في رحيل الدكتور المختار بنعبدلاوي

رحل الدكتور المختار بنعبدلاوي، ولم يكن من الذين يخطئون مساراتهم بأمتار قليلة. كان دائما، منذ أن عرفته في أوائل التسعينيات، يتموضع فوق السرب بآلاف الأمتار حتى تسهل رؤية الهدف. ولم يكن هذا الهدف سوى يجعلنا نطير على مستوى منخفض لنكون أوتادا لما هو قادم.
رحل الدكتور المختار، لكنه رغم أنه لم يعد أمامي الآن، فهو يعيش في داخلي، ولا أستطيع أن أنساه، ولا أن أحرم نفسي من سرد حكايتي الخاصة معه. لن أنسى أنه الأستاذ الذي ربطني بكل قدراتي الحالية، وأنه ساعدني على عدم قطع الاتصال مع ما كان يدور حولي.
نعم، كان الدكتور المختار بنعبدلاوي أستاذا لي على مدى سنوات عديدة. درست على يديه «تاريخ الفكر» و»الفكر الإسلامي» و»المنطق». لكن على الطرف الآخر من الحكاية كان أستاذا بمعنى آخر. ينهض سريعا ليفتح أمامك الأبواب، وأذكر أنه فتح لي باب بيته بشارع بوردو بالدار البيضاء، وفتح لي باب مكتبته، ودعاني إلى أن أحتشد بكتاب كبار لولاه لما تعرفت عليهم وأنا في مقتبل الجامعة. جعلني أقرأ «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» و»سرايا بنت الغول» و»إخطية» و»سداسية الأيام الستة» لإميل حبيبي، ثم فتح أمامي عالم جبرا ابراهيم جبرا حين أوصاني بقراءة «البحث عن وليد مسعود» و»صراخ في ليل طويل» و»صيادون في شارع ضيق» و»البئر الأولى» و»السفينة»، ثم مكنني من الروايات التي لم أقرؤه لعبد الرحمن منيف وغالب هلسا وهاني الراهب ومؤنس الرزاز وعائب طعمة فرمان، وشيئا فشيئا بدأت أكتشف معه متعة الفكر العربي مع الطيب التزيني (أستاذه والمشرف على أطروحته حول الظاهرة التأصيلية) وبرهان غليون وحسين مروة ومحمد أركون.. والقائمة طويلة.
فتح لي بيته الذي بدأت أتردد عليه، على خجل، بين الفينة والأخرى، لأنني لا أحسن مقاومة الكتب التي تأخذني إليها، بل لأنني قادم من الضاحية الشرقية للفقر، ولا أملك ما أشتري به كتبا في قيمة ما أعثر عليه في مكتبته. ولم يكن يبخل علي بأي كتاب طلبته. وكانت النتيجة المنطقية أن صارت الكتب طريقة في الحياة.
لم أكن الوحيد الذي ارتوى بماء الدكتور المختار بنعبدلاوي، فهو ساقية كبيرة. وأذكر أنه موهوب في القيادة رغم أنه لا يحب الطرق السريعة، وكان يتوهج في مدرج الجامعة (كلية الآداب بنمسيك)، كما يلمع في دار الشباب (جمعية الشعلة للتربية والثقاقة)، ثم يسطع في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشغبية، مثقفا كبيرا يتميز بغزارة الاطلاع، ودون أدنى مبالغة كان المتابعون لمسيرته يرشحونه بأن يشغل مكانا مريحا ضمن كوكبة المفكرين المغاربة المكرسين.
لقد قضى الراحل سنوات عديدة في كلية الآداب ابن مسيك، وكان المؤسس الفعلي لشعبة الفلسفة بهذه الكلية في بداية الألفية الثانية، رفقة ثلة من الأساتذة، وعلى رأسهم الراحل توفيق رشد، والأساتذة موليم العروسي وعبد المجيد جهاد وزينب معادي وعبد الإله بلقزيز، قبل أن يلتحق بهم الأستاذ عبد اللطيف فتح الدين وآخرون. ولم تكن الطريق إلى تأسيس شعبة الفلسفة هينا، بل كان صعبا بسبب تجذر التيار الإسلامي هناك واستبسال “الإسلاميين” في احتكار الكلية واستبعاد الدرس الفلسفي الذي من شأنه إيقاف هذا الزحف.
لقد عرفت الأستاذ المختار بنعبدلاوي استاذا جامعيا استثنائيا. كما عرفته مناضلا حزبيا رصينا، ثم فاعلا مدنيا ملتزما في جمعية الشعلة، قبل أن يصبح عضوا نشيطا في منتدى المواطنة منذ تأسيسه في نهاية التسعينيات على يد خيرة أبناء الحركة الاتحادية من مناضلين ومثقفين وفاعلين اجتماعيين، أمثال عبد العالي مستور ومصطفى فوميسيل وعبد العزيز العريبي وأحمد ويحمان ومحمد الساسي ، وكان عراب المنتدى هو المجاهد الكبير محمد الفقيه البصري، أحد أبرز القادة الاتحاديين الأوائل، وزعيم من زعماء جيش التحرير.
ولقد عاينت كما عاين زملائي في الشبيبة الاتحادية بسيدي عثمان، وعلى رأسهم عبد الله معاشو (الذي كان مقربا منه ويحظي بتقدير خاص منه على المستوى الشخصي والسياسي والأكاديمي)، كيف انخرط قلبا وقالبا، ومن قلب المقر الحزبي بحي مبروكة، في تتبع تفاصيل معركة الإفراج عن الزعيم النقابي الراحل محمد نوبير الأموي الذي اعتقل على خلفية حوار مع صحفية إسبانية حول الملكية البرلمانية، ثم كيف بدأ يتشكل وعي داخل الشبيبة الاتحادية بضرورة حماية الديمقراطية من التلويث الذي يتهددها، وخاصة بعد فضيحة تزوير الانتخابات التشريعية وإعلان محمد حفيظ الذي كان كاتبا عاما للشبيبة الاتحادية “أرفض أن أكون برلمانيا مزورا” (كان المختار بنعبدلاوي هو مدير الحملة الانتخابية آنذاك، وأحد مهندسي ذلك الموقف التاريخي المشرف، وأذكر أنني كنت مراقبا للانتخابات باسم الاتحاد الاشتراكي في المكتب رقم 7).
من ميزات الأستاذ المختار العبدلاوي، الذي أشرف على أطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه في موضوع “التلقي والتأويل في القصة القصيرة المغربية الحديثة”، أنه كان ذا خطاب رصين، وأنه كان ديمقراطيا يقبل بالحوار مع الآخر، كيفما كان هذا الآخر، ويؤمن أن التغيير لن يتأتى إلا بحور ديمقراطي بين جميع المكونات السياسية والإيديولوجية التي تقبل بمبدأ الحوار، وكان لا يستثني من ذلك حتى جماعة العدل والإحسان، وحزب النهج الديمقراطي. وكان يؤمن بالحوار المغاربي، حيث عمل رفقة أصدقائه في منتدى المواطنة على تأسيس “الفضاء المغاربي” الذي كان منصة ديمقراطية للحوار والدفع ببناء المغرب الكبير إلى حدود الممكن.
في السنوات الأخيرة، انتقل الراحل للتدريس بمدينة المحمدية، مخلفا وراءه أجيالا من الطلبة الذين تتلمذوا على يده بكلية الآداب بنمسيك، كما شغل منصب مسؤول وحدة الدكتوراه، وكان مديراً للمجلة الفصلية “رهانات” التي ناقشت قضايا شائكة حول قضايا التحرر والعدالة والديمقراطية والتجديد الديني، والربيع العربي، والقضية الفلسطينية. كما أسس مركز الدراسات والأبحاث الإنسانية “مدى” بكلية عين الشق، وترأس المنتدى المغاربي.
ألف الراحل المختار بنعبدلاوي العديد من الكتب، لعل أهمها “الإسلام المعاصر – مقاربات منهجية”، وترجمة كتاب “موجز تاريخ الفلسفة” لجاك مونتوي، وكذلك أشرف على إخراج تقرير “مرصد الانتقال الديمقراطي”، و”ماذا بعد الربيع العربي؟”، بمساهمة باحثين من عدة دول مغاربية وعربية.
ونشر الراحل عددا كبيرا من الدراسات والمقالات والحوارات في مجالات الفلسفة، والإسلاميات المعاصرة، ونظرية التحول الديمقراطي، وأشرف على العديد من الندوات العلمية الوطنية.
رحم الله الراحل المختار بنعبدلاوي وأسكنه فسيح جناته، وصادق العزاء لزوجته زوجه السيدة ماجدة قصبة وأبنائه لينا، ومحمد، ورفاعي، وإخوانه ياسر ومراد، ولكل عائلته وزملائه وطلبته وأصدقائه والمقربين منه.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 31/08/2024