أصدر الاستاذ عبد الله العروي سنة 2014 نصا بعنوان رجل الذكرى ويتضح من الاشارة الواردة في تقديمه لهذا النص أنه كتبه صيف سنة 1958 . وقبل ذلك أصدر كتاب «السنة والإصلاح» سنة 2008 وهو عبارة عن محاولة توخى منها المفكر إنجاز حوار مع مشروعه الفكري والتاريخي. وقد انتبه المهتمون بكتاباته ومشروعه في التحديث، إلى الطابع الخاص الذي تمثله هذه النصوص في مساره في الكتابة والبحث.
يُحيطنا العروي في المقدمة القصيرة التي كتب لنص رجل الذكرى، أن ما شجعه على تنقيح ونشر هذا النص، هو استيعابه لنواة كل ما كتب بعد ذلك في النقد الثقافي أو في الإبداع الروائي. كما يوضح أن الحوار المفترض في كتاب «السنة والإصلاح» يبحث في الذِّكْر والذِّكرى، وأن مشكلة العربي اليوم تتمثل في كونه رجل الذكرى، إنه عاجز بلغة العروي عن ربط علاقة تفاعلية وإيجابية مع الحاضر.. إنه يواجه وحيداً أعزل المستقبل الغامض. ويختم مقدمة نصه قائلاً: «هل يجود علينا الزمن ببعض النسيان؟ هل توقف هذياننا أم تواصل وتجدّد؟»
لم يتوقف العروي عن الكتابة والبحث منذ ما يزيد عن خمسة عقود، وقد حرصت على تجديد لقاءاتي به، ومتابعة إنتاجه دون انقطاع. وأعتقد انه لا يختلف إثنان في كونه يُشكِّل اليوم في فكرنا المعاصر، نموذجاً للمثقف الملتزم بقضايا التأخر التاريخي العربي، والمُدافع المستميت عن ضرورة القطيعة مع الماضي، القطع مع الذِّكر والذِّكرى والتغني بضرورة النسيان.
بسط العروي منذ نهاية ستينيات القرن الماضي مواقفه بقوة ووضوح، في مصنفات عديدة تُتَمِّم بعضها وتُركّب مجتمعة خياراته الإصلاحية. ويعرف الجميع اليوم، أنه ينطلق في دفاعه عن الحداثة والفكر التاريخي، من ظاهرة التأخر التاريخي الشامل في المجتمعات العربية. ويدعو إلى إنجاز مشروع في النقد الإيديولوجي بهدف إظهار فساد المنزع الثقافي السلفي، والنزعات الانتقائية السائدة في فكرنا المعاصر. إنه يدعو إلى القيام بثورة ثقافية يكون بإمكانها متى تحققت، أن تضع العرب أمام اختيارات جديدة مُنفتحة على مجمل الثورات الفكرية والسياسية التي تبلورت في الأزمنة الحديثة.
يشتغل في الجبهة الثقافية ويفكر في مقدمات الحداثة السياسية، عن طريق التفكير في المفاهيم التي ساهمت في تَشَكُّلِ نسيج التحديث السياسي الليبرالي، الحرية والدولة والتاريخ والعقل. يفكر في هذه المفاهيم مستعيناً بالتاريخ والنزعة التاريخانية، محاولاً كشف مفارقات الوعي السياسي العربي، وتقليدية المؤسسات السياسية العربية، وكذا صنمية المفهوم السياسي في ثقافتنا السياسية، متوخيا محاصرة التقليد، ومختلف مظاهر الذِّكر والذّاكرة والذِّكرى في الحاضر العربي.
عندما يدافع العروي في أعماله بحماس عن الحداثة ويتغنى بلزوم النسيان، ويدعو العرب إلى التعلم من دروس ومكاسب الفكر المعاصر، فإنه لا يخلط بين المستويات ولا ينظر إلى منجزات التاريخ المعاصر باعتبارها مِلْكاً خاصاً بالغرب الأوروبي، رغم أن هذا الأخير يُعَدّ صاحب المبادرة التاريخية الحضارية في القرون الثلاثة الماضية. إنه يعي جيدا وذلك بحكم تكوينه التاريخي، أن معركتنا السياسية معه لا ينبغي أن تجعلنا نغفل أهمية منجزاته المادية والرمزية وقد بلورها بكثير من القوة والتفوق في تاريخه الحديث والمعاصر. وهو يملك شجاعة الإقرار بلزوم القطيعة، إنه يفترض أن النزعة الانتقائية التوفيقية لا تسعف بتملك الذات في صيرورتها الجديدة، إنها تخلط أوراق الأزمنة والعصور، وتجمع المتناقضات وتبني المفارقات، دون أن تعي أن القطيعة اختيار تاريخي، وأنها ترتبط بعالم جديد، وتستند إلى أصول ومقدمات جديدة، الأمر الذي تترتب عنه معطيات، من بينها التفكير في إعادة بناء الذات، بالصورة التي تستجيب لروح المتغيرات الجارية، وتعمل على دمجها بروح يقظة ووعي تاريخي.
يَردُّ العروي في مقدمة نص رجل الذكرى على الذين يقولون باستحالة القطيعة، موضحاً أنه يقول بالقطيعة كداعية للتجديد من أجل استئناف الحياة. ولمزيد من معرفة روح خياراته السياسية والتاريخية نشير إلى أن الذات العربية في كتاباته، ليست مجرد هوية دائرية مغلقة ومكتملة، إنها مفتوحة على أزمنة لا حصر لها، وهي اليوم مفتوحة في معارك أزمنتها الجديدة، المتمثلة في مظاهر تأخرها المتجذرة وعوائق نهضتها المحاصرة. ولن تتمكن من إنجاز مشروعها في القطيعة، دون اتخاذ مواقف واضحة من التراث والتاريخ واللغة، مواقف تستند إلى أوليات الفكر التاريخي ومقدمات التاريخانية، وتروم بلوغ عتبة الحداثة بتأسيسها وإعادة تاسيسها، في ضوء معطيات حاضرنا وبناء على مختلف مكاسب الفكر والتاريخ المعاصرين.
مقابل الجهد الفكري التركيبي الذي بنته نصوصه، ومقابل خياراته التحديثية المندفعة نحو المستقبل، والساعية لتخطي أوضاع التأخر التاريخي العربي، مقابل كل ذلك، يواجه المفكر انكفاءً وتراجعاً في المستوى السياسي وفي المستويات الفكرية العامة، داخل مختلف بلدان العالم العربي. فكيف يمكن فهم الممانعات التي تنتصب أمام أسئلته وأجوبته، حيث لا تزال الثقافة العربية تعاني من هيمنة التقليد، وسيادة نزعات التوفيق والانتقاء، مكتفية بمعانقة شتائها الطويل وركودها المتواصل؟
لا يتوقف العروي عن مواجهة سؤال العناد التاريخي، سؤال استمرار الإخفاق السياسي، وسؤال عودة النزعات السلفية إلى فضاء الفكر العربي المعاصر، وفي مؤلفاته وترجماته الأخيرة يُعايِن المهتم بمشروعه في الدفاع عن الحداثة والتاريخ، أن المفكر يواصل دفاعه عن خياراته السياسية باعتباره أنها الخيارات الأكثر تاريخية والأكثر نجاعة في زماننا. نتبين ملامح إصراره في مواصلة دفاعه عن مواقفه، سواء بمزيد من توضيحها أو بالبحث لها عن عناصر إسناد جديدة، تعزز قوتها ورجحانها التاريخي والسياسي، نتبين ملامح ما سبق في نصوصه الأخيرة، كما نقف على جوانب من ذلك في ترجمته لكتابي منتسكيو تأملات في تاريخ الرومان، أسباب النهوض والانحطاط (2011) وروسو دين الفطرة (2012). ونقف في المقدمات التي مَهّد بها لترجمة الكتابين على أوجُه دفاعه المتواصل على الحداثة والتحديث.
تكشف أعماله الأخيرة قدرته العجيبة على مواصلة التفكير، في إشكالية التأخر التاريخي في العالم العربي وفي رصد مفارقاتها الجديدة، والنظر إليها باعتبارها مجرد تلوينات عارضة، تلوينات مستجدة تؤكد قيمة خياراته وسلامتها، دون أن تدفعه إلى التراجع عنها أو التخلي عن بعضها. وقد يبدو خطاب عبد الله العروي في هذا الجانب بالذات دوغمائياً، إلا أن تأملاً هادئاً لمراميه ولمساره الفكري ونوع خياراته، يجعلنا ندرك مبررات استمراره على الخط نفسه، ومن أجل الأهداف ذاتها.