك القيم النبيلة ولا المعاملات الأريبة الماهرة والعاقلة إلا الذي أوتي قسطا من هذه الثقافة الجماعية الجمعوية، وكان سعيدا.
……………………..
سعداء المدينة الذين شكّلوا العيّنة التي اختار الكاتب أحمد الخالدي سيّرها السعيدة المبدعة، فيها التاجر الساخر(خليل البقالي) والفنان الرسام (عبد الإله بوعود) والشاعر اللاأدرية (شفيق الإدريسي) والأستاذ المربي(أحمد الشنتوف) والمثقف المشّاء(محسن غيلان) والطبيب المبدع (محمد ربيع غيلان) والموظف النّزيه (البشير مالك الزبير) و الرياضي الهاوي (أيوب المالكي) والأديب الفيلسوف (عبد السلام الجباري).
كلّهم بدون استثناء يتميّزون بصفات مثنية القيمة..فالواحد منم شاعر رحال والآخر مربي أستاذ والثالث أديب مفكر….و المشترك بين كل هؤلاء الأصدقاء هو أنهم سعداء في بيئتهم ومجالات تخصصهم.فالبقال خليل يصرّف سعادته سخرية ويدخل الفرحة على قلوب زبنائه ومجالسيه، والأستاذ الشنتوف يترجم سعادته تدريسا وتوجيها لتلامذته، والمشائي محسن يعتقد جازما أن السعادة في المشي كما الفلسفة لدى أرسطو، والحكيم ربيع في شفاء مرضاه والموظف مالك الزبير في أداء وظيفته على أحسن ما يرام، والرياضي أيوب في إذكاء روح المنافسة بين مريديه، والفيلسوف سي عبد السلام في التقاط الحدث الواقعي وتحويله إلى حدث خيالي..كم يكون سعيدا .وهم في كل هذا من المحبّين القانتين، يمارسون وظيفتهم أو هوايتهم و «يأتون عملهم وهم من الصادقين».
لكن اليوم، خفت الكلام عن هذه القيم ولم يعد لها من تلك القداسة إلا القشور والبثور..و انقلبت ثنائية القيم على وجهها السالب كما ينقلب المجنّ..و بات الأردياء يصولون ويجولون في الوسائط الاجتماعية بلا رقيب ولا حسيب وعلا الصدأ ذاكرة كانت بهية.
«آه يا بهية ..الزمان شاب وأنت شابة ..هو رايح وأنت جاية».