في فيلمها “سمرلاند” تذهب بنا المخرجة جيسيكا سويل مباشرة إلى منطقة كينت الساحلية الإنجليزية والواقعة في جنوب شرق لندن، التي تبعد عنها مسافة 48 ميلا تقريبا، هناك في تلك المدينة الساحلية وفي منزل مطل على البحر حيث تعيش كاتبة في خريف العمر، نجد أنفسنا في فترة منتصف السبعينات، أمام كاتبة القصص والروايات أليس (الممثلة بنيلوبي ويلتون) وهي تمارس يومياتها باستخدام الآلة الكاتبة لرقن قصصها، ولا يزعجها في المكان سوى مشاكسة صبيان صغار لها.
ومن ذلك المشهد الافتتاحي الذي قدم لنا امرأة مرهفة الإحساس، لا تريد أن تسمع صوتا يخرجها من عالمها أو يشوش عليها، سوف ننتقل بسلاسة إلى ذات الكاتبة وهي في ربيع العمر (تؤدي الدور الممثلة جيما آرتيرتون) وهي تعيش في ذلك المنزل المعزول إبّان صعود النازية، حين تحولت لندن إلى خراب جراء القصف النازي.
تلك المرأة الكاتبة المرهفة التي تعيش وحيدة في منزل بعيد يتهمها السكان بأنها إما ساحرة أو عميلة وجاسوسة للنازيين، ولهذا يطلق الجيران أولادهم لإزعاجها ورمي النفايات من نافذتها ووصمها بممارسة السحر والجوسسة، بينما تذهب هي إلى إدارة المدرسة شاكية من أفعال التلاميذ، وفيما تسير في أزقة المدينة كانت بمعطفها الملون، تدخن منصرفة عن الناس.
مسارات سردية
إن الحياة بمساراتها المتعددة تحت السلم أو تحت الحرب بدت وهي تمضي إلى نهاياتها، وما مدينة كينت إلا ملاذ جغرافي صار مكانا وملجأ للنازحين الهاربين من لندن، التي ترزح تحت القصف والدمار اليومي، لن يعني ذلك الكثير بالنسبة إلى أليس، فهي معنية بالقصص وعوالمها وشخصياتها، حتى أنها أتت موقفا غريبا حين طرقت بابها سيدة من إدارة البلدية ومعها طفل في حوالي العاشرة أو الثانية عشرة من العمر وهو ابن طيار حربي يقاتل النازيين وأمّه تعمل في مكان آخر، وقد تم إجلاؤه من لندن حفاظا على حياته إلى جانب مئات الأطفال في مثل حالته.
لم تتقبل أليس وجود ذلك الصبي في بيتها، فهي لا تستطيع استيعاب حقيقة وجود طفل في حياتها يشوش عليها هدوءها، ولهذا ترفض قطعيا قبوله،
لكنها بوصفها متطوعة مدنية في كينت وقد تلقت إشعارا مسبقا لكن بما أنها لم تجب على الإشعار بالرفض، فإن ذلك معناه الموافقة على قبول الطفل، وهكذا لم تجد أليس حلا أمامها سوى استقباله، بشرط أن تعيده إلى الإدارة بعد مدة قصيرة.
هذا التحوّل في يوميات أليس لم تكن تريده أن يتسع ويؤثر على مسار حياتها، إنما واقعيا تتكامل هنا الحياة القلقة التي لا تعلم عن الحرب إلا أخبارا باهتة، وعن مجتمع بسيط مشغول بإيواء النازحين من الأطفال، لكن تبقى أليس منقطعة إلى عالمها.
يمكننا هنا رسم ثلاثة مسارات سردية في هذه الدراما، المسار الأول وهو المرتبط بأليس وهي تعيش عالمها بشكل مختلف عن الآخرين بوصفها شخصية درامية استثنائية، تم تكريس خواص الكاتبة المرهفة الحس فيها، وهي التي اعتادت الوحدة ولا تشوش عليها سوى الذكريات وأحلام اليقظة، ترتبط بصديقتها فيرا (الممثلة غوغو مباثا راو) التي فارقتها وتركت في داخلها غصة عميقة وإحساسا متفاقما بالوحدة.
المسار السردي الثاني يتمثل في الحياة المجاورة، ومن أهمها المدرسة التي كان بعض من تلاميذها يشوّشون على أليس، وهناك نشاهد أطفال الحرب النازحين، وحيث تجري معالجة جروحهم النفسية تبدو شخصيات المعلمين أليفة ومتسامحة ووديعة، فيما يبدو ذلك النسيج الاجتماعي المحيط بالمدرسة متناقضا ومع ذلك يتحد ضمنيا في مواجهة تحدي الحرب، وهنا يمكننا التوقف عند شخصية مدير المدرسة الذي سيلعب دورا في التقريب بين الشخصيات.
أما المسار الثالث فهو في حقيقته مرتبط بمسار الحرب من خلال شخصية الطفل فرانك (الممثل لوكاس بوند)، فهو الذي يجلب غمامة الحرب إلى المكان مستذكرا أدوار أبيه في التحليق بالطائرة الحربية، فيما هو يتأمل السماء ويصنع الطائرات الهوائية البسيطة وصولا إلى الاندماج مع عالم أليس.
تنزع أليس نحو مكان افتراضي آخر، مكان موصوف قرب كينت يحتوي على موسوعات وكتب قديمة، وتتولى نقله مكانيا مما هو خيالي إلى ما هو واقعي، وتستخدم المساقط الهندسية لقياس المسافات فلا تبقى بعدها الجغرافيا افتراضا بل أجسام مكانية واقعية، وتطلق على ذلك المكان الافتراضي – الحلمي اسم “سمرلاند”، ويصبح أيضا محركا لخيال ذلك الصبي الوديع فرانك الذي يتلألأ وجود ذلك المكان أمام ناظريه ممتزجا بالخيال، وهو ما لم تصدقه أليس حتى تراه بنفسها وعندها تقترب من فرانك أكثر فأكثر.
مواقف قد تبدو هامشية بسيطة هي بمثابة حبكات ثانوية سوف تنقل علاقة أليس بفرانك إلى مستوى آخر، ومنها مثلا ملاحقة الأطفال لها واشتباكهم معه وإصابته بجرح تضمده أليس، ثم وهو الحدث المهم والتحول الكبير موت الأب الذي تعجز أليس عن البوح به.
عند هذه المنعطفات سوف تتخلى الكاتبة المرهفة عن عالمها وتنزل إلى منطقة الإنسان المعذّب المستوحش الذي يختصره فرانك، فها هي بكل عبوسها وتجهمها تبدو أمام فرانك مثل طفل حائر والحزن يتدفق بعمق من عينيها في محاولتها إخباره بمقتل والده الطيار.
وقبل ذلك ينجح فرانك في نقل إحساسه بفكرة الطيران إلى أليس من خلال مصاحبة والده وتجربة الطائرة الحربية والذكريات التي يحملها وهو يتطلع دوما إلى السماء على أمل أن تعبر طائرة والده الحربية، كما يخرج أليس من واقعيتها ويجعلها تحلق معه نحو الفضاء الفسيح في إطار تأملي تفصح عنه الحوارات المدروسة بعناية بينهما.
انسيابية المكان
لا بد هنا من التوقف عند مجمل البناء المكاني وجمالياته وكل ما يرتبط به ممّا يعمّق جماليات هذا الفيلم وخاصة الإحساس بوقع الأشياء أيضا، حيث تم توظيف مفردات مكانية بسيطة ولكنها بالغة التأثير والدلالة والتركيز عليها بلمسات بسيطة لكنها عميقة، يمكن أن نتوقف عند أمثلة كثيرة من مفردات مكانية وديكور وإكسسوارات.
أما بصدد التنوع المكاني ففي البدء هنالك المكان الكلي المتمثل في مدينة كينت، وهنا ثمة انسيابية مدهشة للتابع المكاني في نسيج متقن بشكل ملفت للنظر خاصة وأنها لا تستطيع أن تفصل كل مفردة مكانية عن الأخرى على بساطتها وإنسانيتها.
وإذا شئنا أن نؤثث ذلك المعمار المكاني فهنالك منزل أليس المطل على البحر، ثم الأرض الخضراء الممتدة وصولا إلى شوارع المدينة وانتهاء بالمدرسة، هذا المعمار المكاني كان بمثابة فضاء وجودي وإنساني بالنسبة إلى أليس، وكأنها رسّامة بارعة وهي مصّورة فوتوغرافية، ولهذا فإن هنالك لوحات مفعمة بالحيوية تلوح بلا أدنى تدخل من أحد سوى إحساس المخرجة الخلاق بالأشياء وهي تنعكس على الذات والذاكرة الإنسانية.
أليس الكاتبة والمصورة التي تعيش ذكرى صديقتها فيرا التي تلاحقها ذكرياتها ولو مع إيحاء بالمثلية، لكن رعب الحرب من جهة أخرى يجعلها شديدة القلق على صديقتها، ثم تكتمل معاناتها وهي تلاحق فرانك الذي يركب القطار عائدا إلى لندن بحثا عن والده الذي قتل.
هنا لا بد من العناية الكبيرة بالانتقال المكاني في ما بين ظل الحرب وبين المكان الحربي؛ كينت هي المكان الكلي وأما لندن فهي المكان الحربي الفعلي، لنشاهد كيف أحرقتها ودمرتها الحرب، وفيما يجمع بين أليس وفرانك المشهد الحربي والنيران والانفجارات، مع مشاعر عدم التسامح لتكتمها على خبر وفاة والده الطيار في الحرب.
هذه المتجاورات المكانية خلقت نسيجا مكمّلا وأرضية واسعة امتد عليها شعور الكاتبة وقد أخذت استراحة من الكتابة لتغوص في عذابات مجتمع الحرب، وتشارك ذلك الفتى شقاءه بفقد والده، حتى أنها تنغمس معه في صناعة طائرات من الخشب والورق، يحاكيان بها طائرة الأب، وحيث تحلق تلك الطائرة من فوق موقع “سمرلاند” الحلمي الذي صنعته خيالات الكاتبة المرهفة.
أما إذا انتقلنا إلى المكان المحيط بالكاتبة فليس اقصر طريقا من العود إلى الطبيعة والارتماء في أحضانها، فحتى لو طغت الحرب فثمّة حياة في مكان آخر، ذلك ما كانت تحكيه اللقطات العامة الزاخرة بألوان الطبيعة التي كانت تجمع بين أليس وفرانك.
الحوار والدراما
بلا كثير من التكلف في الحوار فقد استخدمت المخرجة هذا الجانب المكمّل للكشف عن أفكار الشخصيات والمسار الدرامي للفيلم بطريقة أكثر واقعية، الحوارات المكثفة والموجزة كانت هي الغالبة، كما أن لغة أليس الخاصة وحساسيتها المفرطة انعكست على حواراتها بشكل واضح، وهي النزقة المتمردة، لكنها المرأة المفعمة بالمشاعر الإنسانية.
يمكن هنا التوقف عند الطريقة التي اقتربت فيها أليس من عالم فرانك الطفولي، بذلك الحوار المتقطع المقتصد والحذر الكامل من الاصطدام بمشاعر قد تتعرض للأذى، هكذا انفتح عالم أليس ليتكامل مع عالم فرانك الذي صار خليطا من الأمومة والعطف والتعاطف وصولا إلى الانتصار للإنسان، وقد طحنته الحرب وامتدت إليه أذرعها بمقتل والده إلى درجة أنها تعرض نفسها للموت لكي تنقذ فرانك من الغرق.
أما إذا توقفنا عند حوارات فرانك مع الأطفال وخاصة مع صديقته إيدي فهي غالبا ما كانت تجري متزامنة مع اكتشاف الطبيعة وكائناتها، حوار عفوي تماما وإنساني إذ كلاهما يحملان أوزار الفقدان، هي أيضا تعيش في كنف امرأة عجوز لأنها من نازحي الحرب، لكن نزعة التملك الفطرية سوف تفجر فيها دوافع أخرى تجعلها تفضح تكتم أليس على خبر وفاة والد فرانك، وهو تحول خطير في الدراما وحبكة ثانوية بالغة الأهمية صعّدت الأحداث وكشفت عن وجه آخر من إنسانية ورهافة أليس في لحاقها بفرانك وبحثها عنه وسط خراب مدينة لندن، وهي تحت القصف النازي.
لجهة استخدام عناصر التصوير فلا بد أن نتوقف عند براعة مدير التصوير لاوري روس الذي صبّ خبرته الطويلة في تصوير الأفلام والمسلسلات، حيث قدّم حتى الآن أكثر من 45 عملا ما بين تلفزيوني وسينمائي، وقدم في هذا الفيلم نسيجا بصريا متقنا ومليئا بالدلالات، ومن الواضح أنه كان يواجه مسألة التصوير خلال أيام غائمة في طقس بريطانيا الخريفي، فيما هو أحوج ما يكون إلى الشمس لتكمل مهمته في نقل تلك الصور المشرقة للطبيعة، لكنه استخدم اللقطات العامة والمتوسطة مع توظيف متقن للعدسات وأماكن التصوير والزوايا ما ساعد في تقديم غزارة تعبيرية حفل بها الفيلم حتى أنك لا تستطيع ان تميز مشهدا واحدا يفتقر لنبض خاص بالألوان والحركة من المشاهد التي تعج بها لقطات الفيلم.
وأما إذا انتقلنا إلى الإدارة الفنية فجهودها تتكامل في هذا الفيلم مع جهود مصممة الإنتاج كرستينا مور والمدير الفني جونو مولز والديكور والإكسسوار فيليبا هارت، هذه الإدارة الفنية تكاملت رؤيتها مع رؤية المخرجة التي استطاعت ان تقدم من خلال هذا الفريق خطابا بصريا متناغما، واقعيا، بسيطا وفي الوقت نفسه عميق الشاعرية
عن «العرب»