في حكاية ما جرى

في شهر نونبر من كل عام يستحضر المناضلون ذكرى الإعدامات الجماعية، التي وضعت حدا لحياة مناضلين، وهبوا أرواحهم للذود عن عزة الوطن وكرامة المواطنين. لم يكن من السهل في لحظة تاريخية أن يصبح المرء أشد ايمانا بأن الموت في سبيل الكرامة أهون من العيش في ظل الاستبداد والمهانة. فماذا جرى؟
لفهم كل تفاصيل الحكاية كان لابد من استدراج بعض الفاعلين في الأحداث، وحثهم على كشف كل ما حبلت به الوقائع وكيف كانت ردود الأفعال. هي نافذة حرص الصديق مصطفى الادريسي على فتحها، على صفحات جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، ليدني الأجيال من حقائق تاريخية لاكتها الألسن وعبثت بها التأويلات. كان لابد من تحقيق التواصل مع المعنيين بالأمر حتى يعلم الجميع حقيقة ما جرى، وما صار واقعا، يتم تداول تاريخه بكثير من التدليس وطمس الحقائق وتضخيم حجم الملابسات. تحكى بعض الوقائع بكثير من الغموض والادعاءات والتزييف. الحوار المباشر مع الفاعلين المنخرطين في الأحداث وسرد مسار تشكل تجربتهم ومواقع فعلهم، وحجم الأدوار التي أسندت لهم أو المبادرات التي اهتدوا إلى سلكها، يقرب المهتم أو القارئ من حقيقة ما جرى.
نحن في لحظة تحول كبرى تعرفها البلاد ، وتواتر الأحداث يبرز حجم الخلافات وتداعياتها، فكان لابد من الوقوف في وجه الغلو واحتكار السلطة وصد الاستبداد. النقاش مفتوح على مصراعيه، خلاصاته الأساسية انتهت إلى الإقرار بإقامة مؤسسات دستورية شعبية، تتيح المساهمة المباشرة في اختيار الوجهة المجتمعية المفتوحة على آفاق واسعة نحو التقدم وتغيير ملامح العلاقات بتدبير ديمقراطي للشأن العام. لم تكن الطريق سالكة واتضح أن البلاد لم تتجاوز بشكل عميق لحظة الاستعمار. كل الدواليب محكومة بتوجيهات تصب في تراكم المنافع عند النافذين وأعوانهم. أغلقت كل أبواب الحوار الحقيقي حول القضايا التي تبوء الشعب المكانة التي تمكنه من تقرير مصيره واختيار الوجهة التي تجعل البلاد ترتقي إلى مستوى مجدها الحضاري وفعاليتها التاريخية. فكان أن طفا وعي تباينت تفاصيله وتقاربت قرارته في بلورة فعل مضاد، يرفع من سقف المواجهة وينهي مع كل الترددات وهلامية التوافقات التي ساهمت في توسيع الهوة وتقوية طرف على حساب أطراف. هكذا انهارت كل الجسور المؤدية إلى تقارب منتج يحد من هوة الاختلاف. يجنب الأطراف المواجهة التي أصبحت معالمها تلوح في مظاهر مختلفة. كانت البداية باعتقالات يوليوز 1963 حيث كانت الغاية تصفية القوى الشعبية الأكثر تأثيرا في الرأي العام وصاحبة رؤية لإعادة بناء مختلف الجوانب المجتمعية في سياق مختلف عما سعت إلى فرضه القوى المهيمنة والماسكة بكل زمام السلطة. تلت أحداث 63 انتفاضة 1965، التي وسعت من دائرة الرافضين ورفعت من إيقاع المواجهة على أكثر من مستوى، انخرطت الشبيبة بكل اندفاعها في توسيع الواجهة النضالية، والتأم المثقفون في هيئات كان لها دور في التأطير وبلورة تصورات ومفاهيم، ساعدت الأجيال اللاحقة على استيعاب ضرورة التغيير وأهمية المساهمة في تحقيق التحول المطلوب بما يصون الكرامة ويضمن الحقوق.
«الحسن مختبر» أحد الشهود على تفاصيل المرحلة، يعرض مسار انخراطه الفاعل في تصحيح مسار كان تعترض تطوراته ممارسات إقصائية، استهدفت جل المساهمين في ملحمة الاستقلال، وتهميش كل الطاقات والمبادرة الرامية إلى السمو بالفعل المجتمعي وآلياته السياسية. فكان النظر يقتضي للحد من كل أساليب التبخيس، تصعيد المواجهة وخوض معركة الوجود. كل التقديرات كانت تقود إلى هذا الاختيار وإن اختلفت الأساليب والكيفيات. فكانت أحداث مولاي بوعزة سنة 1973. مواجهة لم تكن متكافئة، تركت ضحايا وشروخا، لكنها في ذات الآن أثارت انتباه كل الأطراف إلى ضرورة الحوار والحد من الاستعلاء الزائــــد للسلطات، وأن لا سبيل للحفاظ على وحدة البلاد وصيانة مكانتها وتدعيم استقرارها، دون إشراك الفاعلين الحقيقيين، الذين يضعون الوطن فوق كل الاعتبارات السياسية والمصالح الذاتية الضيقة. لحظة المسيرة الخضراء كانت بوابة لأفق آخر تجلى، وتوالت المبادرات لطي صفحة الماضي بالإقرار الضمني للسلطات بفشل ما سعت إليه لتحجيم وتهميش كل القوى الشعبية الراغبة في المساهمة الجادة لبناء دولة ديمقراطية بكل مقومات الحرية والعدالة الاجتماعية.
ما جاء في شهادة الحسين مختبر، من موقعه كإطار سياسي ومسؤول إداري سابق، واكب مختلف التطورات التي عرفتها البلاد ما بعد الاستقلال، يسلط الضوء على دواعي التوتر في مرحلة شديدة الحساسية وأساليب استدراج المعارضين إلى المواجهة المسلحة، حين سدت كل أبوب الحوار و كل إمكانيات العمل المشترك، لتجاوز معيقات التطور والانعتاق من التهميش والتبعية.
في عرض مساره التعليمي والسياسي ثم المهني، يقدم نموذجا للشباب المؤهل الذي اكتسب وعيا بواقعه وآفاق تطوره، والذي وجد نفسه أمام عوائق تحد من طموحه السياسي ومحاصرة آرائه وطريقة تعبيره. هي حكاية جيل تعرض للتنكيل والمضايقة انتهت بالبعض إلى التصفية الجسدية أو الحرمان من الحرية لأعوام تجاوزت العقد من الزمن. تلتها سنوات من المعاناة الاجتماعية لتحقيق الاندماج الكامل والانخراط في الدورة السياسية وفق ما يضمن حرية التعبير والمساهمة في اتخاذ القرار بكل فعالية ومسؤولية.
وإن كانت المسؤولية تقتضي التأكيد على أن هذا الجيل المحتفى به في شخص الحسن مختبر، قد حقق العديد من المكتسبات التي انتزعها بصمود وشموخ، وأكد خلال مسيرته النضالية الشاقة، قدرته على المواجهة وتحدي كل ظروف الملاحقة والتنكيل، فإن على الأجيال الحالية والقادمة أن تواصل العمل الدؤوب لصيانة المكتسبات وترسيخ قواعدها، إلى جانب الاستمرار في العمل الجاد لتعميق الاختيار الديمقراطي وحمايته من التراجعات على مستوى حرية التعبير والحق في الاختلاف، وتدعيم شروط العيش الكريم في وطن واحد متعدد الثقافات، قادر على حماية وحدته من كل المؤامرات والإملاءات، وكل ما يكرس التبعية ويحد من حقه في الرقي والتقدم معتمدا على مؤهلاته وطاقاته المتعددة، بشريا وما حبته به الطبيعة من خيرات.
فبالفوسفاط وزوج بحورة لا يمكن أن نعيش عيشة مقهورة.

(تليت هذه الشهادة في اللقاء الذي نظمته المنظمة المغربية لحقوق الانسان يوم الجمعة 4 نونبر لتقديم كتاب»الحسن مختبر: سيرة رجل سلطة: من لاعب كرة قدم إلى تنظيم سري مسلح بدر المحامي بالبيضاء)


الكاتب : أحمد حبشي

  

بتاريخ : 09/11/2022