هل يمكن للخيال أن يتحوّل إلى واقع؟ وهل يمكن أن يتحوّل الروائي إلى إحدى شخصياته؟ بحسب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، فكل ما يحدث في الواقع واقع، بما في ذلك الخيال ذاته. وبحسب هذه الرؤية فألعاب السينما الذهنية مثل ألعاب الأدب، لا تخرج عن كونها تمثيلات للواقع المعيش. ومن هذه الرؤية يسعى الفيلم الإسباني «صمت المستنقع» (El silencio del pantano)، للمخرج مارك فيخيل، إلى هدم هذا الحاجز بين الخيال والواقع عبر تحقيق الأول على أرض الثاني، ليبدو ابنًا شرعيًا له، حتى لو بدا في بعض الأحيان «دون كيشوت» يحارب طواحين الهواء.
الفيلم المأخوذ من رواية للكاتب خوانخو براوليو، وهي رواية شهيرة أحدثت صدى في عام 2015، تتناول حياة روائي بست سيلر (يؤديه بدرو ألونسو) يكتب أدب الجريمة، ويؤدي بطله دور القاتل المتسلسل بناءً على معتقد أيديولوجي. بروح دون كيخوتيه دي لا مانتشا، يحارب الفساد، يطهّر العالم من قبحه، لكنه إذ يفعل ذلك يريق الدم على جانبيه. لكن الدم المراق، بحسب الروائي، وبحسب البطل الذي يتلبسه الروائي في روايته وفي الفيلم ذاته، لا يرى لهذ الدم قيمة. فالقتل ليس محرمًا على الإطلاق، وثمة من يستحقونه عن جدارة.
ينطلق الفيلم من عالم المؤلف الشهير، بحفلات توقيعه المزدحمة، وقارئاته الواقفات في الطابور، وسؤال قارئة سيتضح أنه ذو مغزى: ما ماضي بطلك؟ وإذا كانت رواية الجريمة لا تعتني بتسليط الضوء على الماضي، فالفيلم الذي يستغرق ساعتين لا يسدل الستار بدون أن يرسم صورة عن ماضي المؤلف وخلفية فقيرة أتي منها، ليكون صراع الطبقات أحد المحاور التي لا يمكن تجاهلها لقراءة السيناريو. نحن أمام «ميتافيلم» مأخوذ من رواية «ميتافيكشن»، كتابة داخل كتابة، والداخل يوصّل إلى الإطار بقدر ما يوصّل الإطار، عبر قنواته المتنوعة، إلى الداخل. ربما من هنا يأتي ارتباك المشاهد أمام ما يحدث حقيقةً وما يحدث داخل عقل المؤلف. ارتباك سيزداد في المشهد الأخير، المفتوح على دلالات متعددة.
نحن في عام 1989، في مدينة بالينسيا الساحلية. إسبانيا بدأت في مرحلتها الديمقراطية، والمدينة يجب أن تكون جميلة المعمار والشوارع والبحر. لكن الفيلم لا يقدّم هذه الصورة المثالية، وإنما يرسم الشوارع الخلفية والعالم التحتي والمهمّش. شوارع لا يبدو أنها تنتمي لإسبانيا الأوروبية بقدر ما تتسق مع حواري مدينة كولومبية، حيث تسيطر تجارة المخدرات، حيث العنف حدث يوم ومتكرر، وحيث القتل يحدث بطرقعة إصبعين. ثمة قناة مفتوحة ما بين هذا العالم الضيق والفقير وعالم السياسة والسلطة، قناة سيدفع ثمن الجهل بها أفارقة دخلوا بالخطأ في لعبة بعيدة عن طموحهم كباعة جائلين، ليتعلّموا درس أن المهاجر لا يحق له حتى التجارة في المخدرات لإنقاذ حياته من جوع يؤدي إلى موت. لا بحر في بالينسيا الفيلم، لا جمال معماري ولا شوارع رحبة، إنما «عالم تحت واقعي» يشبه قليلًا عوالم روبيرتو بولانيو الروائية، بقدر ما يشبه الأفلام الأرجنتينية تحت الدكتاتورية.
الروائي الشهير، الناقم من داخله والهادئ في الخارج، يكبد غضبه من سائق تاكسي يسير به في طريق غير طريقه، والمشهد التالي يصوّر قتل الروائي للسائق. الروائي يتتبع أستاذ الاقتصاد بجامعة بالينسيا، شديد الصلة بالسلطة، ويجمع عنه معلومات، قبل أن يختطفه ويحتجزه في مكان قميء، ويدوّن في دفتره مونولوج المختطف الذاتي وتهديداته ورجاءاته، قبل أن يقتله بدم بارد ويحوّله لأشلاء. الروائي يتلقى خبر قتل أخيه، الذي كان يطالبه ببيع البيت القديم، بيت تنفيذ الجرائم أيضًا، فيعرف أن القتلة من تجار المخدرات التابعين للأستاذ الجامعي وبالتالي للسلطة. مشاهد فارقة ودلالية يمكن قراءتها على أنها الفيلم، بقدر ما يمكن قراءتها باعتبارها الرواية التي يكتبها البطل/الروائي Q. جدل سيستمر حتى مشهد النهاية: أحد أفراد العصابة يقتل الروائي فيسقط في المستنقع المطل عليه بيته، يليه مشهد الروائي وهو يسير بعد أن أدى مهمته.
ما بين الروائي جالسًا يكتب، والروائي يودّع الفيلم، ثمة تأويل يمكن أن يكون حقيقيًا: أمنيات المؤلف التي يعجز عن تحقيقها في الواقع يحققها في الخيال. سائق التاكسي المستفز، وأستاذ الاقتصاد الفاسد، محلهما القتل على الورق. الصراع الطبقي الذي يحسمه في الواقع بالثراء من الكتابة، يتجلى في عمله الأدبي كدافع للاغتيال. البيت الذي يسكنه في الواقع لا يحتل جزءًا من خياله، لكن البيت القديم يفعل ويتمدد ويدفع الأحداث. والماضي الذي تسأل عنه القارئة، والمتواري في العمل ليبدو القتل أكثر شاعرية، يتجلى على استحياء في الفيلم كقمة جبل فحسب. الأبطال الذين يتحركون أمامنا في الفيلم ليسوا إلا أبناء خيال الروائي، عالمه الذي يعرفه ويكرهه. ثمة روائي مستسلم للواقع في مواجهة بطل دونكيشوتي متمرد. والمسافة بينهما نفس المسافة بين الواقع والحلم، بين الفكرة وتطبيقها.
لكن هذا التأويل، مع ذلك، ليس التأويل الوحيد المنفتح عليه الفيلم. فثمة روائي يكتب أدب الجريمة لينفّذها على أرض الواقع، وثمة عالم واقعي يتمثل في علاقة السلطة بالمخدرات، وثمة مدينة ديستوبية خربة تكوّنت أثناء الخراب ولم تترمم بعد. ربما تكون من المرات النادرة التي يتحوّل فيها البطل في الرواية إلى الروائي نفسه، بعكس السائد الذي يقول إن البطل صورة ولو مشوهة من الروائي. فالسيد Q يستعير الشجاعة من بطله وينفّذ رغبته ويستسلم، بخروجه عن وقاره، لإصلاح العالم بيده.
فيلم «صمت المستنقع» هو فيلم البطل الأوحد، مثل الرواية المأخوذ منها، لكنه الأوحد المسكون بشخصيات يمكنها أن تملأ فراغ وحدته. إنه نموذج مثالي للروائي المحتشد بشخصيات كثيرة، وبلا أحد في الوقت ذاته.
على هامش الحبكة الرئيسية والخطوط التي يسير فيها السيناريو، تتولّد أسئلة أخرى حول الكتابة. إذ بعيدًا عن الباراديغمات الجمالية التي تشغل الروائيين، وعن المتعة التي تشغل بعضهم لمد جسر تواصل مع القارئ، يستعرض الفيلم معنى آخر للكتابة: الكتابة كوجه آخر للمؤلف، كـ آنا عليا، وكقدرة وحيدة يمتلكها أمام جبروت الواقع. ولا حتى الكتابة كوسيلة علاجية، تلك التي تتحدث عنها إيزابيل الليندي، تبدو مجدية مع هذا الطرح. فالروائي لا يبحث عن علاج كسايكوباتي، لأنه يرى سايكوباتيته علاجًا من جبنه. من هنا تأتي دلالة المشهد قبل الأخير: يولي ظهره للعالم ويقف عند المستنقع ناظرًا للأفق، يعرف أن أحد التجار من ورائه يسدد نحوه بندقية، فلا يلتفت ولا يرتعش. لقد أتم مهمته على أكمل وجه والآن ينتظر الفاتورة بكل رضا.
هذا فيلم البطل الأوحد، مثل الرواية المأخوذ منها، لكنه الأوحد المسكون بشخصيات يمكنها أن تملأ فراغ وحدته. إنه نموذج مثالي للروائي المحتشد بشخصيات كثيرة، وبلا أحد في الوقت ذاته. هو نموذج مثالي أيضًا لروائي يؤمن بتغيير العالم، بدون أن يعرف أن العبث ما يحركه، وبدون إدراك كامل لسياق سوسيوسياسي يتعمّد الخراب. لكن الأحلام، أحلام الروائي والبطل، هي في النهاية ما تصنع الأمل.
أخيرًا، فدلالات المستنقع، وظهوره المسيطر على الفيلم، في مقابل غياب البحر التام عن مدينة ساحلية، لقطة لا يمكن تغافلها في فيلم يتوسل المجاز لرسم صورة حية عن إسبانيا أواخر الثمانينات.