نوقشت أثناء حفل الغداء جملة أمور أخرى؛ إذ حدثني الملك عن أساتذته في المدرسة المولوية، الفرنسيون والمغاربة الذين تناوبوا على جعله يتذوق الأدب الفرنسي واللغة العربية، التاريخ الأوروبي وتاريخ المغرب والبلدان الإسلامية. وأمر بتمكيني من أرشيف المدرسة المولوية الذي سأجد فيه بالتأكيد إنشاءاته الفرنسية واللاتينية واختباراته في الآداب والعلوم. ثم يقر الحسن الثاني: «لم تكن لدي للأسف موهبة الرياضيات، غير أني كنت أنال في العلوم الطبيعية والجغرافية والتاريخ والآداب علامات تعوض بما يكفي أوجه قصوري في مضمار الأعداد».
وبما أن الملك تحدث عن دراساته السابقة في القانون، وعن الإجازة التي حضرها في مركز الدراسات القانونية بالرباط، الذي كان تابعا لكلية بوردو ويديره الأستاذ ده لابوردير، وعن دبلوم الدراسات العليا الذي اجتازه في فرنسا وهو لا يزال وليا للعهد، سنحت لي الفرصة كي ألتمس بعض التوضيحات في شأن نازلة حكى لي عنها قبل بضعة أيام الطبيب دوبوا روكبير.
كان الحسن الثاني، وفق ما أخبرني به الطبيب، سريع البديهة، «طلق اللسان»، يمتلك يسرا في الحديث لدرجة أنه لا يباغث وتخلص بلباقة من المواقف الأكثر حساسية.
ويضيف الدكتور روكبير: «لقد أنصت إليه خلال إحدى حفلات توزيع الجوائز في المدرسة المولوية، وعمره ثلاثة عشرة عاما، يلقي خطابا مبهرا في حضرة السلطان والجنرال نوغيس (**). وعام 1950، حين منحت جامعة بوردو للسلطان سيدي محمد دكتوراه شرفية في القانون تكريما له، أشار عميد الكلية، في جهل تام بكثير من الأمور عن المغرب، إلى مجموعة من المراسيم التي سنها العاهل تحت ضغط الإدارة الفرنسية. ولم يكن يعرف أن السلطان تاب بمرارة عن مصادقته على تلك النصوص، وخاصة منها تلم التي صاغها مختصون في القضايا الأمازيغية، والتي تنزع نحو غرس بذور الفرقة داخل الأمة المغربية. وهذا الإحراج الذي سببه رجل القانون الجامعي، ألقى البرود على الجمهور الحاضر، فبقي السلطان صامتا، لكنه أومأ إلى الأمير الحسن الثاني كي يقوم مقامه في أخذ الكلمة. حينها، قام الطالب ذو الواحد والعشرين عاما، بكسر الصمت بخطبة مرتجلة، يسيرة وروحية، أعادت الدفئ للقاعة وحررت الجميع من الحرج.
وفي أفق تذوق نكهة هذا المشهد، يوائم إدراجه ضمن سياقه التاريخي؛ إذ في فاتح أكتوبر 1950، ذهب السلطان سيدي محمد بن يوسف في رحلة رسمية لفرنسا، بدعوة من الرئيس فانسان أوريول (***).
وقد تلت هذه الزيارة ثلاث سنوات من الصراع الأصم بين السلطان والمقيم العام الجنرال جوان. كان السلطان يطالب بمراجعة معاهدة فاس وإنهاء نظام الحماية واستقلال المغرب.كي يحكمه المغاربة. وبالمقابل، كان الجنرال جوان يريد من السلطان المصادقة على سلسلة من النصوص التشريعية التي تؤسس «سيادة فرنسية- مغربية مشتركة»؛ من ذلك مثلا انتخاب مجالس بلدية نصفها مغاربة والنصف الآخر من الأوربيين. وعلى هذا النحو، وعلى مستوى تسعة عشر بلدية بالمغرب، سيحصل ثلاثمائة ألف أجنبي على حقوق سياسية، وسيحصلون على القدر نفسه من الأصوات العائدة لمليون ونصف مغربي.
وفي أفق الضغط على السلطان، اتكأ المقيم العام على الباشا الكلاوي والقبائل البربرية. وطالب بتعيين العمال والموظفين المحليين الذين تختارهم الإقامة العامة. وكان كذلك يريد أن يتبرأ السلطان رسميا من حزب الاستقلال الوطني، بدل أن يختار مستشاريه من هذا الحزب.
وعليه، فقد كان المناخ مشحونا حين تقرر السفر إلى باريس، والذي كان من المنتظر أن تتخلله مجموعة مباحثات سياسية. ومن الجانب الفرنسي، كان من المتوقع إذهال السلطان وعائلته ومستشاريه باستقبال فخم؛ إذ توجهت بارجة حربية إلى الدار البيضاء كي تقل سيدي محمد وتحرر به نحو بوردو؛ في حين اضطلعت باخرة خاصة بنقل حاشيته نحو مدينة مارساي.
لكن، حين الهبوط في ميناء بوردو، اخترق طلبة من شمال أفريقيا صفوف الشرطة وأخذوا في الاحتجاج بعنف؛ إذ احتج الجزائريون على زيارة المجاملة التي يقوم بها عاهل مسلم لفرنسا «العدو اللدود»؛ وهتف المغاربة باسم سلطانهم، غير أنهم حثوه على المطالبة بالاستقلال. وقد خلفت هذه المظاهرة عددا من الجرحى والموقوفين.
بعد ذلك، وقعت نازلة الجامعة التي رواها الدكتور روبير روكبير. تسلى الحسن الثاني باسترجاع هذه اللحظة من الرحلة الشهيرة إلى باريس، وأضاف بعض التوضيحات للحكاية التي رويت لي عنها.
كان عميد الكلية، السيد روبير بوبلافسكي (****) المختص في القانون الجنائي، عالما قليل الدراية بما يجري في مضمار السياسة. وفي الخطبة التي ألقاها لتهنئة المحتفى به، أراد أن يبرر منح الشهادة للعاهل المغربي بالنشاط التشريعي الذي أنجزه جلالته. وبتعليمات قادمة من الرباط – حيث طلب المعلومات وتم استغلال طلبه بمقلب مثير – كان من سوء حظ هذا العميد المأسوف عليه أن أشار إلى قانون صادق عليه سيدي محمد عام 1930، حين كان سلطانا شابا في العشرين من عمره، ولم يدرك المضاعفات الدينية والسياسية لهذا النص. ويتعلق الأمر ب»الظهير البربري» الذي بمقتضاه لا يحتكم الناس إلى الشريعة التي يطبقها القاضي، بل إلى العرف الذي تسهر عليه المجالس المحلية: «الجماعة».
وعلاوة على ذلك، يتوقع الظهير البربري أن استئناف الأحكام الجنائية يجب أن يتم أمام المحاكم الفرنسية وليس أمام محكمة مغربية. وأخيرا، فقد تم نشر هذا النص مرفقا بتعيين العديد من القضاة الجزائريين القبايليين في المحاكم العرفية، مع العلم أن هؤلاء القضاة ارتدوا نحو الكاثوليكية.
وقد كتب جان لاكوتور (1) إن هذا الظهير البربري الشهير شكل «عقد ولادة الحركة الوطنية المغربية». وأثار سلسلة من ردود الفعل؛ إذ في جامعة القرويين، انتفض الفقيه محمد العربي العلوي وتلميذه علال الفاسي ضد ما اعتبراه محاولة للقضاء على الإسلام بالمغرب، وفي الوقت نفسه مؤامرة لتمزيق الأمة. وفي اوروبا، انطلقت حملة إعلامية عنيفة ضد الظهير البربري عبر صحيفة «المغرب» الوطنية في باريس، ثم في جنيف عبر الأمير شكيب أرسلان، واخيرا، في الشرق الأوسط، عبر رجال الدين والكتاب السياسيين.
ومن هنا، يفهم تهيج ملك المغرب، وهو يسمع تهنئته – بعد عشرين عاما- على تدبير صادق عليه في شبابه دون أن يدرك مضاعفاته. ولا يد أنه كان يعتقد، منذ وصوله، أن خصوم الإسلام سيسعون إلى استخدامه ضد الإسلام وضد بلاده عبر منحه تشريفا جامعيا لقاء عمل تشريعي كذبته مجموع مواقفه وممارساته اللاحقة.
وما لفت انتباهي حين استحضار هذه النازلة في حضرة الملك الحسن الثاني: البساطة والمزاج الجيد اللذان علق بهما على هذه الواقعة التي آذت وشنجت المغفور له محمد الخامس في بداية زيارته الرسمية لفرنسا.
وبدل أن يعتبرها مؤامرة سوداء، حاكها عميد كلية بوردو بتواطئ مع السلطات الفرنسية في الرباط وباريس، أعاد المسألة إلى نصابها الحقيقي: دعابة سيئة من موظفي الإقامة العامة الذين احتفظوا بعقلية الطلاب ولم يستطيعوا مقاومة إغراء حشو حفل جامعي ب»خدعة» رائعة. لقد كان الأمير مولاي الحسن يعرف جيدا أستاذه بوبلافسكي، ولذلك استطاع أن ينزع عن حفل بوردو الصمت الجليدي ويعيد إليه جوا من الود الدافئ. وقد كان يعرف أن العالم الجليل تأثر كثيرا وتشرف عميقا باستقبال سلطان المغرب. ولذلك، هنأه على نشاطه التشريعي. وإذ قام بذلك على نحو محرج، نتيجة حقد مخبريه، فهذا أمر غريب جدا. ولم يتورع الأمير من اعتبار المشهد مسليا جدا، في إدراك تام لسخط أبيه. وعليه، لم يجد كبير عناء في التحرر من الشعور بالإذلال والعثور على كلمات دافئة لشكر الكلية وعميدها على منح شهادة الدكتوراه في القانون لأبيه السلطان محمد الخامس.
ويجب أن يكون الأمير قد فكر في أن سيدي محمد بن يوسف قد استحق فعلا الشهادة الجامعية التي منحت له نتيجة نشاطه التشريعي. ولا شك أن الأمر يتعلق بنصوص من الظهير البربري مختلفة كليا، هي التي شكلت مجد رئيس الدولة الذي ورث قطعة من السيادة وأورث ابنه سيادة كاملة مستعادة. لكن ما يجب فهمه أن نازلة بوردو لم تقترن بأي شكل من أشكال الشر أو سوء النية في الخطاب الذي ألقاه العميد بوبلافسكي، قدر احترامها برغبة العميد في أن يكون ودودا، وفي أن يشرف السلطان. وهذا ما استوعبه الأمير تماما، ولطفه المعهود في حل النزاعات، أجاب كذلك بلطف عن الخطاب الذي لم يكن يهفو، برغم المظاهر، سوى إلى تشريف المتلقي.
وبصراحة شديدة، حين سماع الملك الحسن الثاني أنى استحضار نازلة أكتوبر 1950، خلت أني أدركت إحدى سمات توجهه الدبلوماسي. فقد كان شديد الحساسية تجاه المقاصد العميقة لمخاطبيه، وكان يعرف أن النوايا الحقيقية تضمرها الكلمات التي قد تكون مرتبكة. لقد كان رجلا ذا خصال ومناقب، من المرجح أنها وجهت عمله رئيسا للدولة وأميركا للمؤمنين ومرشدة روحيا للأمة المغربية.
هوامش وملاحظات المترجم
(*) جورج فوشيه، جمال عبد الناصر ورجاله – رفاق الكفاح في سنوات المواجهة، ترجمة وتقديم الحسيني معدي، دار كنوز للنشر والتوزيع، 2009. (331 صفحة).
(**) أوغست بول شارل ألبير نوغيس (1876 – 1971). جنرال فرنسي من الحرب العالمية الثانية. كان عام 1942 مقيما عاما لفرنسا بالمغرب، تحت إمرة الجنرال جوان القائد الأعلى للقوات الفرنسية بشمال أفريقيا من 1939 إلى 1943.
(***) فانسان أوريول (1884 – 1966). سياسي فرنسي ترأس الحكومة المؤقتة من 18 نونبر إلى 16 دجنبر 1946. صار اول رئيس لفرنسا منذ احتلالها أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ تولى الرئاسة من 16 يناير 1947 إلى 16 يناير 1954.
(****) روبير بوبلافسكي (1886 – 1953). رجل قانون ومحام وأستاذ بكلية الحقوق في بوردو. اشتغل عميدا لهذه الكلية من 1949 إلى 1953. تخصص أصلا في القانون الجنائي، غير أنه أنجز كذلك مجموعة أبحاث وأصدر عددا من المنشورات بصدد قانون الصيدلة.
(1). J. Lacouture, Cinq Hommes et la France, p. 186.