في حوار مع الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس معظم قرائي لا يعرفون ما إذا كانوا يحبون الشاعر أم الإنسان

 

احتفظ الشاعر يانيس ريتسوس من سنواته المضطربة بتحفظه الكبير من آلة التسجيل ..هذه الآلة المستعملة أثناء الاستنطاق في المكاتب العسكرية . و التي بفضلها يحاول رجال الأمن تأويل كل كلمة، و كل جملة بهدف الإمساك بتهمة ضده. و من هناك الحصول على إذانته. لذلك يفضل اعتبار اللقاء كمحادثة بدلا من اعتباره مقابلة ، هذه الممارسة التي لا يوافق عليها منذ زمن بعيد . وفي نهاية نقاش حول ميزات التصوير يقبل بأخذ صور لبعض لحظات المحادثة : الشاعر يشتغل في الصمت، يقول، هذه هي حالته الطبيعية – و ليس حينما يتكلم .

p لماذا تكتب، ولمن تكتب ؟
n أسباب الكتابة ليست محسوسة. هناك عدة عوامل غامضة تتدخل في إبداع عمل فني. لا نعرف إلى أي حد هي بيولوجية، وراثية، عائلية، دينية، إلخ..يقال إن الشرط الأول لأي فنان هو الموهبة . لكن ما هي الموهبة؟ ما مصدرها؟ من الطبيعة ؟ من العائلة؟ من التربية؟ من المجتمع؟ إنها مزيج من كل هذه العوامل التي تؤثر على الإبداع وعلى ضرورة الإبداع .

p هذه الضرورة هي كذلك غامضة، أليس كذلك ؟
n هناك مادة للتأويل. لنسمي ذلك ضرورة تجاوز حاجز العزلة، ضرورة التواصل . فحتى قبل وجود الكلام المكتوب، وجد الرسم الإشارة، الرقص. مثلا ، فالرسومات داخل الكهوف تبين كيف يصطاد الإنسان الحيوانات، وكيف يحتمي . فالحاجة الطبيعية الأصيلة تستثمر في شكل جمالي في اللحظة التي تستقر فها على لوحة، في كلام، في مسرح ، إلخ..فالتجربة تنتقل، أيضا، من جيل إلى جيل. وضرورة التواصل هذه، هي بالتحديد مد الذات نحو الموضوع. فالفنان، ربما، ليس سوى موضوع مُذَوًّت، أو ذات وموضوع في نفس الوقت . لكن، و كما أن المعرفة الجمالية لكل ما تحول إلى فن غير قابلة للتحديد ، فالجمالي يبقى منطقة شاسعة وغير محددة. كما الحياة تماما .

p لقد ساهمت الأغنية في الانتشار الشعبي لشعرك. هل كان ذلك اتفاقا؟
n لا يجب أن ننسى أنه في الماضي، كان الشعر، في الغرب كما في الشرق، مرفوقا دائما بالموسيقى، وبالرقص. لنفكر، مثلا، في المسرح القديم الذي ينضد الشعر، الرقص، الغناء، الموسيقى، الإخراج، الفضاء، الصباغة و الهندسة في مجموعة متعادلة . ثم جاء وقت القطيعة والاختصاص، ليس فقط في مجال الفن ولكن في مجال العلم أيضا. وهذا لا يمنع الاختصاصات المختلفة من الانتماء لجذع مشترك . يحتاج بعضها لبعض، وسيكتشف الفنانون، على ما أظن، مرة أخرى ضرورة تعانق وتناغم الفنون. لقد كنت، رغم ذلك، مندهشا لأن ميكيس ثيودوراكيس كتب موسيقى „رثاء الموتى Epitaphios „ سنة 1957 ، أي بعد عشرين سنة من إبداع المجموعة الشعرية . لقد كنت متأثرا بالموسيقى ومسرورا جدا بمعرفة أنه بهذه الوسيلة سيصل شعري إلى الشعب . لكن حين أصبحت هذه الموسيقى أكثر شعبية إلى حد أنه في الحانات ناب انتحاب أم عن كل الطبقة العاملة ،وأحسست كما لو أن ذلك تدنيسا . لكن، في ما بعد، فهمت أن هذا لم يكن من بينها: فعوض إجبار الناس على الذهاب إلى مكتبة ما، يذهب الشعر عند الناس البسطاء في شكل موسيقى ، بينما هم يأكلون، يحلمون، يعشقون . إن الشعر يضطلع بدورين في آن واحد : دور جمالي ودور تربوي .

p تقوم بساطة كتابتك أيضا على الرغبة في الوصول إلى الكثير من الناس؟
n إن البعض يقول بأن شعري صعب جدا . بالنسبة لي، الكتابة البسيطة هي الأكثر تطلبا. فالشعر ينطلق من التجريد ليصل إلى الواقعي. فأنا أنتروبوس anthropos أي كائن بشري، لكن ذلك بالنسبة لي يعني سينانتروبوس synanthropos، أي كائن ملتزم في الهوية مع جميع كائنات العالم الأخرى. ففي ما وراء الاختلافات، الإكراهات، الحواجز، الأحقاد المصطنعة، يبحث الشاعر )الفنان (عن استكشاف الروابط السرية بين البشر.إن أي تحقيق فني، وجمالي للأخوة الكونية هو تأكيد للحياة . الشاعر يقول نعم للحياة وتلك استجابة عميقة لكل جمال. باسم الجمال نناضل من أجل تطوير العالم .

p أفكارك السياسية تظهر بوضوح في شعرك. هل لذلك تأثير سلبي على تقدير عملك الإبداعي ؟
n نعم ولا.أظن أن معظم قرائي ينظرون إلي كمناضل، إنسان مناضل من أجل مصالح الشعب اليوناني، ومن أجل مصالح المستغلين، والمضطهدين في العالم. لأني تحدثت في عملي كذلك عن الفيتنام، السالفادور، بلغاريا، رومانيا . واعتقالي سنة 1948 زاد من اهتمام الناس بشعري. فمعظم المعجبين بي لا يعرفون ما إذا كانوا يحبون الشاعر أم الإنسان، يعني الذي كان حاضرا في المظاهرات، الذي عذب ونفي. لكن حقيقة، لقد استقبلت بمحبة منذ خطواتي الأدبية الأولى.

p منعت لزمن طويل من النشر ؟
n صحيح، فعلى مدى عشرات السنين كان اسمي ممنوعا في اليونان. بينما في نفس الوقت كانت هناك إصدارات لقصائدي في فرنسا، في إنجلترا وفي ألمانيا .

p دون أن تكون على علم بذلك ؟
n لم تكن لدي أية فكرة. فقد توصلت بكتب بعد عشرين سنة عن إصدارها . فقصيدتي الأطول في 140 صفحة الموسومة ب ) أحياء العالم Les quartiers du monde ( نشرت في ألبانيا سنة 1962 لم تكن لدي ولو نسخة واحدة منها إلا سنة 1982 .ويمكنك أن تلاحظ أنه قد كان هناك تحيز ضدي .

p بسبب أفكارك السياسية ؟
n طبعا. ففي هذه الأثناء كان هناك تحيز ضد شعراء آخرين لكن ليست لنفس الأسباب .الشعراء مثل : إمبيريكوس، وإيغونوبولوس اللذين لم يكن لهما، في بداياتهما، أي تقدير .

p كان ذلك نتيجة الجهل بالتيار السريالي، أليس كذلك ؟
n صحيح . ترى أنه لم يكن هناك، في اليونان، لا تأثير الحركة المستقبلية، ولا تأثير دادا Dada . لم يكن لدينا كذلك رسامون تكعيبيون، وفجأة جاء إمبيريكوس وفاجأ القراء. الناس يضحكون. لم يفهموا شيئا . لقد كان شعرا مختلفا كليا .

-p هل تمثل جائزة لينين قمة مسارك ؟
n لقد حصلت على عدة جوائز حتى الآن . والجائزة تمنحني الإحساس بالوجود خارج الحواجز واللغات . إنها تقوي أيضا اعتقادي الراسخ بوجود إمكانية التجاور والتعاون . هذه الجائزة ليست إذن موضوع مجد بالنسبة لي .

p في عدد من ترجمات أعمالك، نعثر على طبعات تركية. هل يعرفون هناك أنك كنت صديق الشاعر ناظم حكمت ؟
n لقد ترجم عملي إلى اللغة التركية في ظل دكتاتورية أورن Euren ! حينئذ كان الشاعر ناظم حكمت ممنوعا.ولم يعد كذلك الآن .الدكتاتوريون أذكياء ، فقد فهموا أنهم بمنعهم شاعرا عظيما سيثيرون نزاعات عبر العالم، ما يجعل منه بطلا . وإذا وضعوا مئة نقابي في السجن، لا أحد يحتج . يصعب علي أن أعرف ما إذا كان عمل ما يرتبط بالقيمة أو الأسطورة التي تحيط بمبدعه. لا أظن أن كل هذه الترجمات، وكل هذه الجوائز ناجمة عن قيمة عملي الإبداعي فقط . فأنا أحب أن يُقيَّم عملي، يوما ما، مستقلا عن الأسطورة المرتبطة بشخصيتي. وهذا يعني أن التقدير ينبثق من عملك الخاص، من تجاوزك في كتاب لما سبقه .

p عملك يؤثر في الجيل الجديد . فهل تأثرت أيضا بشعراء آخرين ؟
n نعم ، لقد استفدت من تأثيرات يونانية وأجنبية . فاليونان هي مفتاح البحر الأبيض المتوسط . لقد عرفت كيف تحقق التوليف الحر، اتحاد الشغف الشرقي والعقل الغربي ، بطريقة تلقائية وطبيعية . ما يميز اليونانيين هو الشغف والحدة، ولكن أيضا الفكر المتوازن .

p هل يمكن لشاعر ما أن يعيش، حاليا، من عمله الإبداعي ؟
n تعلم أنه في بلدان أوربا الشرقية يعيش الشعراء من إبداعاتهم . أما أنا فقد اشتغلت حتى سن السابعة والخمسين. ومنذ ذلك الحين، يمكن أن أقول إني أعيش من شعري. لكن يجب الأخذ بالاعتبار أن مجموعة إبيتافيوس Epitaphios صدرت منها 36 طبعة ، ومجموعة الهيلينية La Grécité 32 طبعة، ومجموعة «سوناتا في ضوء القمر» La sonate au claire de lune 29 طبعة .

p هل الدولة تعتني بشعرائها هنا ؟
n بعض الفتات. فجوائز الدولة أو الأكاديمية، بالكاد، تسمح بالعيش شهرا واحدا .

p هل تظن أن عملك الشعري قد انتهى، أم مازالت لديك أشياء أخرى لتقولها ؟
n ما دام الشعر يتماهى مع معنى الحياة والتاريخ، فإنه، بناء على ذلك، لا نهائي. إنه يستمر من خلال عمل شعراء آخرين، وبهذا المعنى فالشعر لا نهاية له .

المصدر :
– Nuit Blanche ( Le Magazine du livre ) Numéro 27 , Mars / Avril 1987 .


الكاتب : ترجمة : ابراهيم قازو

  

بتاريخ : 21/01/2021

أخبار مرتبطة

‬بعد ربع قرن‮ ‬على العهد الجديد،‮ ‬لو سألنا السي‮ ‬محمد‮ ‬ما هو أهم شيء تغير في‮ ‬المغرب أو ما الذي‮

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

ضرار نورالدين كائن متعدد : شاعر ، مترجم ، موسيقي وكاتب قصة للأطفال ، كما في جبته العديد من المشاركات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *