كيروم: تجليات الصورة الفنية في أعمال كيارستمي
كفيح: الشعر يقيم بيننا ويقتحم حياتنا وفضاءاتنا
جماهري : الأرواح الـ10 للشعر في السينما
احتضن مقرالأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة بني ملال خنيفرة ، صباح الأربعاء، ندوة حول «الشعر في السينما» بمشاركة حمادي كيروم وعبد الحميد جماهري وعبد الواحد كفيح، ومن تنظيم جمعية مهرجان ثقافات وفنون الجبال ببني ملال، وبشراكة مع المركز السينمائي المغربي والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين والمديرية الجهوية للثقافة بحضور مدير الأكاديمية وأطرها.
وفي تقديم الندوة وتسييرها قالت أمينة الصيباري،رئيسة الجمعية في أرضية « الشعر والسينما « كتبها الشاعر والمبدع عبد السلام الموساوي : «إنَّ افْتراض وُجود سِينما شعْرية لا يُقصد بِه دائماً وُجود ذلكَ الفيلم الَّذي تُنْشَدُ فيه الأشْعارُ المَعروفَة على لِسانِ أبْطاله؛ أوْ ذَلك الذِي يَسْتحضِر سيَر الشُّعراء سَرداً أو توْثيقاً فقَّط. وإنَّما ـ أيضاً ـ ذلكَ الذي نَجد الْبطلَ فيه هُو الأُسْلوب وطَريقةِ سَرْد الأحْداث. بِمعْنى الاهتِمام المُضاعَف بكيْفية اسْتثمارِ الْوسائِل التَّعْبيريَّة. كمَا نجدُ البَطل فيهِ أيضاً هو اللَّقَطات المُكَثفة والمُوحية بِالدَّلالات الْعَميقَة التي تَتجاوز سُطوح الْحِوارَات المُبتذَلة في الْحَياة اليَومية إِلى الاحْتِفاء بالحُمولَة الرمْزية للأحْياز المَكانِية، تِلْك التي تُخْصبُها الإضاءَة الطبِيعية أوْ الاصْطناعية حسَبما يفْرضُه السِّياق. كمَا تعَزز بُعدها الإيقاعي المَسْموع بِخلفِياتِ الْمُوسيقى التَّصْويرية الَّتي يَجْري تَأليفُها خِصِّيصاً للْفِيلم.
لقَد كَتب جان كُوكْتو ذاتَ مرَّة: «مَحْكوم على السِّينما بأنْ تكُون شِعرية، ولا يُمْكنها أنْ تَكُون إلا كَذلك، إذْ يَصْعُبُ نفي هَذه الخاصّية عنْ طَبيعتِها، وسَيبْقى الشِّعر دائماً ههُنا، بيْن يَديْها، لا يمْنعُها شَيء منْ استِثماره». وهو حتْماً يعني الخُروج منْ رُوتين الْحِكاية وَضيْقها، إلى أفْياءِ السِّحْر والْحُلم، والانْتصار لتلقٍّ ذكيٍّ، ينتقِلُ بالمُشاهِد منْ حُدود الْمَرئي إلى لانِهائية اللاَّمَرئي.
ثُمَّ إنّ موْضوعَ (عَلاقَة الشِّعْر بالسِّينما) ليْس جَديداً. فقدْ طرِح منْذ عشَرات السَّنوات، والسّينما ما تزالُ تخْطو خَطواتِها الأولى تِقْنياً وفنيّاً. ولعَل الفَضْل في ذلك يرْجعُ للشَّكْلانيِّين الرُّوس الذينَ قلَبوا مَوازين النَّظرة التقْليدِية للُّغة ولِلأدَب والفنِّ عُموماً، منْ خِلالِ نظَريتِهم الْمُسْتقاة مِنَ التَّطور الَّذي حَصل في حقْل اللِّسانيَات، بفَضْل العَرَّاب الأوَّل للسانِيين العالمِيّين فردناند دو سوسير. وغَدا الفِيلم، تبَعاً لذلكَ، ليْس هُو الذي يُعرضُ في القاعَة أمامَ الجُمْهور، بلْ ذلكَ الذي يَنتقِل إلى عقْل المُشاهد، فيَعمل على توْسيعِ دلالاتِه وأبعاده انْطلاقاً مِمّا مارسَه هذا المُشاهِد منْ تأويلٍ مَدْعُوم بثقافتِه وقُدراته على تَحْليل الْعلاقات القَائمة بيْن اللقَطات. ومَعْنى ذلكَ أنَّ لقَطات الفِيلم (الشّعري) مُوازية للْكلمات في قَصيدة ما. ويَكاد نُقّاد أفْلام المُخْرج الرُّوسي أنْدريه تاركوفسكيAndreï Tarkovski أنْ يجمعوا عَلى أصَالة أسْلوبِه في المَنْحى الشِّعْري الَّذي وضع فيه تجْربته. فـقَد اتَّجه إلى جَمالية أُخْرى مُختلفَة عنِ السَّائد، حيْث تُشبِه بنيةُ فيلمِه بنيَة نصٍّ شِعْري. فلا تَرابُط بيْن الأحْداث، إذْ يغِيبُ التَّسلسُل وتَضمَحل الحبْكةُ. فهُو يجْعل منَ الصُّورة وحْدة مَرئية تعْبيرية مَفتُوحة على كُل الاحْتمالات. وكأَنه بِذلك يُحفز المُشاهِد على الإسْهام الفِعليّ في ملْءِ الفَجواتِ بما يُمْكن أن يُقدِّمه منْ تَأويل للْمَادة الفِيلمية التي تكاد أن تكون خامّاً، ومن ملْءِ للفجَوات. وهكذا يقفتاركوفسكيموقفاًحذراًمناللغةوهَذا ما «ينْعكِسفيفيلمِه(المِرآة). فكَمافيكلأفْلامهيعْتمد تاركُوفسكيعَلىالصُّورةالتِيتظْهربِشكْللوْحةفنيةٍ،وكأَنتاركوفسكييرسُمبكاميرتِهملامِحالصُّورة التييُريدأنْيحَمّلهامايُريد» (علاء الدين العَالم ـ فيلم المِرآة لتاركوفْسكي ـ مجلة دلتا نون، العدد 2، دمشق 2014، ص 53).
إنَّ المقْصُود بالشِّعْر السِّينمائي، ليْسَ الشّعر باعْتِباره نوعاً أدبياً بلُغته وبلاغَته وإيقاعاتِه، وإنَّما باعْتِباره وجهةَ نَظرٍ في العَالم، أيْ بِصفَته وَضْعيةً للتَّفكير، كمَا صرَّح بذَلك تاركوفسكي نفْسُه في حِوار أجْراه معهُ إيف موروزيYves MOUROUSIلإحْدى الْقنَوات التَّلفزِية الْفَرنسية، غَداة عَرْضِ فيلم (المرآة) في القَاعات الفَرنسيَّة (المعهد الفرنسي
للسمْعي البَصري 25 يناير 1978).
وبِالمُقابل، فإنَّ عَلاقاتِ التَّبادل بيْن الشِّعر والسينما، قدْ مكَّنت الشُّعراءَ منْ اسْتثمَار تِقنيات الفنِّ السّينمائي، وهُم يُنوعون في طَرائق بِناء نُصوصِهم الشِّعرية؛ يُحركُهمْ في ذَلك البَحْث عنْ آفَاق جديدةٍ لتَجْديد الأبْنية الشعْرية وأسَاليبِها، تأثراً بمُسْتجدَّات الْعَصر من تِكْنولوجياتٍ وفُنون. ونَسْتطيعُ اليوْم أنْ نَلتقطَ من نُصوص الشُّعراء جُملة منْ هذِه التقْنيات الجديدة،كتقنيات التصوير في السينما. ومنها نظام اللقطة القريبة والمتوسِّطة والبعِيدة، وزاوية النظر، ونظام المونتاج، وتقنيات كتابة السيناريو.
ننشر مداخلة الشاعر والكاتب عبد الحميد جماهري
وحمادي كيروم والكاتب عبد الواحد كفيح ..
جماهري:
1
لم تغادر السينما في ذهني، دائرة المحرم إلا بصعوبة. كانت أمي وأبي قد نهياني عنها وأنا أغادر طفولتي السعيدة والقرية معا، إلى مدينة التحصيل والموز والمصابيح، كما أنشدتها الأغاني الشعبية في أهزوجات الأعراس. كانت ترتسم ، كهاوية: احذرها أو ستضيع !
كان علي أن أكسر المحرم، قبل أن ألج سينما “فوكس” في وجدة، التي سترتبط في ذهني بأول فيلم »”روماني” عن اسبارتاكوس والحرية، وعبر صوت الشاعر عبد المعطي حجازي، الذي قرأ فيها قصيدته عن عمر بنجلون “يستطيع بن جلون أن ينهض الآن”.. ارتباط تزامن فيه الوجداني الطفولي، والشاعري السياسي ، وشعرية السينما بالمحرم.
لهذا أذكر أول مرة دخلت قاعة سينما، ولا أذكر أول مرة كتبت القصيدة، بالرغم من أن زمن الشاشة كان لاحقا عن زمن الورقة.
2
تبدأ شاعرية السينما، من مكانها، أو تحديدا من قاعتها. في التلاطم الدلالي، كل قاعة مغارة شعرية. وكل فيلم غارة. هناك، عندما تغلق الأبواب وتنزل العتمة، تنفتح إمكانية الاستسلام لحلم، ولتضاريس غير متوقعة. لم يطمثها خيال أو بلاغة.
لا اذكر حقا متى قرأت، أعندما فكرت في الشعر أو عندما فكرت في السينما، أن دواخلي مغارة لأسلافي، والسينما مغارة (كدت أقول مهارة )الحداثة حين تجتهد. هكذا، قبل أن تبدأ سردية الفيلم، تكون القاعة قد احتلتك، ووضعتك في رحمها المجازي، لتتلقى توالي للصور على الشاشة البيضاء. قد تكون تلك عودة إلى أصل الشعر: صور في مغارة… لكن القصيدة لاتتقدم بمكان.. تتفنن في تحويل الهندسة إلى زمان ..
3
لعلي لم أتحرر من الأسئلة التي تضعها الأرضية، المفروشة أمام النباهة لعلها تجيب، لكن يساومني السؤال عن الطريقة التي يختارها الشعر لكي يعرض نفسه في وعلى السينما؟ أو التسمية التي يختارها للشاعرية كي تدخل الخطاب السينمائي؟ أو قل، كيف يعبر الشعر كل مفازات الجغرافيا، والمراحل وتضاريس السياسة، والثقافة، لكي يصل سالما إلى ذاتية متلقية؟ قد أصاب، ببعض التطاول، وأدعي أن لي قدرة على استجلاء المتن الشاعري في السينما، باستعادة أسماء شاهقة في خفة الحبل بينهما، كدولوز وبازوليني وطاركو فسكي؟ قد أستسهل، لغرور طارئ، كل هذا ! لكن بكل صدق هنا، معنا من هم أفضل، بمسافات بلاغية طويلة، للخوض في ذلك…
4
وعليه، أعتقد أن من المفاخرات ولعلي أقصد المفارقات التي استهوتني دوما، هو الحديث الذي يجعل من السرد- وأضع خطا أحمر تحت كلمة السرد- في يد السينما يد الخلق الشاعري، السرد، عبر المونطاج، هو الذي يمكن المخرج من أدائه الشاعري، والشاعر والمخرج والفيلم والقصيدة توليد يدوي لحمل المخيلة.
وعندما يميل التصوير الشاعري المكتوب عند الشاعر، إلى حركة من الداخل إلى الخارج، من داخل الشاعر إلى خارجه، تسير الحركة التي تتحكم في الشاعري السينمائي المصور من الخارجي إلى الداخل: يجب أن يراها المشاهد ثم يستبطنها ثم ستحول إلى صورة شاعرية، بالقسوة حينا أو باللطف. أو بالإيقاع الطقوسي المتعمد الذي يفرضه التكرار.
5
كيف يحضر الشعر في السينما؟ أحيانا، يحضر كصوت بلاغي بشاعرية ما، كنص، كإحالة في أفلام كثيرة، على وايتمان، او بليك أو اندري بروتون، وهو عادة ميل انكلوساكسوني، كما في فيلم “العالم الجديد”، الذي يحيل بقوة على والت وايتمان،” نحن في قلب البشرية وهي تواجه طبيعتها، ان تكتب نشيدا لا شيء هو سوى الفرح، مليء بالموسيقى، مليء بالفحولة ومليء بالأنوثة وكله طفولة. آه يالضوء الشمس وحركات الموج وسكناته في أغنية.
ستحقق شاعرية الجملة الفيلمية، بحمولتها الواردة في الجملة الشعرية وتضيف إيقاعها…. آه من لم يحلم بأن يضع البنفسج كله في ابتسامة، ويضع الموج كله في أغنية؟
من لم يحلم أيضا، أن يرى« الملائكة تحلق في الدار البيضاء»، مثلا، و الحصان الذي يركض في الشوارع كما في الخيال؟
السينما لغة، الشعر حرف، كل فيلم مهما كان بسيطا أو حتى ساذجا، يحمل إحالة شعرية ما، ولو باستدراج المشاهد إلى خلوة يكون له فيها السطوة الشاملة، سطوة “تقنين خياله” ومخيلته لمدة زمنية ما، إن تقنين المخيلة هو عملية توظيف شاعرية بامتياز.
6
قد تكون الصورة الشعرية، المكتوبة، صورة ميتافيزيقية، مجردة، وهي بالضرورة لا تستطيع التصوير إلا بالكلمات، قد تنتهي بمجرد التمتع بها، التلمظ بها إلا إذا استعادتها الذاكرة، أما الصورة الشاعرية السينمائية فهي تجسيد، خاضع لإمبريالية الصورة، خروج من ميتافيزيقا المجرد إلى محسوسية النظر والصوت. يحضر، الشعر أيضا، حيث لا تنتظره الذائقة الكلاسيكية حيث يحول نثرية الواقع إلى مَشاهد.
هنا تميل السينما الواقعية إلى النثرية (قصيدة النثر المصورة) عبر التقاط مسترسل بإيقاع المصالحة مع اليومي، لا التعالي عليه، أو تجاوزه.
هي نثرية شاعرية، تحفز المشاهد إلى الاستسلام لجمالية اعتادها في حياة العامة، لكن على أساس فشل جمالي، في حين تعود إليه عبر السينما، بعد فك الارتباط بين واقعية وبين الصورة القادمة إليه من الشاشة بصيغة. جمالية مقنعة، هذه هي شاعرية النص النثري الساعية إلى حقيقة اليومي، يجب ألا ننسى أن الحقيقة أيضا شاعرية. وقد تكون أعلى درجات الشاعرية في السينما، عندما يكون الكذب العذب هو نسغ الشاعرية في القصيدة.
وكما قال والتر بنجمان، في التصوير التوثيقي شاعرية المباشر، وكل واحد من حقه أن يصور، أي أن يلعب دور نفسه ويضاعف وجوده عبر تصوير ذاته ..
ويصبح الحديث عن شعرية الفيلم احتمالا ممكنا، وزاوية للنظر.. وبِلا صخب دراميٍّ، لا في القصيدة ولا على الشاشة، يتقدم النثر كتجربة في المتخيل.
7
كل تفكير في الشعري والسينمائي هو تفاوض على حدود ما: حدود بين السينما والقصيدة، بين المرئي والماورائي، بين المتجرد والمرئي الطامع في التجريد… وفي النهاية تعود صور السينما وقد تعرضت للـ»تجمير« صورا شاعرية، وصور الشعر وقد تعرضت للتحميض صورا سينمائية.
لنأخذ الوثائقي مثلا، مرة أخرى: قد يكون في نظر شاعر النثر أكثر قدرة على توظيف الشاعرية الملفسة، التعبيرية الباردة، في فيلم “زيارة” لسيمون بيتون Simone Bitton ، صاحبة فيلم “بن بركة معادلة مغربية” ومحمد درويش الأرض تورث كاللغة، يقول حارس مقبرة يهودية بدهشة صوفية والتباس ميتافيزقي حقيقي “أحيانا يخبئ الموتى قبورهم فلا أعثر عليها عندما يطلب أبناؤهم أو أحفادهم أن أدلهم عليها. وبمجرد أن يغادروا أجد القبر بسهولة. واضح، يقول بلهجته البيضاوية، أن الموتى غاضبون ولا يرغبون في أن يجد الزوار من أهلهم قبورهم ! “.
ألا تغري هذه الفقرة بالسرقة الأدبية حقا؟
ليست في مخيلتي الآن قدرة على انتزاع بلاغة أكبر من هذه البلاغة، من قبور الموتى أو من الموتى أنفسهم كما فعل الفيلم الوثائقي، بصوت المتحدث.
8
يحضر الشعر، بكل أسمائه أحيانا، في السينما، من خلال حياة الشعراء “ساعي البريد” عن حياة بابلو نيرودا أو في الروح الشعرية لصناعة الرسالة السينمائية “حلقة الشعراء المفقودين”، كحلم شعري للسينما، يحضر من خلال كاتبه الشاعر أيضا. “أطفال الجنة”، الذي صاغ جحيمه الشاعر “جاك بريفير” بحثا عن واقعية شعرية قبل تلك الواقعية السحرية التي سترفع الكتابة الروائية إلى الطابق الأخير عند غارسيا ماركيز، شاعرية حطب وقودها امرأة بوهيمية وشاعر فوضوي في زمن الاحتلال…
هذه عينة من الأفلام التي صنعت المجد الشعري للسينما، والمجد السينمائي في الشعر، كشفت نوعا من التربية السينمائية، التي لاحظناها عند المتلقي في الشعر، طريق الحرية والثورة على المواضعات الاجتماعية التي تقلص أطراف الحياة، وكل عنوان فيلم كان تمرينا على المجاز والبلاغة الشعريين، كما هو حال فيلم “قصيدة” الكوري، والعجوز “ميجا” المهددة بالزهايمر لكنها تثبت قدرتها على أسماء الأشياء بعنادها في تعلم الشعر!
9
السينما والشعر، في الحياة، هما معا في الحياة. جوارهما يجعلهما حيين، ونحن مدينون لهما بالقوة الحيوية فينا. وأن تحيا معناه أن تكون عرضة للسينما والشعر. في الحب، في الموت في اليأس وفي اللامبالاة أيضا.
تكون السينما، شعرا مسموعا مرئيا غير مختف، لا لغة تعطله ولا كتاية ترخي بظلالها على لغته. السينما، شعر واسع الانتشار.
القصيدة، قاعة سينما تضيء لهما المخيلة، وترتبها وتوضب لها شاشة في اللغة.
في التقابل بين الشعري والسينمائي، تتقدم مخفورا بالشموس والوعول والأشجار المتحركة بعيدا عن أية وصاية جمالية عليها أن تحاصرك وتحد من قدرتك على اللعب بالحرية، خيالا أردت أم صورة مرئية.
يجب أن نكون سعداء، لأن السينما لغة، واصفة شعرية في الحد الأدنى، وتجربة شعرية متقدمة، ابتداء من الضوء وتدبير انعكاساته صورا حية إلى التحلق بعيدا في الخيال. ونكون سعداء لأن السينما كانت قفزة الشعر من التجريد الموروث عن المعلقات والإلياذات إلى محسوس العين والحواس، لهذا وجود الشعر في السينما فرض على القصيدة أن تبحث لها عن طابق أعلى، في المخيلة.
10
الورد لم يغادر ذاكرتي. الورد في فيلم« “الجدار ليلماز غوناي« من اللقطة فيها باقة ود ، ليلة عرس، بياض يهم بالفرح ،الباقة تسقط، جزمة الجندي، تدوسها. وتلتصق الصورة بي إلى الأبد. لا زالت تتكرر في ذهني، كثيرا ما استعرت منها جملا شعرية، ولم تنضب بعد، حالة سينما مستمرة. طقوسية شفيفة، شخت أنا ولم تتجعد هي في مخيلتي، تجدد للسينما أثرها.
أعترف، أن الصور تختلط علي، كما تختلط الألوان في ذهن رسام أبكم، لا أدري كم مرة انتقلت من الشاشة إلى الورقة لكني أعرف أنني أنتقل من قصائد شعراء كثيرين إلى أفلام مخرجين كثر.
“الشاطي” في أفلام جيلالي فرحاتي كحي طفولي، كتصوير بلاغي لعالم على عتبة قصيدة الصمت، الذي ينوب عن الشاشة والورقة معا، أو هذا طموحه، اليد اليسرى، الفيلم القصيدة وشعرية القسوة.
الحبر، وحبر الضوء.
الكتابة بالنص، والكتابة بالصوت والصورة.
مازال المدى جافا، بين الشعراء المغاربة والسينما. السينمائيون اخترقوا حاجز الصوت إلى الصورة الشعرية.
اختم براوول رويت أن« قدر السينما هو أن تكون شاعرية، ولا يمكن ألا تكون كذلك.. قد نغفل او نتجاهل هذا الطابع من طبيعتها ، لكن الشعر سيكون دائما هنا، في متناول اليد…”
ومازال الطفل يخاف أن يدخل السينما، حتى يجد نفسه في القصيدة.
كيروم :
“اذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة
لا عبارة في الابد ”
النفري
إن محاولة تعريف الصورة الفنية في أعمال عباس كيارستمي الشعرية والسينمائية، تفتح أمامنا آفاقا واسعة قد تعجز عنها اللغة. و تبقى الممارسة الفنية وحدها القادرة على تحديد هذا المعنى الفريد، الذي ينحو نحو المطلق واللانهائي، الذي يمر عبر الأحاسيس والأفكار، في بحثها عن الحقيقة الجمالية.
لا يمكن للصورة أن تصبح صورة فنية، إلا عندما يكون معناها غير قابل للاستنفاد. وتكون لغتها الإيحائية والإقتراحية معبرة عن اللامعبر عنه.ان الصورة الفنية تكون غامضة في جوهرها، وتتكون بشكل عضوي مثل الكريستال. إنها بشكل ما »”موناد”«، بالمعنى الذي يعطيه الفيلسوف لايبنيز للنواة المرآتية، التي تنعكس عليها الدواخل الإنسانية. وهي بذلك تبتعد عن الرمز والتشبيه والإستعارة والمجاز وكل الأشكال البلاغية، لأن هذه الأشكال مركبة وقابلة للتجزيء. إنها صورة لا تمحى، ولا يمكن تفسيرها، ونقف عاجزين، أمام امتلاء و كمال معناها.
ولمحاولة تقريبنا من الصورة الفنية في أعمال كيارستمي، يسعفنا شعر الهايكو اليباني، الذي ينتج صورة بصيغة تجعلها لا تعني إلا نفسها ، وفي نفس الوقت، تعني أشياء كثيرة، يصعب تحديدها بأي شكل خطابي. تدفع هذه الصورة قارئ الهايكو، إلى أن ينفتح على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به، ليتيه في أعماقها، مثل تيهه في الكوسموس، حيث لا تحت ولا فوق.
إن الصورة الفنية هي التعبير عن الكون في كليته. وتتحقق بالنظر الذي يتجاوز المرئي، للكشف عن اللامرئي، وتقول ما لا يقال. إنها تلعب بالفن ضد المعرفة. باعتبار ان الفن وحده القادر على الوصول الى الحقيقة.
التجلي الصوفي الإشراقي
لمحاولة القبض على الصورة الفنية، في أعمال كيارستمي، لابد من العودة إلى شجرة الحكمة الشرقية، حيث تلتقي رباعيات الخيام وسعدي وحافظ الشيرازي وفروع فرخايد والمتنبي والمعري وشعر الهايكو والمنمنمات الفارسية.
استفاد كيارستمي من كل هذا، في بناء فن الرؤية، من أجل البحث عن الحقيقة بحدوس جوانية مترعة بالشوق والتلذذ، والخيال الاختراقي النادر. إنه يبحث في أعمال عن أبديات النفس البشرية ومكنون جوهرها العمقي. لهذا فأعماله لا تصور الواقع الواقعي، كما يبدو للمشاهد العادي. لكنها تصور العلاقات التي بها يعيش الأشخاص والأشياء هذا الواقع. إنه يحاول أن يخرج بالمشاهد من ضيق الواقع إلى سعة الاطلاق، انه يحاول ان يخر ج بالمشاهد من ضيق الواقع الي سعة الاطلاق، ليسبح في برد اليقين الذي هو عينه ذاته. ليعانق الثابت في ما وراء الحركة والتغيير. لأن الصوفي الإشراقي لا يتعلق إلا “بالثابت الديمومي”. وفي هذا يقول النفدي “لا طمأنينة إلا مع الدوام”
العالم سكن للشعراء
يقترح علينا عباس كيارستمي في أعماله الشعرية والسينمائية، علاقة شعرية مع العالم ومع الطبيعة. إنه يدعونا من خلال صوت هولدرلين الى أن نسكن العالم كشعراء .لكن من هو الشاعر؟
الشاعر حسب ريلكه، هو الذي يستطيع أن يجعل الفجر يحيا داخل الكلمات (والصور)، من أجل ان يجعلنا نعيد ربط علاقة جديدة مع عالمنا الداخلي.
أما باشو، مؤسس شعر الهايكو، فيرى أن النور ينبجس من الأشياء، و الشاعر هو الذي يستطيع أن يقبض عليه في الكلمات (والصور) قبل ان ينطفى في الروح.
يقول باشو:
الغدير القديم
ينط الضفضع
صوت الماء
يقول كيارستمي
في بركة صغيرة
مع اوزتين
الشمس ساطعة
والقمر أيضا
تأتي روعة هذه الشذرات – اللقطات، من كونها لا تعني إلا نفسها، ولكنها في نفس الوقت تعني كل شيء. لأنها تقبض على اللحظة وتحتفظ بها. بل تجعلها فريدة في اللانهائي. لتعبر عن معنى الخلود إذا كان جوهر الشعر، سواء كان شكله الكلمة أو الصورة، هو اللحظة، باعتبارها واقعا معلقا بين عدمين، وحياة متوجهة للزائل والعابر. فإن كيارستمي استطاع كذلك، أن يخلق زمنية أخرى مناقضة ومكملة، في نفس الوقت، هي الديمومة، باعتبارها استمرارية لمجموعة من اللحظات التي لا ديمومة لها. يؤكد برجسون، إننا نملك تجربة باطنية ومباشرة للديمومة، بل إن الديمومة هي المعطى المباشر للاحساس والشعور. هي التي تمكننا أن نعيش، عبر الذاكرة، الحاضر بامتلاء. إنها الجوهر الوجودي.
صورة الاستطاعة القيومية
إذا كان الشعر هو الفن الذي اخترع من الكلام ما وراء الكلام، و دفع باللغة الى حدودها القصوى، فإن كيارستمي (وقبله تاركوفسكي) هو السينمائي الذي اخترع من الصورة ما وراء الصورة، ومن الواقع ما وراء الواقع. خلق من الواقع الظاهر، صورة المطلق اللانهائي: صورة الوجود.
تظهر الشخصيات في فيلم »”وتستمر الحياة«”، مسحوقة بالاحداث التي تواجهها، لا تقدم أي فكرة أو موقف، ولا تصل الى أية نتيجة، متروكة لقدرها وللظروف. إنها التراجيديا بمعناها الجليل، عجز الانسان أمام الطبيعة. ورغم ذلك رأينا كل الناس تصعد الهضبة.لا أحد ينزل. حتى السيارة ورغم عجزها التقني، حاولت بإرادة الانسان ان تأخذ الطريق من جديد.
إن الزلزال صورة لنبضة أزلية، لتجلي الحق المطلق في بعده الجليل، وفقا للمعتقد الشيعي. وهو بذلك ليس إلا حادثا طبيعيا مسلما به، مثلما هو شروق الشمس وغروبها.
مشهد الشاب في المخيم، وهو يثبت الصحن في أعلى الهضبة، استعدادا للمشاهدة الجماعية لنهائي مباراة كأس العالم في كرة القدم »يرد الشاب على سؤال المخرج: “« هل الوضع يسمح بذلك؟”
بطولة العالم مرت كل أربع سنوات، والزلزال كل أربعين سنة .إن الصورة الفنية التي يبنيها الفيلم، والتي جعلته أكثر من قصة وأحداث، وأكثر من موضوع وأفكار، تجعله يتجاوز مؤلفه ووسطه وزمنه، ليصل الى المشاهد في أي وسط وفي أي زمن، ليأخذه معه الى عوالم مفتوحة. هذه الصورة هي ما يمكن ان نسميها مع المتصوفة “صورة الاستطاعة القيومية”، التي بها يستبع الكائن طاقته من داخله الخاص، طاقته التي يتقوم به ويستمر، وبمقدارها ومبلغها يدوم.
يستمر عباس كيارستمي، من خلال المكابدة الشعرية، في عرض المشاهد، المأخوذة من السديم الزلزالي للفتايات، وهن منهمكات في غسل الصحون. المرأة العجوز وعلاقتها مع الديك الاحمر. حبات الطماطم التي يتقاسمها الناس فيما بينهم.العجوز، أحد أبطال فيلم “البحث عن بيت صديقي”، وهو يحمل كرسي المرحاض.
يعرض كيارستمي، من خلال هذه المشاهد، صور الجزئيات وليس جزئيات الصور، باعتبار ان الجزء هو بلور الكل. ومن خلال هذا البلور الكلي، يهتك كيارستمي الواقع وبهتكه لهذا الواقع، يزيل الحجاب الذي يغلف الوجود. لا يهتك “»الواقع – الحجاب«”، في عرف الصوفيين، إلا بالموقف، بالحدس الشعري الكامن في الحس الداخلي، الشفيف والمرهف واللماح والدافق داخل الوجدان. وهو القادر على الطاقة القوة القيومية، التي توصل الى رؤية الحقيقة الأبدية من خلال الحقيقة الجمالية.
بناء على هذا، يكون كيارستمي صورته الفنية من خلال التمفصل بين اللحظة والديمومة، اي من خلال ربط علاقة جدلية بين الثابت والمتحول، الذي يتبنين من خلال الحركة والتوقف، الطول والتكرار، السرعة والتمهل، النور والعتمة.
الصورة الشمولية
يرى والتر بنيامين ، ان الصورة الشمولية تتولد من خلال العلاقة الديالكتيكية، التي تبين الصورة الفنية تظهر مثل تكثيف انفعالات تقاوم التتابع الخطي للسرد الفيلمي، وتوحد بتوارد الخواطر غير المتوقع، الذي يمكن المشاهد من خلق محور في العمق، عمق الفيلم وعمق الذات المشاهدة، داخل العالم الفيلمي. يدمر الانسجام السردي المظهري، والانغلاق الذي يمكن ان يؤدي إليه انتاج 2003، مهدى” Five ” تتجلى هذه الصورة بامتياز في فيلم ozu إلى المخرج اليباني.
يتكون الفيلم من خمس متواليات. تتراوح مدة كل واحدة منها، مابين 12 أو 15دقيقة. يمكن ان نعنونها حسب موضوعها او لا موضوعها. الموج والخشب، البحر والناس، البحر والكلاب، البحر والإوز، الليل والماء.
تتكون المتوالية النهائية على سبيل المثال من:
الليل والماء وصوت الضفادع، البرق والرعد والمطر، الماء والقمر، عواء الذئاب، نباح الكلاب، صوت الديكة، صوت الجناذب، ضوء الفجر، صوت العصافير، نور الصباح.
يحاول المخرج في هذه المتواليات، المبنية على الطول (التمهل) والتكرار، وعلى المد والجزر، ان ينصب فخاخه الشكلية، للقبض على اللامرئي. تتجلى بعض ملامح اللامرئي في اثر الريح الذي ينحت الامواج، مثلما ينحت الزمن عمر الكائنات. كأن الأمواج خلقت كذريعة لرؤية الريح. و هي صورة تذكرنا بذلك الطائر الالباتروس، رفيق البحارة التي يهوي الكون، لتسير السفن نحو قدرها. (شارل بودلير)
الصورة الفيض
تتحقق هذه الصورة الفنية، من خلال جدلية العابر والدائم. وذلك عندما تخترق الصورة حدودها بفعل الانجذاب والافتتان، او الذهول السريع أو الممتد. حيث تتحقق الجدلية بين الحسي والذهني. ودفع الذهني الى تجاوز حدوده. والذهاب الى الماوراء، للخروج من الذات بسبب قوة الموقف. قبحه او جماله او جلاله. انها فيض الباتوس، الصورة التراجيديا وليست صورة التراجيديا.
تتجلى هذه الصورة في فيلم »”وتستر الحياة« ” من خلال المشاهد التالية:
المتتاليات التي تصور الزلزال، وتعرض الدمار الذي خلفه على البيوت، وعلى حياة الناس، من خلال وجهة نظر المخرج، الذي جاء يبحث عن أطفال فيلمه الاول.
مشهد الطفل الرضيع، المتروك في جوف الغابة. يجلبنا ايقاع صوته وهو يصرخ، يلتقي نظر المخرج بنظرة الطفل، لتبين عجز الانسان امام البراءة وفعل الشر (الزلزال) يسمع المخرج صراخ ابنه، الذي تركه داخل السيارة، فيهرول خائفا مذهورا، تاركا الطفل لمصيره المجهول.
مشهد خيبة حسين في فيلم “»عبر اشجار الزيتون«”، بعد خطابه حول حياة الازواج الاغنياء والفقراء.
مشهد الفتاة التي اخفت وجهها وراء ظهر أمها، عندما طلب منها المخرج ان تمثل في فيلمه.
تتجلى الصورة الفيض كذلك، من خلال مقاطع من ديوان “»ذئب متربص«”
آخر عداء في الماراتون يتلفت خلفه
يحيل فعل التلفت هنا، الى الترجي والاستغاثة، يعرف عداء الماراتون أنه الاخير. ومع ذلك يلتفت أمام هذا القدر القاهر، المكون من الزمن الذي لا ينتهي، والمسافة التي لا تنتهي، والآخرين الذين تجاوزوه والجماهير التي تتفرج على التفاتته.
يتوازى مشهد محكي الانتحار في فيلم “»طعم شجرة الكرز” مع شذرة شعرية من نفس الديوان من بوسعه
أن يخمن طعم حبة كرز
نصفها أصفر
ونصفها أحمر
صورة التجلي الإشراقي
يشخص لنا الطفل أحمد في »فيلم«” البحث عن بيت صديقي”، علاقة التجلي بين الشخصية والعالم المحيط بها. علاقة جدلية بين الليل والنهار، بين العتمة والنور، بين الذهاب والاياب، بين الصعود والهبوط، بين السرعة والبطء.
فتح عباس كيارستمي من خلال عناصر بنائية، افقا جديدا للنظر، يجعل العين سراجا، تتحول من المرئي الى اللامرئي، وذلك من خلال، قدوم الليل واشتعال بعض الأضواء في البيوت، ايقاع مشية الشيخ البطيئة، نباح الكلب في عمق الطريق، الذي يضبط ايقاع احمد المتسرع. هذه العناصر التكوينية، جعلتنا نرى مع أحمد، جمال وفسيفساء الزجاجيات الفارسية الملونة، التي كان ضوء النهار قد اخفاها عنا. هناك أشياء يقتلها الضوء الخارجي البراني، ولا يمكن ان تتجلى، الا من خلال النور الداخلي المحايث. أي ما يمكن ان نسميه “»بالاشراق النوراني العرفاني«”، المنبجس من الداخل. كما ان نور الايقونات الكنيسية، لا يظهر للسائح، ولكنه يتجلي للمؤمن، لانه يراها بنوره الداخلي، المنبعث من ايمانه بالثلاثية الربانية .
ان هذه النوافذ الصغيرة، المنمنة والهشة، التي يمحوها ضوء النهار، شبيهة بتلك الكائنات الصغيرة، الفراشات المضيئة التي يحجبها ضوء النهار. ولا تشرق الا في جنح الليل. ان لمعان هذه الكائنات الهشة، هو في الحقيقة، احتفال بموسم الحب والتوالد والخصوبة ، من أجل إنارة عتمة الليل و العدم.
من بين الاف الفراشات
واحدة أشعت
في قلب الليل
فكلما استمر التحاب، استمر النور والاشراق. غير ان عصر النيون و كهربة كل الامكنة. جعل صورة هذه الفراشات، تدخل في ما سماه ابي فاربو”الصورة المتبقاة ” بعد ان مات كل شيء.
تساعدنا هذه الصورة على كشف الصراع القائم، بين النجار الشيخ الذي صنع هذه المنمنات وظل يحرصها، وبين الحداد الذي يبشر بنوافذ وأبواب جديدة، مصنوعة منا لحديد، توفر حماية أكثر انه صراع الحضارات.
سطوع أول شعاع لقمر الخريف
على النوافذ
جعل بلورها يرتعد.
الطريق أو صورة الترحال
تستعمل أغلب الافلام، عادة، الطريق كوسيلة للوصول الى هدف معين، في افلام كيارستمي يكون الطريق هو الهدف وهو الاسلوب تهمه الرحلة وليس الوصول.
الطريق في أفلام كيارستمي، في الثلاثية بالخصوص، هو تأطير متسكع وترحالي للواقع. انه بحث في السر عن السر ، الذي به يحيا الفيلم وتحيا الشخصيات. السر الذي يتجاوز الواقع والعقل ويسمو عليه وبسبب هذا السر اللماح والكامن، في او وراء الحياة اليومية، تكبد كيارستمي خلق الطريق كموتيف فني وفلسفي. وانهمك في البحث عن اليقين المتعالي فوق كل يقين محايث ومرئي. في الفيلم الاول، يأخذ احمد الطريق، للبحث عن بيت صاحبه. في الفيلم الثاني يأخب اباض الطريق، للبحث عن من يساعده على الموت. في الفيلم الثالث، يأخذ المخرج الطريق، للبحث عن احمد وصديقه بعد الزلزال الطريق هي الماهية الطبوغرافية، التي نقبض عليها من خلال استنفاذها واختفائها. وقد اعتمد كيارستمي الطريق ليكتب ويصور الطبيعة شعرا.
نور القمر
ساطع على طريق وعر
لا أنوي عبوره
الطريق في الثلاثية نبع لا تنتهي سيولته. يدعو للعبور التاملي، لتجاوز العتبة نحو الماوراء” الطريق غياب وانسحاب، كما هو انجذاب وسيرورة وصيرورة”
الماء الذي يجري
مهدورا هناك
يروي الأعشاب
البرية الطالعة
يمثل الطريق بالنسبة لباضي، في فيلم “»طعم الكرز”، لولبا للمتاهة ،لولبا منوما، يؤدى الى الدوران في الفراغ
لا يوجد هناك شيء اوسع من الاشياء الفارغة، “بايكون”
زوبعة من الغبار
ترافق
ورقة حور
حتى السماء السابعة
لم يجد باضي، بطل فيلم “»عبر اشجار الزيتون«”، عبر الطريق من يساعده على وضع حد لحياته. وبعد دوران طويل، عثر على من يتواطؤ معه. غير ان قصة شجرة الكرز التي حكاما هذا الشخص للمهندس باضي جعلته يتراجع عن فعله. ان عودة باضي الى الحياة جاءت من خلال الصورة البلورية التي انبثقت من خلال الحكاية المشابهة والموازية التي استعملت شجرة الكرز.
من بوسعه
ان يخمن طعم حبة الكرز
نصفها أصفر
ونصفها أحمر
ان حجم ذوق حبة الكرز اصبح بحجم تذوق العودة الى الحياة، من خلال تداعي الصور البلورية، ذوق طعم حبة الكرز تقاسمه الاطفال الذاهبون الى المدرسة، ( والرجل الذي حاول الانتحار، وزوجته، التي اكتشفت جيوب زوجها ) مملوءة بفاكهة الحياة
ان تنظيم الطريق، من خلال زوايا الكاميرا، وتصوير هذا كدروب ومسالك ومنعرجات وسبل والواءات زيكزاكية. هي محاولة من المخرج، للتسرب الى الدواخل، لكشف وسبر اغوار نفسية الشخصيات والحلول بوجدانهم.
ان تموجات الطريق ومنعرجاتها وتكرارها شبيهة بتموجات مشاهد البحر في فيلم »”خمسة« “وفيلم” »بيض النوارس«” وكان الطريق تولد العالم، من خلال الحركة. للكشف عن أرض خيالية، مثلما تولد حركة الموج الطاقة، التي غيبت بيض النوارس، لتصدح موسيقى صوت النوارس الجماعي.
تفتح الطريق، في افلام كياروستمي الصور لندخل فيها. لان الشعر لا يحدث بالصورة ولكنه يحدث فيها. الطريق يؤدي بنا الى عمق الصورة وجوفها للقاء بالعالم، بما لا ينقال، باللامرئي، بالصمت، بالنواة المولدة للعالم، الموناد، لنحس بالمسافات التي تفصل فيما بيننا.
عدم الحاجة الى الطريق
في فيلم “عبر اشجار الزيتون”، وبعد انتهاء تصوير الفيلم وموت الاب ورفض الجدة الموافقة على زواج حفيدتها. يلاحق محسن طهيرة من اجل اقناعها بالزواج منه. يتسلق الهضبة ملتصقا بها وهي تسرع الخطى، على قمة الهضبة، قرب الشجر. يضع اناء الماء وهو يلهت من اليأس. تنزل طهيرة وحدها. يصور كيارستمي مشهد الهبوط بلقطة متوالية. لتظل طهيرة تبتعد وتتوارى، الى أن يصبح بياض سترتها، مجرد اثر لفراشة بيضاء، تتراقص بين. اخضرار الطبيعة. وفي هذه اللحظة، ينهمر محسن جريا نحوها، للمرة الأخيرة قبل ان تختفي .يحكي عباس كيارستمي قصة تأويل مشهد هذا اللقاء الأخير، من طرف المشاهدين عبر العالم. الرجال يقولون انها رفضت الزواج منه، في حين تؤكد النساء بأنها قبلت غير ان ما أكدته تعبيرية الصورة أمامنا. ان محسن لم يعد في حاجة الى ان يسكل الطريق التي عبرها. جريا، وهو متجه للالتحاق بطهيرة، حاملا في قلبه اخر ذرة امل. لكنه تحول الى خيال راقص وامتزج بالطبيعة الخضراء »”جاذبية ما لا يرى«””رقصة زوربا. رقصة ايفان الصغير وراء الفراشات وسط الغابة، في فيلم “»طفولة ايفان«” النسيم الذي حرك سنابل القمح وشعر الأم. وهي ترى رجلا يقصدها عبر الحقول، في فيلم المرآة
لقد استنفذ محسن الطريق كمادة، لم تؤد الى شيء، لكن الحب فتح طرقا اخرى في الداخل، في الوجدان بعد ان وصل الى اليأس .
في أحلك ليلة
في نهاية زقاق مسدود
على جدار طيني
تتفتح زهرة ياسمين
ان اسلوب كيارستمي الترحالي، جعله يقوم بترحيل الصور، من فيلم الى فيلم في ثلاثية كوكر. أحمد يبحث عن بيت صديقه، من اجل ايصال دفتر المعرفة. في حين عاد المخرج، للبحث عن نجاة أحمد واصدقاءه من الموت، بسبب الزلزال الذي حصد المنطقة.كما اصبح الطريق والهضبة والشجرة أيقونة الزيتون، حكى كيارستمي في احدى استجواباته الصحفية، ان الطفل احمد اصبح موظفا، وقرر ان يحتفل بزواجه بهذه الطريق، قرب هذه الشجرة، التي اصبحت علامة تعيينية، تحيل على أرض موعودة، خلقتها الصورة الفنية ورسختها في الوجدان الجمعي الانساني.
تستنتج من كل ما سبق ، ان الصورة الفنية في اعمال كيارستمي الشعرية والسينمائية، ليست فكرة يعبر بها المخرج، ولكنها عالم بكاملها، يتمرآى وينعكس في قطرة ماء بسيطة. وتتجلي قوة الصورة الفنية عند كيارستمي في التعبير عن الحياة بالحياة نفسها، اي التعبير بالواقع عن الواقع. الصورة عند كيارستمي لا تعين الحياة ولا ترمز إليها، لكنها تجسدها وتعبر عن وحدتها.لانها تتجاوز النمطي والعام، للوصول الى المتفرد والشخصي. انها ظاهرة متفردة لا يمكن محاكاتها.
كفيح :
للسينما علاقة مؤبدة بالأدب بكل تصنيفاته، وهي علاقة متينة ممتدة في الزمان والمكان، وضرورية لا يمكن بأي حال من الأحوال فك هذا الارتباط مهما حاول أحد أو بشر بالدعوة لاستقلالها عن الأدب، فهي مدينة له بالعديد من الروائع السينمائية الخالدة، حتى ولو ذهب بنا القول إلى إن السينما ظهرت في مراحلها الجنينية باستثمارها لعناصر بعيدة عن مؤسسة الأدب، إذ غالبا ما نقلت الكاميرات الأولى صورا ومشاهد طبيعية متحركة صامتة أو مصحوبة بموسيقى في أغلب الأحوال، وهكذا مع ذلك تظل بحاجة إلى الأدب بكل أجناسه من قصة ورواية وشعر.
كلنا نعلم ما أصبح للصورة من سلطة قوية التأثير أكثر بكثير طبعا من القراءة الورقية المتأنية التي تستغور مفاصل وتمفصلات الصور الشعرية المغرقة في الغموض أحيانا والرمزية واستكناه معانيها العميقة ثم استنباط مكامن الجمال فيها ! في حين أن الصورة السينمائية تصل مباشرة إلى الحواس، فتستحوذ على المشاهد، تبهره فيحصل الانفعال والانجذاب والتجاوب التلقائي ويتعمق الشعور بالرؤية الفنية والرؤى الإبداعية ككل، فيصبح عنصرا فاعلا مشاركا لا متلقيا سلبيا مستهلكا، إذ تطوح به اللقطة أو الصورة في كل منحى واتجاه خالقا لنفسه هو بدوره عوالم موازية لعالم الفيلم فيبدع هو أيضا عالما فنيا خاصا، وهذا ما يدخل كما في عالم الرواية أو السرديات في إطار نظرية التلقي عند ياوس ومدرسة كوسطانس الألمانية، التي جاءت بمفاهيم المتلقي الضمني، وذخيرة النص وفراغات النص، والتي تعتبر أن أي عمل إبداعي هو في المحصلة النهائية موجه وآيل للتلقي من طرف متلق مفترض فيه أنه مدجج بأواليات التمحيص والتفكيك والتأويل والرغبة في تدوير و”رسكلة” المعطى الآني لإنتاج إبداع جديد، كل وفق ثقافته وميوله، ونزوعه ومرجعياته ومستوى ثقافته، ويظهر ذلك جليا حينما ينغمس تعاطفا مع حدث أو شخصية، فيتدخل ذهنيا تارة مشجعا وتارة فرحا يتأمل ويفكر، يندمج يحلل، وبسلوك كهذا تجده يشارك في إعادة صياغة وتخصيب فيلم آخر جديد مواز للفيلم الأصلي، وهنا أيضا بل من هنا أيضا تكتسب الصورة الشعرية من خلال هذا التفاعل الإيجابي في التلقي قيمتها ودلالتها وشكلها ومعناها الصحيح.
للجاحظ مقوله يقول فيها: الشعر فن تصويري، فن تصويري يقوم جانب كبير من جماله على الصورة الشعرية وحسن التعبير (وظيفة الصورة الشعرية ودورها في العمل الأدبي. أ. علي الخرابشة). والصورة الشعرية كما هو متعارف عليه هي عملية تفاعيل متبادل بين الشاعر والمتلقي للأفكار والحواس من خلال قدرة الشاعر على التعبير عن هذا التفاعل بلغة شعرية تعتمد على التشبيه والمجاز والاستعارة والانزياح وتجويع اللفظ وإغناء المعنى، ولها قدرة هائلة على تكثيف الواقع.
فالصورة الشعرية متخيلة وتستمد معناها من خلال العلاقة بين الكلمات وبواسطة الكلمات كذلك، بينما في السينما فهي محسوسة يعني تستمد معناها من خلال العلاقة بين اللقطات والحركة البصرية، أي لغة الكاميرا. والنص الشعري أو القصيدة نص ذهني أو سلسلة من الصور التي تتخذ من الورقة المكتوبة رسولا للملتقي بخلاف الفيلم وتفنناته الصورية والصائتة المحسوسة والمتحركة والتي تكسب الصورة شحنة دلالية إضافية. وبالخروج من روتين الحكاية وبانتفاء الحدود الجمركية بين الأجناس، الأدبية، شعر، قصة، رواية، هايكو، بدأت تتحقق بينها سمات مشتركة وتعالقات خاصة على مستوى ماء الحكي الذي يسري في جسد كل الأجناس المومأ إليها أعلاه، وبفعل تقنية الهدم والتدمير والإنشاء الذي أضحى يطغى على العديد من الكتابات التجريبية بخاصة، صرنا نشعر بتواشج وتشابه في بنائها الجديد، بعيدا عن النشر المعهود، قريبة من الكولاج الشعري والسينمائي، فأضحت تبتعد في بعض مناحيها، كما قلنا، عن النثر والخط السردي والحبكة والتسلسل ككل، كما في القصة الجديدة مثلا، إذ أصبحت اللغة هدفا في حد ذاتها لا قناة موصلة، وفي السينما أصبحت الصورة واللقطة في الفيلم السينمائي هي ذريعة لقراءة المتواري وما تضمره أكثر مما تبديه، وتستفز المخيلة والوجدان لأننا ندرك جيدا أن اللعب على الوتر العاطفي للمتلقي بالكلمة العذبة والمشهد الانفعالي مؤثر إيجابا، هكذا لجأت السينما كما الشعر للصور الموحية لتحقيق العناصر الفنية الشعرية التي تتجلى في التكثيف والتشبيه والإيجاز والإشارة، (وهذا موضوع آخر يتعلق باستلهام شعر “الهايكو” ككولاج سينمائي لأنها ترصد بصرامة ودقة غاية في الإيجاز مشاهد حياتية كفيلة بخلق شعر وإنتاج شاعرية باذخة).
لكن هناك فرق بين الشاعر الذي يبدع قصيدته بصورها الشعرية في خلوته بعيدا عن الآخر وأضوائه وضجيجه بخلاف المخرج السينمائي الذي يعتمد في حقل إنتاجه الفني على ترسانة معتبرة من المهندسين وفيلق آخر من التقنيين وفرق من المهتمين في الجماليات والتجميل. وهذا لا يمنع أيضا في اعتبار أن الشاعر له حضور واستحضار مكثف لما لايعد ولا يحصى من الكتب والكتاب والشخصيات والقصائد والملاحم والعديد من تجارب الشعراء، حتى وهو يخلق ويبدع في محرابه وبالرغم من كونها فنا شعريا مستقلا غير ان القصيدة تتماهى مع السينما في اعتمادها على فن الصورة والموسيقى والإيقاع الموسيقي الذي يعتبر صفة مشتركة بين الفنون جميعها، لكنه يبدو واضحا في الموسيقى والشعر والرقص، هذا إضافة إلى الفنون المرئية ومنها الإيقاع البصري في السينما طبعا، ولعمري فإن أجمل اللقطات السينمائية هي تلك المستمدة من قصيدة أو شذرة ألهمت وجدان مخرج.
هناك قصائد مكتوبة بصرية أي بالصورة، فيها لقطات موازية للكلمات في القصيدة، تخاطب الذات المتلقية وتخترق الحواس، نعالجها بالعين اللاقطة والذائقة الراقية، فتحول كل هذه المشاهد المرئية إلى عوالم متخيل، بأبعاد لا متناهية، فرقصة زوربا مثلا في الفيلم العالمي “زوربا الإغريقي” تعتبر لوحة، بل مشهدا، بل قصيدة قائمة الذات، ضاجة ومفعمة بالانفعالات والأحاسيس المدهشة، حيث في نظري الشخصي تعبر عن حالة وجدانية، وصل لها البطل ألكسيك زوربا وسيده بعد أن استنفد حقه وحظوظه من النجاح والأمل في النجاح، فترك الحبل على الغارب، ورقص رقصته الأخيرة الشهيرة وموسيقاها الأشهر التي خلدها التاريخ السينمائي كإحدى اللقطات المشهدية الأكثر شهرة في العالم، مثلها في نظري دائما، كما خلدت المعلقات والملاحم الشعرية المكتوبة شعرا، وهذا نموذج من النماذج الحية والمعيارية التي تصبح فيها الصورة وحدة تعبيرية مرئية مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات، وفي تعالق كهذا بين الشعر والسينما، عمل الشعراء على تنويع طرائق بناء نصوصهم الشعرية مستفيدين في ذلك مما أتاحته مستجدات العصر من تكنولوجيا وفنون في تجديد الأبنية الشعرية كنظام اللقطة وزاوية النظر والمونتاج والكولاج، كما مثلا، في كتابات سعدي يوسف وما استدعاه في قصائده من تكنيك بصري ايجابي (الكولاج) في قصيدته “صلاة الوثني” كمثال، فمن خلال لقطات صامتة أقول صور صامتة (اللقطة هنا كما يعرفها النقاد السينمائيون هي أساس الفيلم أما الصورة فهي عنصر من عناصر اللقطة) صامتة أقول يمكن أن تستثير في المتلقي مالا يمكن أن تقوله الكلمات والتعابير المكتوبة، وفي هذا الصدد يقول “باستركيتون” “الصمت من شيم الآلهة والثرثرة للقرود”، لنتخيل مثلا لقطات مصورة لأسرى حرب أو يتامى حروب نازحين أو مهجرين جراء مجاعات، أو شجرة عزلاء عارية وسط غابة كثيفة وقس على ذلك من مشاهد نلفيها ضاجة بالقول وموغلة في العمق والمعنى والدلالات، لهذا، فمن الممكن جدا أن يتحول النص الشعري، إلى صور بصرية كما يمكن للصورة البصرية المتحركة أن تتحول إلى نص شعري، والأمثلة متعددة وعديدة جدا حيث في شعرنا العربي القديم والحديث وصف وصور فيها حركية بائنة لا يجد المخرج غضاضة في تحويلها إلى صور متحركة، وأنا أستحضر هنا امرأ القيس وابن الرومي هذا علاوة على الملاحم الشعرية الأولى المبنية كلها على الحبكة والتسلسل الحكائي، وأسوق هنا قولة للمرحوم البشير قمري، الذي يقول “»إن ما نسميه الشعر، ما نسميه شعريا ليس مقصورا على الكتابة الشعرية وحدها بمعناها المؤسسي الجاف والثابت الذي لا يقهر، فالشعر يقيم بيننا ويقتحم حياتنا وفضاءاتنا في اللغة والخطاب والتلفظ في الدعاء الذهني وفي تلاوة النص القرآني والأمداح النبوية، في الأغنية والإشهار والإعلان في بكاء الميت ورثاء المفقودين”، وأضيف لما قاله المرحوم سطرين وأقول وحتى في الترانيم الجنائزية وأهازيج الحصادين وأغاني الرعاة والنادبات المعددات ودندنات السابلة الجوالين في الخلاءات وأصوات استعطافات المتسولات في الأزقة والحارات ..ياااه.
هكذا، إذن نلفي أن الشعر يتمظهر في كل مناحي الحياة اليومية، لأن نمط الحياة شعري أصلا كما يقال، وكل شيء في الكون يحمل في ذاته إيقاعا وشاعرية مفتوحة على الواقع المتخيل والواقع المأمول وجوده وتحققه، وبما أن الشعر والسينما كلاهما تعبير من هذا الواقع يعني يشتركان في فن التعبير لا يحتاج الأمر لإنتاج فيلم جيد سوى رغبة جمالية عارمة.
في ذات المخرج طاقة انفعالية حتى يفجرها إبداعا، إضافة إلى قراءة استغوارية واستيعابية للصور الشعرية واستلهامها لما تخيلها الشاعر، هذا إضافة الى تمكنه بعد ذلك من استغلال كل التقنيات السينمائية المتاحة له على أحسن وجه، فأكيد ستحصل المعادلة الفنية بين الصورتين الشعرية والسينمائية خاصة مع مخرج عالي الذائقة الفنية ويمتلك جنسا جماليا مع فلسفة ورؤية للعالم وللحياة ويحمل مشروعا ويصطف في حساسية جمالية معينة فأكيد سينجح في أن يرسم بكاميراته ملامح الصور وتعددها وما يرغب في أن يحملها إياه من معان ودلالات (واردة طبعا في صور شعرية في قصيدة ما).
على أنه في نظري الخاص الذي يلزمني أن السينما وحدها دون سواها في الأجناس الأدبية القادرة والتي بوسعها الجمالي والفني التأثير وإحداث الرجة والتساؤل والقلق المفضي إلى الحيرة والارتباك تم التساؤل لدى المتلقي وهذا هو الجوهر الشعري في السينما لأنها توقظ الحواس( البصر السمع والتخيل مباشرة بينما ميزة الشعر هو جعل المتلقي يشكل في مخياله ما استطاعت قدراته الثقافية والفنية من عدد هائل من الصور والتصور، فانزاح كذلك المخرجون السينمائيون عن المألوف وصار بالإمكان الحديث عن الزواج بين الشعر والسينما والتوليف بينهما كلّ وأدواته الفنية لإنتاج أفلام ضاجة باللقطات الشعرية على شكل صور فنية اندمجت فيها عناصر الصورة الشعرية في انزياح وتشبيه واستعارة بفنية عالية الصبيب الإبداعي، هذا علاوة على تمكن المخرجين المرموقين من استغلال مواهبهم الشعرية والأدبية عموما التي برعوا فيها على الورق قبل استغلالها على الشاشة كما هو الحال عند المخرج العالمي والكاتب الفذ بازوليني، الذي مارس الكتابة الشعرية والأدبية إضافة إلى اهتمامه وبراعته في كتابة الأفلام وإخراجها خاصة إذا كانت هذه الكتابات الشعرية والأدبية مكتظة مثلا بالصور الطبيعية الفاتنة فتستطيع كل المؤثرات الفنية والتقنية في السينما أن تجعل منها فيلما باذخ الجمال بصوره.
وأسوق هنا قصيدة فيكتور هوجو “غدا عند مطلع الفجر” التي فيها من الصور والأبعاد والتكثيف الشعري ما يجعلها قصيدة خصبة ثرية للمخرجين هذا علاوة على اعتبارها أغنية استأثرت بجنون وحب المطربين السينمائيين.
كولاج الشاعر بالغ الدلالة، إنه لا يعبر فقط عن المعنى الجمالي بل يشير الى دلالة جديدة لا تفصل بين فن الكولاج والنص من جهة وبين ما يفهم على أنه كوبي كولي الناقد.
-صلاح فائق : ليس الكولاج أعلى مرتبة من الشعر وإنما دليل على أن كلا من الشعر والكولاج له طريق خاص يصل إلى المعنى المنشود بحيث يلتقيان ويتجاوران في نهاية المطاف.
الكولاج الذي يتم اختياره من قبل الشاعر ينطلق من مفهوم جمالي محض ليصل إلى بناء المعنى أو فكرة مجاورة للنص الشعري.