في حوار مع الأنثروبولوجي عبد الباقي بلفقيه: على حامل المعرفة أن ينتبه الى قياس الدم الذي يجري في جسد المجتمع

 

 تتسارع التحليلات (الفلسفية، النفسانية، السوسيولوجية، الأنثروبولوجية…) لمقاربة آثار جائحة كورونا، من الزاوية الأنثروبولوجية، هل الوقت مناسب لدراسة الظاهرة؟وما هي أبرز السلوكيات عند المغاربة، خلال هذه الجائحة، التي التقطتها بعين الأنثروبولوجي؟

رمت حالة الوباء بمختلف المجتمعات، في وضعيات لم يسبق لأكثر من جيل أن عايشها. ولأنها مستجدة، فقد أثارت عدة أسئلة وجدالات على مستويات عدة. لكن الذي يبدو الآن هو أن السرعة المطلوبة لتحول المجتمعات في مواجهة الانعطافة التكنولوجية، غدت حاسمة على خلاف ما كان معهودا، من أن التحولات تطرأ تدريجيا. ويبدو أن الحلول لما تطرحه هذه الانعطافات المفاجئة موجودة، الى حد ما. يمكنني أن أقول إنها ترتيبات قد شاهدناها، وقد تكون قد ساهمت في التخفيف من حدة هذا الوباء، لكنها حلول يتوجب انتقاؤها بمسؤولية كبيرة وتطويرها. فعلى مستوى الشغل، هناك العمل عن بعد مثلا، الذي سمح الى حد ما باستمرار أنشطة معينة، رغم غياب العلاقات الإنسانية والاجتماعية والمهنية المباشرة. ويمكنا أن نقول في شان العلم، إنه لم يفقد مصداقيته، بحيث تمكن من إيجاد التلقيح ضد الوباء في رقم قياسي، رغم أن التدبير العمومي للوباء، مدعما بوسائل الإعلام، لم يوفر للمواطنين الصفو والطمأنينة. ونكتشف مرة أخرى، أن زمن السياسة ليس هو نفسه زمن العلم. فزمن السياسة يعمل على المدى القريب، في حين أن زمن المعرفة يعمل على المدى البعيد. أما على مستوى الحريات الفردية فنلاحظ أن حدة صراع الأجيال في هذه المرحلة، فترة الوباء، قد كان لها أثر على مستوى الحريات الفردية، إن الشباب الذين ربطوا أنشطة يومهم بالفضاء العمومي (الشارع، والمقاهي والسفر و…) قد حرموا منها، ولم يخل ذلك من صراع بين أفراد الاسرة، وكذلك مع السلطات.
وفعلا لقد أدت كثير من الأنشطة الاقتصادية والثقافية والفنية والسياحية، ثمن زمن الحجر، وكانت كلفته فظيعة لكثير من القطاعات. والملاحظة التي أود أن أضيفها، ما دمت تقحم نظرة الانثروبولوجي في سؤالك، هي الاعتراف بغياب نمط أو نموذج كوني، بإمكانه مواجهة المشكلات التي تعترض الإنسانية، وهذا من ضمن ما أفادنا به هذا الوباء. فالدول المسماة متقدمة، لم تبدع كثيرا في إيجاد اللقاح، ونكتشف اليوم، أنه آن الأوان لأن يتخلى الغرب عن أيديولوجية التقدم، وعن عماه تجاه مشكلات العرقية، والاستعمار، والتمييز على أساس الجنس، ومستقبل الإنسانية البيئي والمناخي لكوكب الأرض، التي عَمِل بها خلال هذه الفترة وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، بحس نقدي، لا يخلو من سخرية.
ينبهنا الوباء أيضا الى الدور الذي لعبته التكنولوجيا الرقمية: غوغل، آبل، امازون، فيسبوك، ميكرسوفت… في إنعاش النظام الرأسمالي، وهي تشير باشتغاليتها هاته، الى توليها الإعلان عن رأسمال من نوع جديد.
وهناك مسألة أنثربولوجية اجتماعية يجب الانتباه إليها، ومقاومتها، وتتمثل في أن المرأة قد استدعيت لتساهم في التصدي لهذه الجائحة، وقد ساهمت بكبير المساهمة، لكنها عانت أيضا من ظروف جد صعبة، على مستويات عديدة، ولم تنصف ولم تستوف حقها، وهذا جد مجحف ومؤلم. ولا أريد أن يتوقف الأمر عند المقاربات السوسيولوجية والسياسية والهيمنة الرجالية، بل إن تطرح المسألة بمفهوم الشغل، في ظل نظام سوسيو – اقتصادي جد مجحف.

 لنبدأ لو سمحت، بشهادة كنت أدليت بها ذات مناسبة، في حق عبد الكبير الخطيبي، بمدينة الجديدة، مسقط رأسه، عن تصوره للجواب عن الأسئلة الاعتراضية، التي كان طلبته يطرحونها عليه، خلال محاضراته بكلية الآداب بالرباط. «عندما ُتطرح عليه أسئلة، ينظر عبد الكبير الخطيبي إلى السقف، يخفض بصره إلى الأسفل، يرتب أوراقه، لكنه لا يجيب بالطريقة التي عودنا عليها غيره من الأساتذة». قليل ممن درسونا، يتركون فينا أثرا لا ينسى، أي سر في ذلك؟

لربما يجب استحضار مشهد سنوات السبعينيات من القرن الماضي. كنا قد اعتدنا في زمن تَفَوُّق المُتون الكبرى والإيديولوجيا، انتظار جواب عن كل سؤال، كان تعطش جيل من الشباب الجامعيين، الى تغيير علاقة السلطة بمواطنيها، وطموحه في تنمية المرافق التعليمية والثقافية كبيرا. وساد في هذه الفترة مناخ محاصر باضطهاد مؤسسات السلطة من جهة، وبفكر «الخط المستقيم» الذي لا يحتمل المغايرة والتناقض. فكر يستشهد أساسا بالغير. أفق متوهم حالم، يبحث عن الأجوبة أكثر مما يعتني بالسؤال والمُساءلة. جو ظهرت فيه وراجت كتابات عبد الله العروي، وجرمان عياش، وقسطنطين زريق، وحسين مروة، وهشام شرابي وآخرون، اكتسحوا ساحة الجامعة بإنتاجاتهم الكثيفة، في التشريح والأجوبة، والتي كانت تتداول باعتبارها نهجا، ننبهر أمام امتلائه، نردده كشعارات ينبغي تبنيها مُطْلَقا. فزمن السبعينيات هو زمن الفورة بقدر ما هو زمن الثنائيات، مانَوِيٌّ بالأساس، فإما أن تكون أبيض أو أسود. إما يساريا أو بوليسيا، وذاتُ الفرد تتحدد داخل هاته الثنائيات، التي لا ينبغي تجاوزها. ولقد عملت هذه الثنائيات على إسكات، ولمدة لا يستهان بها، أصوات عددٍ من الطلبة الجامعيين، الذين كان بإمكانهم بعد مغادرتهم الجامعة، خلق الفارق والمفارقة والاختلاف والتناقض. هؤلاء الجامعيون هم من سيلتف حول عبد الكبير الخطيبي في المحاضرات، التي كان يقدمها في السنة الأولى، من الدراسات المعمقة سنوات 1976و 1977و 1978 و1979، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. وهم من سيعنى بإنتاجاته الفكرية والأدبية، لكن كثيرا منهم ظل بعيدا عن الأنظار ولعقود. أتذكر اننا كطلبة كنا نجرؤ على استيقاف الأستاذ المحاضر، بطرح أسئلة كانت تبدو لنا آنذاك ملحة، ولم ندرك، من فرط انغماسنا في الأيديولوجيا، انها لا تتناسب مع المنظور، الذي يرغب الأستاذ في تشييده إلا لاحقا، فكان يتوقف ليسمع الاعتراض، وبدل أن يجيب السائل، كان ينظر الى سقف القاعة، والى أوراقه ليرتبها من دون أن يحتاج الأمر إلى ذلك، يتزحزح فوق كرسيه، أو يقف ليمشي بعض خطوات، ثم يستأنف حديثه مُولِّدا أسئلة أخرى. فعبد الكبير الخطيبي يُعدد الأسئلة، يولدها فتتناسل الواحدة تلو الأخرى، لا يتوقف عن التساؤل. وكأن الأمر لم يعد يَحتمِل الوقوف عند منجزات معرفية تُغلِّف جل الأفضية، وتُستَنسَخ الى ما لا نهاية، تحجب أفق التفكير وتعترض طريق حس النقد. وفي إحدى محاضراته أحالنا على نص لـ»مونتين» Montaigne حول التربية والتعليم، وحينها أدركنا، الى حد ما، تصوره لنوع العلاقة التي تحتاجها الجامعة المغربية. إن هناك فرقا، منذ القدم، بين توجهين اثنين يرتبطان بالمؤسسة التعليمية: توجه التهييء لولوج المجتمع وتوجه التثقيف. ففكر التربية في اسبارطة مثلا، الذي يتأسس مبدئيا على ما هو أخلاقي، يناقض منظور أثينا الذي يرجح الفكر. ونجد هذا أيضا عند «مونتين»، وهو يواجه ما بين «المعرفة» التي هي بالضرورة مدرسية تعتمد الكتاب، عديمة الجدوى وسطحية، وبين معرفة كيفية الوجود في المجتمع، معرفة حميمية تفيد في بناء الشخصية. وهكذا فإن حاملي المعرفة الأولى عديمو الجدوى، مُدَّعون ومغرورون، أما حاملو المعرفة الثانية فذوو فعالية عملية. ومن ثَمَّ فالإنسان لا يُقاس بما يحمل من معرفة، بل يقاس بما يجعله يتتبع الجزئيات، وينتبه الى قياس الدم، الذي يجري في جسد المجتمع، ودينامية ومقاومة هوامشه، وما تُفضي اليه سلوكيات الإنسان حيال الآخرين وتجاه ذاته.

سبق أن تحدثت عن ثلاثة براديغمات حكمت فكر الخطيبي، وهو لا يكف عن ترديدها بدءا من الذاكرة الموشومة، إلى آخر كتاب له «الناسخ ونظيره»:
-عيد الأضحى (العيد الكبير) – 1938 بداية الحرب العالمية الثانية – فترة الاستعمار والحماية.
ألا تلاحظ معي أن الخطيبي كان ذكيا في التقاط هذه البراديغمات، التي بنى عليها مشروعه الفكري والإبداعي، على عكس مجايليه من المفكرين المغاربة؟

إن المعرفة التي نحتاجها، في رأي الخطيبي، تنتج عن مفارقة التجربة الفردية والموروث الاجتماعي. إن هذا التغاير هو الذي يَخِيط هوية الفرد في علاقته بذاته وبالآخر. ومن ثم فإن البيوغرافيا في نظره، وكذا مساءلة المسار الفردي حين الاهتمام بما هو جمعي، مقياس جد هام للإحاطة بتغاير التاريخ الفردي وتاريخ المجتمع. ومن خلال اشتغالية هذا الزوج، يتساءل الخطيبي عن تواتر هذه المحطات الثلاث (العيد الكبير، والحرب العالمية الثانية (1938)، والاستعمار) التي ترقم تاريخا مستعصيا. تاريخ يطرح أسئلته على المفكر، ويستدعي انصهاره. سيدفع الربط الرمزي، بين هذه الاحداث الثلاثة عبد الكبير الخطيبي، الى البحث في رواسب غريزة التضحية عند إنسان زمن الحداثة، التي تدفع به الى التضحية بالآخر لغاية الهيمنة عليه (ضحية العيد الكبير، ضحايا الحرب العالمية الثانية وضحايا الاستعمار). سيجعل الخطيبي من هذه الملاحظة الإثنولوجية سردا، تمحورت حوله غالبية كتاباته:
«الذاكرة الموشومة»، «الاسم العربي الجريح»، «الحمى البيضاء»، ونصوص أخرى. إنها نصوص في غاية العمق، تُسائل بنقد مزدوج، الذات الفردية والذات التاريخية، الانا والآخر، الماضي والحاضر والهنا والهناك.
إننا ندرك جميعنا مدى مفعول المعرفة النظرية فينا، باستعاراتها وصياغاتها المجازية، واعتمادها على ما هو منطقي، وكأن الواقع الاجتماعي لا يمكن فهمه إلا بما يقتضي منطق القياس، والأرقام والجداول والخطاطات. ونعرف أيضا أن المنطق الذي يحكم مختلف الصياغات المعرفية، هو المنطق الديكارتي المتمركز على ذاته، القوي بتكنولوجيته، ذو البشرة البيضاء، ذو العينين الزرقاوين، الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا يغمض له جفن، القاهر الذي لا يُهزم، الغني الفحل الذي لا يعرف المرض، والذي يقصي من مركزه الآخر المختلف، والمرأة، والمرضى والمجانين وكذا الأطفال. بمعنى أنه يقصي من دائرته الغالبية العظمى من البشر، فيكتفي بذاته. منطق ينطلق من الشك لينتهي الى فرض حقيقة مطلقة. وفي مقابل هذا، سيسخر عبد الكبير الخطيبي أداة النقد المزدوج، لتفكيك اشتغالية المطلق في الذات العربية الإسلامية، في علاقتها بالآخر الغربي. ومن ثم اهتمامه بعوالم الرمز والمسكوت عنه والمخيال والضعيف غير المنظور وغير المسموع والأدنى و…التي يتوجب استجلاؤها لتخليص الذات من تبعيتها للماضي والمطلق من جهة، ومن هيمنة الفكر الغربي ذي النزعة المتمركزة من جهة أخرى، وهذا ما شكل المشروع الفكري لعبد الكبير الخطيبي.

 هل الخطيبي سوسيولوجي أم انتربولوجي أم سيميولوجي؟ فهذه النصوص مثلا هل تصنف ضمن الأنثروبولوجيا الصرفة؟:
-الاسم العربي الجريح – الجسد الشرقي – الزربية من العلامة الى الصورة.

إن الأسئلة الأكثر أهمية، الأسئلة التي تنتبه الى مجالات بحث جديدة، وتفتح أفق مقاربات جديدة، غالبا ما تصاغ على التخوم والحدود والهوامش، التي تفصل بين مجالات المعرفة المؤسَّسة. فمن الصعب جدا الزج بالمفكر عبد الكبير الخطيبي في خانة ضيقة، إننا نراه يَنْفَلِت بين الحقول المعرفية خفيفا كفراشة لا تكتفي بالاستقرار، يريحها الترحال المستمر ومساءلة الأرضيات التي تؤثثها الأصوات والصمت، المرئي والرمز، الحركة والاستسلام. يسائل ما يبدو وما هو محجوب. يعرف الخطيبي أن الفعل الاجتماعي يخفي أكثر مما يعلن، وأن الأرضية التي تنطلق منها أصوات النظريات المعرفية لا ترقى الى «النحن»، وأنها تظل حبيسة مركزيتها. فعبد الكبير الخطيبي لا يمل من البحث، عما يذكي سفره من زوايا نظر؟، وتيمات مفارقة تعمل على تقاطع الحقول المعرفية، التي يراها ملائمة لاستجلاءاته، يهوى الكشف عن مدى إشكال المجالات التي تسكنه، والتي تجعل من كيفية معالجته لها طريقة لنقل اهتماماته الذاتية، وترجمتها الى شأن اجتماعي.
صحيح أنه منذ اليونان القديمة ارتبطت الفلسفة بالأدب، كما فعلت مع السياسة والفن، من خلال علاقات غامضة ومتضاربة، وأحيانا علاقات صراعية، أو علاقات انصهار يصبح فيها الواحد انعكاسا للآخر، وأحيانا علاقات دراماتيكية. ورغم وجود إرادة قوية في العقود الاخيرة الماضية لتقوية الميول الدافعة إلى جعل العلوم الانسانية بعيدة عن الأدب، ووضعها في مكان ينأى بها عن خطر الانحراف، نحو ما هو جمالي، فإن العلاقة بالأشياء، وبالوثائق، وبالشهادات، والتي صار لها موضع في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي أوساط تعج بالنشاط والحركة، حيث ستسعى الفلسفة الجديدة، والأدب، والفن، ونظرية التحليل النفسي واللسانيات والسيميولوجيا والسوسيولوجيا والانثربولوجيا الى تحطيم الحدود المباعدة بينها، والى ان تتحد ببعضها البعض. نذكرعلى سبيل المثال أعمال كل من ميشيل ليريس/ إفريقيا الشبح، روجيه كايوا/ الألعاب والبشر، جورج باطاي/دموع إيروس، كلود ليفي شتراوس/مدارات حزينة، فكتور سيغالين/Les immémoriaux التي هي أعمال أنثربولوجيين، طرحوا مسألة العلاقة بالآخر، موضوع بحوثهم الإثنولوجية، والذين فضلوا التعبير عن الغيرية بلغة الادب، بدل لغة العلم، وبمفهوم الغرابة بدل الغريب، ويعتبر جورج باطاي أحد أعلام الفلسفة والأدب الأكثر أهمية، خلال القرن الماضي بفرنسا. وقد تساعدنا إشكالية أثر الكتابة في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية في فهم العلاقة الحميمية التي يربطها الخطيبي بالأدب. فالاثنولوجيا الصرفة لا معنى لها اليوم، مادام نوع العلاقات التي تؤثث هذا الحقل بالذات، تسائل علاقة الذات الفردية بذات الآخر.
تُطرح اليوم من جديد، مسألة الكتابة في الفلسفة، وفي مجموع العلوم الاجتماعية والانسانية، ولكن بشكل أكثر دقة، وأذكر من ضمن الأسباب واقع البيئة المرتبط بالتغيرات، والآثار التي تمارسها مجالات معرفية مجاورة لحقل الانتماء الاصلي. ففي سنوات السبعينيات والثمانينيات سطعت نجوم اللسانيات الحديثة، والأنثروبولوجيا، والسيميولوجيا، وعلوم التواصل، والتحليل النفسي المرتبط خاصة بتأويل الرواية الشخصية، والتورية الخاصة بالفاعل، وتغيرات المجاز والاستعارات والأشكال، التي يتحدد بواسطتها، ما هو اجتماعي، وكذلك الثقافة، والمستقبل البشري.
وهكذا لا يمكن للعلوم الإنسانية والاجتماعية عموما، أن تتجنب القُرْبَ مع الأدب ومن أثر الكتابة، أو أن تتخلص من تأثير النص، ومن الأحكام الخارجية وسوء التفاهمات التي يثيرها ويستدعيها. سيصبح من غير الممكن التخلص من العلاقة بالكلمات. إن العلوم الإنسانية، هي أيضا تمثل ما يمثله الأدب: بحث دائم، يُستأنف باستمرار، عما يشكل التجربة الإنسانية في كُلِّيَتِهَا، وكذا التحول المستمر لهذه التجربة، وتنمية الحس النقدي، والعمل باستمرار على فتح آفاق جديدة. ولقد قدم التقليد الكبير للقرن 18 للفلسفة أول درس في هذا الباب، وللخطيبي معرفة واسعة بأعلام هذا القرن، وسيكون من المفيد عدم نسيان هذا.

 يدمج الخطيبي تفاصيل حياته في الكتابة، سواء في الإبداع أو الفكر، هل من مسوغ لذلك عند الخطيبي؟
الجسد لازمة CONSTANTEفي نصوص الخطيبي منذ سيرته الذاتية الذاكرة الموشومة هل يفسر تلك العرضانية TRANSVERSALITE التي تخترقها؟ بمعنى آخر إنه لا يكف عن استدعائه في كل ما يكتبه في السرد والحكاية والشعر والدراسة…وحتى في ما يسميه: أنثروبولوجيا الجسد في كتابه» الجسد الشرقي» هل من تفسير؟

قبل التفضل بالجواب، لنستمع إليه متحدثا عن هذه اللازمة:
« في كتاب «الجسد الشرقي» أعرض وجهة نظر التراث الإسلامي في الجسد، وفي ذات الوقت، أحلل تمثلاته وفق مقاربة التداخل السيميائي-بين العلامة والصورة- تداخل سيميائي مقارن، يضع في حسبانه، الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية للجسد الفردي والجماعي. ركزت على هذا التقاطع…مما قد يزعج القراء عند قراءة هذا الكتاب (والحق يقال إنه لم يطرح للنقاش بشكل واسع بالمغرب) هو استئناس تعلمي أنثربولوجي بالجسد: الجسد يفكر ولا يفكر. فالإنصات إلى نزوعاته وتوازنه واختلالاته، تجعلنا منتبهين إلى الجانب المادي لحياتنا» (جمال الغائب، حسن وهبي).
يصعب، من زاوية أنثروبولوجية، أن تناهض التجريد، الدفاع عن فكرة وجود ذات خالصة تشوه على العلاقات الاجتماعية صفاءها. إن الصفاء لا يوجد. ليست هناك إلا بينذاتية. والبينذاتية تسبق الذاتية، كما يسبق الاعتراف المعرفة. والاعتراف هو دائما الاعتراف بجسد الآخر في فرادته. إننا لا نعي ذاتنا إلا من خلال النظرة المتكررة لوجه الآخر. وهذه النظرة هي بدءًا نظرة أنثوية. فالأنثى، وكذا فعل تلقي الاسم، هو ما يقودنا الى الثقة واحترام الذات والاعتداد بالنفس. فأن يتجاهلنا النظر وأن لا يلمسنا أحد وأن لا ينادى علينا باسمنا، فهذا يؤشر عن كره الآخرين لنا، وينتج فينا كره الذات. فالبينذاتية تتكون تدريجيا من خلال تفاعلات غير لفظية ترتبط بأحاسيس اللمس والاكل والاستماع والنظر. وعبد الكبير الخطيبي الذي تشبع بفكر سنوات الستينيات، يعرف أن سيرورة التذويت تتشكل عن طريق المبادلات اللمسية والذوقية والشمية والنظرية والصوتية، وبأن الصورة الملائكية، المبنية على المفاهيم، لإنسانية بلا جسد، وبدون جنسانية، وبدون شكل وعديمة اللون، وبدون صورة ولا صوت، لا تؤدي البتة الى الالتقاء بالآخر، ولا إلى ربط العلاقة بالواقع، وأنها بهذا لا تعنى بأهمية تذكر في الانثربولوجيا. إضافة الى أنه من التفاهة أن نرجع الذات الى الجوانية، ونرجع ما هو اجتماعي الى البرانية (في حين أنهما يجتمعان في خاصية الجسد ككل انساني)؛ تماما كما هو تافه أيضا، العمل على تعارض ما هو عميق وما هو سطحي، إن العمق وهمٌ كما يشير الى ذلك كل من ميرلوبونتي وفيتجنشتاين، في حين أن من له تواجد فعلي، هو ما يتواجد على السطح، وعلى الأخص الجلد الذي من خاصياته اللمس والبصر. وهكذا فإن جزءا من سيرورة الاعتراف، الاعتراف بالآخر لمعرفة الذات، يتم عبر رؤية جسد الآخر، وكذا لون بشرته. وفي نظري إن هذه البينذاتية التي تخترق فكر الخطيبي هي فكر يتأسس منذ الخارج. ففي تجربة إثنوغرافية كتلك التي شكلت تجربة الخطيبي الشعرية: المصارع الطبقي على الطريقة الطاوية، أو كتابه حول «صور الأجنبي» Les figures de l’étranger نلاحظ أن المهم ليس الأنثربولوجي الملاحظ الذي يذهب نحو الميدان، بل على العكس إنه من يعود من الميدان أو بالأحرى، ما ينتج عن تجربة الميدان، ما ينتج عن هذا التشبع الطويل والبطيء، الذي يقع على شكل سيرورة مثاقفة مقلوبة، معكوسة، لأن شيئا يبزغ من الخارج يزعزع، ويقيل هذه الاتجاهية. لكن هذه التجربة التي يمكن أن ننعتها بضد الاتجاهية هي خاصية كل سيرورة تذويت.


الكاتب : محمد معطسيم

  

بتاريخ : 07/10/2022