ختم المخرج والممثل فوزي بنسعيدي كلمته التي ألقاها، مساء يوم أمس الأربعاء، في حفل تكريمه بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش، بمقطع من قصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير (لماذا تركت الحصان وحيدا؟):
«إلى أين تأخذني يا أبي؟/ إلى جهة الريح يا ولدي/… وهما يخرجان من السهل، حيث أقام جنود بونابرت تلاً لرصد/ الظلال على سور عكا القديم/ يقول أبٌ لابنه : لا تخف. لا تخفْ من أزيز الرصاص! التصقْ/ بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على/ جبل في الشمال، ونرجع حينَ/ يعود الجنود إلى أهلهم في البعيدِ/ ـ ومن يسكن البيت من بعدنا يا أبي؟ / ـ سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي! / تحسس مفتاحه مثلما يتحسس/ أعضاءه، واطمئن. وقال لهُ/ وهما يعبران سياجاً من الشوك /يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ/ أباك على شوك صبارة ليلتين/ ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا/ ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم/ سيرة الدم فوق الحديدِ/ ـ لماذا تركت الحصان وحيداً؟ / ـ لكي يؤنس البيت، يا ولدي، / فالبيوت تموت إذا غاب سكانها».
لقد كانت لحظة مؤثرة جدا وهو يستشهد بقوة الكلمة، مستعرضا جانبا من حكاية لقائه مع السينما قبل 25 سنة، أي السنة التي أخرج فيها فيلمه القصير الأول (الحافة/1998)، وهو الفيلم الذي أشر على طبيعة إدراك وفهم بنسعيدي للفعل السينمائي واللغة السينمائية بشكل خاص، إلى درجة أن المهتمين بأعماله اعتبروا أن هذا الفيلم هو أم كل أفلامه، ولا يزال، إلى حد الآن مع فيلمه الأخير (الثلث الخالي/ 2023) يمثل طبيعة التفكير السينمائي الفني عند فوزي بنسعيدي، بل إن جميع الأفلام التي كتبها أو أخرجها ما هي إلا تنويعات على هذا الفيلم أو تفكيك لعناصره، أو محاولة لتكريس الخطاب السينمائي والميتاسينمائي عبر كشف المرجعيات والنبش المستمر في الهوامش العديدة التي يتيحها الفضاء المغربي على مستوى الأشكال والموضوعات.
وقال بنسعيدي أمام جمهور المهرجان إنه درس المسرح، وحين رغب في الانتقال إلى السينما شعر باليأس حين علم أن المخرج أورسن ويلز أخرج فيلمه الأول في سن الـ 25، وزاد من هذا اليأس حين فشل في الالتحاق بمعهد للسينما. وأضاف أنه حينذاك اعتبر أن الأوان قد فات، وأنه لن يدرك السينما وأن حلمه في إخراج فيلم أصبح بعيد المنال. ومع ذلك خرج من يأسه واعتبر أنه كان محظوظا بتلك الرغبة الجامحة والأكيدة في أن يكون قريبا من السينما.
وأضاف فوزي الذي كان يتحدث بنبرة مسرحية واضحة: «أخرجت فيلمي القصير الأول (الحافة) في سن الـ 30»، واعتبر أن ميلاد هذا الفيلم هو ولادته ثانية غير الولادة المسجلة المثبتة في أوراقه الرسمية.
وأردف قائلا: «عمري الذي قضيته في السينما هو 25 عاما، وأعتبر اليوم أنني أبلغ من العمر 25 عاما فقط، وفيلمي القادم لن يكون هو الفيلم السابع، بل سيكون فيلمي الأول، وكل أفلامي هي أفلام أولى، لأن السينما لا تصور اليقين، إنما تصور الشكوك والنواقص والحوادث والزلات».
وأعرب المخرج بنسعيدي عن استغرابه من الأفلام التي تعبر عن اليقين، متسائلا حول ما إذا كانت الأفلام الآن، كما يستهلكها الجمهور الواسع، مرآة لعصرها، لكون «اليقين هو بداية التطرف»، وفق تعبيره، وهذا ما تتيحه السينما اليقينية.
وتابع: «أردت أن أكون سينمائيا، وأردت أيضا أن أكون غنيا. غير أنني لن أصبح إطلاقا، لأن الأفلام التي أخرجها لا تراهن على المداخيل، لأنها ليست أفلاما تسير في الطرق السيارة للصناعة السينمائية، بل أفلاما «تفكر» (دون يقين)، اختارت أن تسير في الطرق الصغرى أو المسالك الهامشية».
ولم ينسَ فوزي بنسعيدي استحضار المحنة التي يمر منها الفلسطينيون، وقال: «المخرج لا يمكن أن يكون في منأى عن أصوات العالم، الأصوات التي تصلنا من العالم في هذه الآونة هي أصوات فظيعة ومؤلمة ومأساوية، أصوات استنجاد أطفال، نعيش في زمن المآسي».
إلى ذلك، استعرضت منشطة حفل التكريم، نبيلة الكيلاني، أهم المحطات في سيرة فوزي بنسعيدي، مذكرة بمشاركته، كمخرج سينمائي استثنائي، في أهم المهرجانات السينمائية العالمية (كان، البندقية، تورينتو، برلين..إلخ).
وقالت إنه مبدع متكامل (شاعر وزجال ومسرحي وممثل) يجري تشبيهه على نحو كبير بجاك تاتي، الممثل والمخرج السينمائي الفرنسي الذائع الصيت.
وعددت الكيلاني أعمال فوزي (الحافة، الحيط الحيط (فيلمان قصيران)، يا له من عالم رائع، ألف شهر، موت للبيع، وليلي، أيام الصيف، الثلث الخالي)، وهي الأعمال التي تتميز بواقعية يزينها وشاح السخرية.
وذكرت منشطة الحفل أن فوزي بنسعيدي، الذي وصفته بـ»الابن البار للسينما»، هو خريج للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط سنة 1990، وأنه انتقل إلى باريس لمتابعة دراسته العليا في جامعة باريس حيث حصل على الماجستير في المسرح، كما انضم بعدها إلى المعهد الوطني العالي للفن الدرامي بالعاصمة الفرنسية.
يذكر أن بنسعيدي اشتغل في المسرح وتعلم تقنيات التشخيص، وتعلم تقنيات السيناريو على يد السيناريست الفرنسي جون كلود كاريير الحاصل على جائزة أوسكار فخرية عن مجمل أعماله، كما أنه يدين بالكثير، كما يعترف هو بذلك، لأساتذة المسرح بمعهد الرباط، وعلى رأسهم الأستاذ أحمد مسعاية، صاحب كتاب «مسرح القطيعة».
ويعتبر فوزي بنسعيدي من أبرز المخرجين المغاربة الذين يتوفرون على رؤية سينمائية خاصة وشخصية تتجاوز الشكل التقليدي، لغة وبناء ومعالجة درامية.
وبعد الكلمة التقديمية لنبيلة الكيلاني، صعد على خشبة المسرح بقاعة الوزراء بقصر المؤتمرات ثلة من الممثلين الذين شاركوا كممثلين في أفلام ومسرحيات فوزي بنسعيدي، وهم: (نادية كوندة، محسن مالزي، عبد الهادي طالب، فهد بنشمسي، نزهة رحيل، هاجر كريكع، ربيع بنجيهل) قبل أن يلتحق بهم «محمد حميمصة» الذي شارك في فيلم «الثلث الخالي»، ليتناول الكلمة باسم كل هؤلاء الممثل ربيع بنجيهل الذي اعتبر أن وقفتهم جميعا على المسرح هي وقفة استثنائية، لأنها بوح في حق فنان، تقاسموا معه عشق المسرح والسينما. وأضاف: «نحن جميعا نشهد بلسان صريح وصادق وقلب نابض وخافق أن اسم فوزي من ذهب لأنه اسم اعترف به الكبار، كجان لومك غودار ومارتن سكورسيزي».
وتحدث بنجيهل عن فوزي الإنسان الكبير والمتواضع، والجرئ والمتمرد على قواعد السينما، والمبدع الاستثنائي الذي يتجسد فيه التجديد والتمكن من اللغة والسينمائية، والروح الراقية والمبدعة.
وقال بنجيهل إن فوزي حينما يشارك في المهرجانات الدولية، يمسك مشعل السينما بيد وراية البلاد في اليد الأخرى، وأنه خير ممثل للسينما المغربية، وأنه يشرفها بأفلامه التي تعتبر رسالة حب وإبداع وحرية.
وقال موجها كلامه إلى فوزي» جعلتنا نركب معك حلما، ولذلك نشكرك على كل اللحظات التي جمعتنا في المسرح والسينما والمحترفات، وعلى الطاقة الإيجابية التي كنت تبعثها فينا.»
إن فوزي بنسعيدي، الذي أهدى تكريمه لوالدته، يتميز سينمائيا بحضور أخاذ على مستوى الرؤية الإخراجية، وعلى مستوى اللغة التي يعتمدها. فهو «مؤلّف رائد في السينما المغربية، وأحد أبرز ممثّليها على الصعيد العالمي؛ كما سجّلت أفلامه حضوراً دائماً في أكبر المهرجانات، من «كان» إلى «برلين»، مروراً بـ»تورونتو» و»البندقية». مبدع في فنّ السخرية الشاعرية، ينجز بثبات كبير وثقة عالية عملاً رائعاً ميزته التفرّد والعمق الإنساني»، وفق ما قالت نبيلة الكيلاني.
وتتأسس سينما فوزي بنسعيدي على «الميتاسينما»، حيث تصبح السينما مجرد تركيب للحدث الفيلمي، تفكيكا وتحليلا ودراسة نصية، وحيث يتجه النقد نحو الإبداع وليس العكس، نهوضا على وضع المحكي أمام مرآة تعكس محكيات أخرى وتتقاطع معها، وعلى لعبة كشف «المرجعيات/ المشاهدات»، وإدخالها في علاقات جديدة. وبذلك، تصبح المادة الحكائية (المضمونية)، في العمق، مجرد تطعيم وإضاءة لفكرة نقدية، بل تحيزا لاختيارات جمالية بعينها دون الأخرى.
يقول فوزي عن تكريمه: «مراكش مدينة بألف حكاية، والمهرجان إحدى هذه الحكايات. فخور لعرض جميع أفلامي هنا، وممتن للوفاء والصداقة. أشعر بالسعادة والتأثّر بينما أحظى بالتكريم في بلدي، وأتطلّع لمشاركة فيلمي الأخير (الثلث الخالي)، الذي أنجزته أيضاً من ألف حكاية وحكاية، مع الجمهور».
في ختام التكريم، كان للجمهور مع الفيلم الأخير لفوزي بنسعيدي (الثلث الخالي)، وهو الفيلم الذي فاز بجائزتين بمهرجان فالنسيا السينمائي؛ ويحكي قصة الصديقين مهدي وحميد (فهد بنشمسي وعبد الهادي طالب) اللذين يعملان في وكالة لتحصيل الديون العالقة وغير المؤداة. يجوبان المناطق البعيدة والصحاري القاحلة والقرى الجبلية النائية في الجنوب المغربي، لإقناع الأهالي بتسديد الديون، وإرغامهم أحيانا على ذلك أو التحايل عليهم لاستردادها، ولو كان الثمن هو تجريدهم من الأثاث أو الشياه. فنحن في هذا الفيلم في قلب «الثلث الخالي» على متن سيارة قديمة ومتهالكة، غير أن هذا السفر المهني الإجباري سيضع الصديقين في مواقف مدهشة وطريفة، وأحيانا غير قابلة للتصديق..
في حفل تكريمه بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش .. فوزي بنسعيدي: كل أفلامي هي أفلام أولى، وسعادتي لا توصف لأن عمري 25 عاما فقط !
الكاتب : مراكش : سعيد منتسب
بتاريخ : 01/12/2023