في الكتاب الذي ألفه خوصي لويس دمو فيلا يونغا بعنوان « الملك»، سجل الملك خوان كارلوس أهم اللحظات التي طبعت حكمه وحياته الشخصية. وفي الجزء المتعلق ببداية الحكم، يواجه الملك الحديث العهد بالعرش مشكلة الصحراء، والجنرال فرانكو يحتضر. ماذا دار بينه وبين الجنرال؟ وكيف كان يرى الحسن الثاني رحمه الله؟ وكيف تعامل مع المسيرة الخضراء؟
هذه الاسئلة وغيرها يجيب عنها الملك:
في يوم 14 أكتوبر من سنة 1975، ألمت وعكة صحية بالجنرال فرانكو. إنه يشعر بألم كبير في الصدر ويجد صعوبة في التنفس وطبيبه الشخصي، الدكتور بوزيولو، يخاف أن تكون الأعراض الأولى لداء السداد. للاستشارة والتأكد من الأمر، طلب الدكتور كريستوبال فيلافيردي، رئيس مصلحة القلب بمستشفى «لاباز»، وهو صهر الجنيرال. استعد الدكتور فيلافيردي لإجراء تخطيط كهربائي لقلب والد زوجته، إلا انه كان مصرا على أن يتم كل ذلك ليلا وفي سرية تامة، حتى لا يُعرف نبأ تدهور صحة الجنيرال في الخارج. احضر إلى «باردو» فريق أطباء من اختياره للسهر باستمرار على صحة فرانكو. تم إحضار كل المعدات الطبية الضرورية ـ ليلا دائما ـ إلى «باردو»، لأن فيلافيردي كان يرفض نقل والد زوجته ثانية إلى «لابازا»، لأنه سيتعذر عليه عندها الحفاظ على سرية تدهور صحة مريضه الشهير. يوم 6 أكتوبر، كانت الأزمة الكامنة التي رهانها الصحراء الإسبانية، تنفجر بشكل واضح. فالملك الحسن الثاني يهدد باجتياح الأٍراضي التي يحتلها الجيش الإسباني على رأس آلاف المغاربة، سلاحهم الوحيد رايات المملكة الشريفة. إنها «عملية المسيرة الخضراء».
بموازاة الأزمة السياسية، كان مرض فرانكو يزداد خطورة يوما عن يوم. إصابة قلبية، نزيف وإصابة في المعدة. كان الألم يغزو الجسد المنهك للديكتاتور Qué dificil es mourir? / (كم هو صعب أن تموت). قال فرانكو لطبيبه وهو يدخل مرحلة الاحتضار. تعيش الحكومة حالة تجنن. لم يعد أرياس يعرف ما ينبغي أن يفعله. يضغط عليه العديد من الوزراء لتعيين دون خوان كارلوس على رأس الحكومة مرة ثانية. جلالة الملك، هل صحيح أن كارلوس أرياس، حين زاركم لكي يقترح عليكم أن تصبحوا رئيسا للدولة للمرة الثانية، قال لكم: «الشيء الوحيد الذي أطلبه منكم جلالة الملك، هو أن لا تفرضوا علي القيام بما لا أستطيع القيام به: أن أطلب من فرانكو التخلي عن سلطاته بصفة نهائية». كان كارلوس أرياس متأثرا جدا لمعاناة الجنيرال. وكذلك كنا جميعنا، بما أننا كنا نعلم أن الاحتضار المبرح للجنيرال لا يزال في بدايته.
حين تدهورت صحة الجنيرال للمرة الأولى، زارني كارلوس أرياس رفقة أليخاندرو رودريغيز دو فالكارسيل، ليخبرني أنه ينبغي أن نطبق الفصل 11 من القانون العضوي الذي يجعل مني رئيسا للدولة للمرة الثانية. قلت له: « لا، إني أرفض هذه المرة «. أصيبا بالذهول، فأوضحت لهما: «لا يمكنكما استخدامي كما لو كنت «الجوكر» في لعبة ورق. لقد قبلت مرة أولى أن أحل محل الجنيرال وأنا أعي بشكل جيد بأن الأمر يتعلق بما يمكن تسميته مزاولة مهمة بالنيابة. إلا أن الوضع يختلف هذه المرة. فقضية الصحراء يمكن أن تنفجر في أية لحظة، ولا يمكنني قبول مسؤوليات رئيس دولة، إلا شريطة أن تكون لي كامل الحرية في التصرف كما لو كنت ملكا. إذا كنتما تطلبان مني تحمل المسؤولية لأن فرانكو ألمت به وعكة صحية يمكن أن يتشافى منها، فأنا أرفض. لن أقبل أن أكون من جديد رئيسا للدولة، إلا إذا أخبرني الأطباء الذين يصهرون على علاج الجنيرال أنه لا أمل في شفائه، حتى لو تطلب الأمر انتظار شهرين أو ثلاثة أشهر». جلالة الملك، هل علم فرانكو برفضك التعيين الثاني؟ زرته وقلت له: «سيدي الجنيرال، لسنا متعجلين، لا أنتم ولا أنا. فلننتظر ما ستؤول إليه حالتكم الصحية. من الممكن أن تتعافون وترغبون في استرجاع سلطاتكم، كما سبق لكم وفعلتم ذلك في المرة السابقة. وأنتم تتفهمون أن ذلك يجعلني في وضعية حرجة. لقد سبق لكم تعييني بصفة ملك، ولا أعتقد أنه يوجد اليوم دافع لخلافتكم». استمع إلى فرانكو من دون أن يتكلم. لكني، كنت أعرف أنها « بداية النهاية «، كما سبق له هو نفسه أن قال لطبيبه. إلا أنه كان يصعب عليه، كما يحدث لجل المرضى، أن يتقبل ذلك. بعدها مباشرة، أصبح ميؤوسا من حالته.
قمت بزيارته رفقة دون صوفيا وأخبرني أطباء الجنيرال، عندها، بعدم وجود أي أمل في شفائه. قد يكون بإمكانهم تمديد حياته لشهرين أو ثلاثة أشهر، إلا أن خطورة مرضه كانت أقوى من أي علاج. طلبت، إذن، حضور كارلوس أرياس وأخبرته أن بإمكانه إعداد مرسوم تعييني رئيسا للدولة من جديد. ألم يكن بإمكان فرانكو، وهو على سرير المرض ويعرف حقيقة حالته الصحية، أن يعينكم ملكا لإسبانيا بصفة نهائية؟ أجل، كان بإمكانه ذلك، ويمكنك أن تسأل الكورتس.. يتوقف دون خوان كارلوس قليلا، ثم يهز كتفيه وهو يقول: * لكنه لم يفعل. حين قرر الملك الحسن الثاني تنظيم «عملية المسيرة الخضراء»، هل كان على علم، جلالة الملك، بالحالة الصحية لفرانكو؟ من المؤكد أنه كان يشك في أمر ما، لكني لا أعتقد أنه كان على علم بأن فرانكو يحتضر. لا، لا أعتقد أنه يمكن القول بأن الحسن الثاني كان يستغل الظروف. لقد كان التوتر بين الرباط ومدريد أكبر من ذلك. لقد كانت الفترة فترة استقلال في العالم ككل، وكان دورنا قد جاء. فمحكمة لاهاي أصدرت حكمها بخصوص الصراع. تم الاعتراف للمواطنين الذين كانوا يعيشون تحت المراقبة الإسبانية، بالحق في تقرير مصيرهم. لكننا، في مدريد، لم نكن نعرف كيف ينبغي أن ننهي الأمر. كانت الحكومة منقسمة بين خيارين. واحد يؤيد التفاهم بسرعة مع المغرب وسحب جنودنا. والخيار الثاني، كان ينزع نحو الطروحات الجزائرية، التي ستصبح بعد ذلك هي طروحات البوليساريو. كان الصراع على أشده. في اعتقادكم، جلالة الملك، كيف كان فرانكو سيتصرف لو كان في كامل صحته، وكان لا يزال على رأس الدولة؟ إني أتلافى تقديم فرضيات حول ما كان سيفعله شخص آخر بدلي. أنت تعلم أن فرانكو كان «إفريقيا». لقد قضى فترة طويلة من حياته المهنية المتألقة في الأراضي الإفريقية. كان يعرف أن المغاربة مقاتلون أشاوش وأنه لم يكن على رأسهم هذه المرة عبد الكريم معين، بل ملك ذكي جدا، استراتيجي جيد وديبلوماسي نبيه في الوقت نفسه.
لست متأكدا، إلا ني أعتقد أن فرانكو، لو كان مكاني، لتصرف بحكمة دون التورط في معركة استعمارية كنا سنجني منها توبيخا عاما. كيف كانت معنويات الجنود في الصحراء وقد بلغ الصراع هذه الدرجة؟ سأكرر نفسي إذا قلت لك بأن الجنود في حاجة دائما إلى الإحساس بأنهم تحت قيادة. لم يكن الحال كذلك؟ كان يبدو أن الحكومة غير متعودة على غياب فرانكو على رئاسة الدولة. والجنيرال غوميز دو سالازار، الذي كان يقود الجيش الإسباني في الصحراء، كان منشغلا بنفسه عمليا. إلا أنه فهم أنه لا مفر من إنهاء الاستعمار وقد تقبل الأمر. بالإضافة إلى ذلك، ما كان سالازار سيتساهل لو تعرض جنوده لأي عنف. عندها قررت أن أتكلف شخصيا بهذا الملف. ففقد كنت رئيسا للدولة من جديد، إلا أن الشروط كانت مغايرة هذه المرة. خلال صيف 1974، لم أفعل شيئا آخر سوى ما كان دوغول يسميه «افتتاح الأقحوان». وخلال أكتوبر 1975، كانت الوضعية حرجة. وكان علي أن أتخذ قرارات بالغة الخطورة. فمنذ مرض فرانكو، عرفت اسبانيا فراغا في السلطة لا جدال حوله. لم يتجرأ أحد على فعل شيء، لم يتجرأ أحد على التحرك، ولا أن يتحمل أدنى المسؤوليات.
جمعت إذن، في «لاسارسويلا»، بالإضافة إلى رئيس الحكومة ووزير الشؤون لخارجية، كل قادة أركان الجيش. أخبرتهم بأنني سأركب الطائرة صباح الغد واتجه إلى العيون. أصيبوا بالذهول. صرخ وزير الشؤون الخارجية، بيدرو كورتينا: «لا يمكنكم الذهاب إلى هناك!» إلا أنني شعرت أن العسكريين، رغم التزامهم الصمت، كانوا يؤيدون قراري. قلت لهم عندها: «اسمعوني جيدا: إن فرانكو يشرف على الموت، وأنا الوريث… لمزاولة المهام! سأذهب إلى العيون لكي أوضح لغوميز سالازار ولرجاله ما ينبغي أن نفعله وكيف سنفعله. سننسحب من الصحراء بشكل منتظم وبعزة نفس. ليس لأننا انهزمنا، بل لأن اسبانيا لا يمكنها إطلاق النار على حشود من النساء والأطفال العزل». هل تعتقدون فعلا، جلالة الملك، أن الملك الحسن الثاني كان سيطلب من تلك الحشود التقدم لاجتياح المواقع الإسبانية؟ ونحن في العيون، كنا نرى، دون حاجة إلى منظار، حشودا كبيرة ترفع الأعلام الخضراء. ولم تكن تنتظر سوى الأوامر للتقدم حتى أفواه رشاشاتنا. وأؤكد لك، خوسي لويس، أنه كان بإمكاننا أن نرى في الصفوف الأمامية النساء والأطفال كثر مكن الرجال.
كنت مقتنعا أننا إذا لم نتراجع، فإننا سنرى أمام أعيننا مذبحة رهيبة… بمجرد أن حللت بالعيون، نصحت الجنود و أنا أوضح لهم بأنه لا يمكننا إطلاقا أن نتخلى بسرعة عن مواقعنا، ولا يمكننا، من جهة أخرى، أن نطلق النار على هذه الحشود من الناس الذين كانوا يتقدمون عزلا تجاهنا. لذلك فإننا سنتفاوض حول الانسحاب في ظل شروط تكون مشرفة لنا أعتقد أنني سمعت تنفسا للصعداء من طرف الجميع. كنت أعلم أن الرباط ستتعرف بسرعة على فحوى خطابي. بمجرد عودتي إلى مدريد، ترأست مجلسا للوزراء انعقد على وجه السرعة. قلت لبيدرو ورتينا: «سأتلقى مكالمة هاتفية من ملك المغرب، يخبرنني من خلالها أنه سيوقف «المسيرة الخضراء». نظر إلي وزير الشؤون الخارجية منذهلا. لم يكن لكم من قبل، جلالة الملك، أي اتصال بالحسن الثاني؟ أبدا. كيف علمتم إذن أنه سيتصل بكم؟ كنت أعرف ذلك قبل سفري إلى العيون. إني أعرف العرب. إنهم يحبون «المبادرات الطيبة»، وأجمل المبادرات بالنسبة إليهم هي تقدم القائد لجنوده. ثم كررت قولي لبيدرو كورتينا: «نعم، سيطلبني الملك الحسن وسيفعل ذلك لتهنئتي. والآن أيها السادة، قلت لبقية الوزراء، عليكم أن توضحوا لي ما ينبغي أن أقوله لملك المغرب. فهذا دوركم، وليس دوري». شرعوا في التفكير فيما ينبغي أن أقوله للحسن لثاني، فجاءني عون خدمة ليخبرني بأن ملك المغرب يطلبني على الهاتف. بمجرد أن أمسكت السماعة، قال لي الحسن الثاني: «إني أهنئكم على مبادرتكم. الآن يمكننا أن نتناقش بكل هدوء». ثم أوقف الحسن الثاني «المسيرة الخضراء» بصفة نهائية. اتهمنا البعض، بعد ذلك، بأننا انسحبنا من العيون بسرعة وبطريقة غير منتظمة. إنه خطأ كبير. لقد كان غوميز دو سالازار رجلا حذرا وشديد التدقيق في التفاصيل، كان يعمل على إنجاز مهامه بشكل جيد وكان يكن احتراما كبيرا لجنوده.
بناء على ذلك، ففي هذا النوع من العمليات حيث لا يكون لدينا الوقت المطلوب، فلا بد من حدوث بعض الهفوات دائما. بالنسبة لي، ما كان يهمني أكثر هو أن نوقف تلك المسيرة المجنونة التي يشارك فيها مائات الآلاف من الأشخاص المستعدين لكل شيء لاسترجاع أرض تحتلها قوات أجنبية. على المستوى العسكري إذن، فقد حققنا نجاحا في العيون. أما على المستوى السياسي، فمن البديهي أنه كان علينا إتمام الأمور بشكل أفضل. إلا أن السياسيين هم الذين يتكلفون بالسياسة، وليس أنا… أحسست أن دون خواس كارلوس يود إضافة شيء يحز في خاطره. ففعل ذلك بطريقة ملغزة. * تعلم ياخوسي لويس، أن ملك اسبانيا يفتح الأبواب أحيانا، لكن لا أحد يستغل ذلك للدخول وراءه. صحيح أن دون خوان كارلوس، يتخلى في معظم الأحيان عن هيبته الشخصية، ليحصل في مجالات مختلفة على فتح تلك الأبواب التي ظلت مغلقة من قبل، دون أن يعرف أي كان، لا تجار، لا رجال صناعة ولا رؤساء مقاولات، الاستفادة من النعمة.
في كتاب ألفه خوصي لويس دموفيلا يونغا: خوان كارلوس يكشف أسرار آخر أيام إسيانيا في الصحراء وسياسة الحسن الثاني!
بتاريخ : 06/11/2024