قدماء طلبة المسرح يجددون الوصل بالمعهد البلدي بالدار البيضاء

كدأبه كلما حل بأرض الوطن، أفلح الفنان المسرحي المغترب بالديار الأمريكية، «عبد الرحيم أنور»، في جمع شمل قدماء طلبة المسرح العربي، أي فوج سنوات الثمانينيات، بالقاعتين(8) و(9)، بالمعهد البلدي بالدار البيضاء.
التأم الشمل إذن بعد طول غياب. البعض لم ير البعض منذ زمن، رغم عيشهم جميعا في هذه المدينة الغول «كازابلانكا». هؤلاء الطلبة قضى جلهم بمعهد شارع باريس، زهاء سبع سنوات، ومنهم من قضى به أكثر من ذلك، في الدراسة النظرية والتطبيقية لأبي الفنون، إلا أن سبل العيش باعدت، إن لم نقل فرقت بينهم. منهم من اختار بعد التخرج، مواصلة مساره الفني، في حين أخذت فئة ثانية على عاتقها، المساهمة في تكوين الشباب العاشق والمهووس بفن الخشبة، وأصبح المنتمون إليها أستاذة للتعليم الفني بمعاهد متفرقة بربوع البيضاء. ولم يمنعهم ارتباطهم هذا من الحضور والتواجد، فوق خشبة المسرح، أو أمام كاميرات التلفزيون والسينما. المجموعة الثالثة عانقت الوظيفة، وعانقتها هي الأخرى، عناقا شديدا وحارا، هنا أو بديار الغربة الواسعة، ولم تترك لها مجالا البتة، لممارسة الفن الذي تهوى وتعشق، فقط كانت تمنحها من حين لآخر، قسطا من الوقت لمواكبة ومتابعة ما يجري بالساحة الفنية، ذلك أن عشق الفن والجمال الذي لُقحت به، بالقاعة «8» أو»9»، ذات مرحلة، ظل يانعا ولم يتسرب إليه ضجر أو ملل، بل على عكس ذلك، غدا هذا الحب خير متنفس، عند الانعتاق من سجن الوظيفة، التي وإن أفلحت في منع المنتمين لها من المزاوجة بينها وبين الممارسة الفنية، فإنها لم تفلح في ثنيهم على تتبع ومواكبة ما يقع ويجري في درب الفن.
ليس عشق التمثيل والخيال والجمال وحده الذي يوحد بين هذه الفئات الثلاث من قدماء طلبة المسرح بالمعهد البلدي، بل أيضا تقديرهم واحترامهم وحبهم الوافر لبعضهم البعض، رغم نذرة اللقاءات فيما بينهم في الأعوام الأخيرة، لكنهم كلما التقوا واجتمعوا، يجددون الوصال بينهم بسرعة مدهشة، كأن الزمن ما فرّق يوما بينهم.
ولج رفاق «عبد الرحيم أنور» الجامع شمل أصدقاء الأمس، بناية المعهد الذي احتضن تنافسهم وتفانيهم في طلب المعرفة زمن الجد، وكذلك الشقاوة والشغب الجميل، وقت الهزل والتفكه، ثم تسارعت دقات قلوبهم، وهم يتوجهون صوب القاعة «8»، وما أن ولجوها حتى تحسسوا التغييرات التي طرأت عليها، مسترجعين بحنين عميق، البعض من ذكرياتهم بها. بعدها، توجهوا إلى القاعة «7»، المخصصة أصلا لدروس في الرقص الكلاسيكي والعصري، حيث كان في استقبالهم قيدوم أساتذة آلة العود، الفنان «محمد حَريز»، رفقة مجموعة من طلبته. في هذه القاعة خرج الكلام من عقاله، لينساب كماء عذب ومنعش. بكل عفوية ودون تخطيط مسبق، أثيرت دردشة استرجاعية حول تاريخ هذا المعهد العريق، الذي ظل يسهم في خلق حركة إبداعية دائمة التجدد، بفضل المواهب التي تتخرج منه نهاية كل موسم دراسي في مختلف التخصصات الفنية، المسرح بلغة الضاد وبلغة موليير، والرقص والعزف الموسيقي والغناء. دون أن ننسى ان مجموعة من الأسماء الوازنة في الساحة الفنية المغربية، بما فيها تلك التي رحلت إلى دار البقاء، جلها مرت من هذا الصرح الفني التاريخي، المتميز بالعاصمة الاقتصادية.
قبيل إسدال الستار على هذا اللقاء النوستالجي الشيق والممتع، الذي سيحفر -بكل تأكيد- عميقا في ذاكرة هؤلاء الأصدقاء الأوفياء، لأنفسهم وللفن الذي يعشقون ويوحد بينهم، ارتأى الأستاذ «محمد حريز»، أن يقدم هدية لضيوفه اعتمادا على صوته وعلى أنامله، وهي تعزف على آلة العود وذلك عبر محطتين، في الأولى غنى وأشرك الجميع معه في أداء رائعة «قطار الحياة»، لعبد الهادي بلخياط، التي كتب كلماتها علي الحداني ولحنها عبد الرحيم السقاط. في المحطة الثانية، رافقه في العزف على العود بمهارة المحترفين، اثنان من طلبته، وهما «مريم أيت مسعود» و»أحمد بديع». وجاء الغناء الأصيل بصوت هادئ وشجي وعميق في الوقت ذاته، للطالبة «رباب اعريوة»، التي رحلت بالحاضرين، وهي تؤدي بحس فني مرهف رائعة أم كلثوم «أنساك»، التي كتب كلماتها مامون الشناوي ولحنها «بليغ حمدي». هذا الثلاثي الفني الشاب، المكون من عازفين على آلة العود ومطربة واعدة، ستكون لهم الكلمة في الساحة الفنية، إسوة بمن سبقوهم بعد تخرجهم من معهد شارع باريس.
صحيح أن الصديق المغترب «عبد الرحيم أنور»، هو من فكر في جمع شمل هؤلاء الأصدقاء الاستثنائيين، لكن تحقق هذا الأمر تم بفضل صديق آخر من نفس الفوج، هو الزميل «عبد النبي الموساوي»، المنتمي منذ زمن لجسم الصحافة. هو من أجرى الاتصالات الأولية، وهو أيضا من وثق كل لحظات هذا الحدث بالصور والفيديو. وقدر نشر ذلك بصفحته الخاصة على اليوتوب تحت عنوان مثير «قدماء طلبة المسرح بالمعهد البلدي يركبون قطار الحياة».
الحب الذي آلف بين أفئدة وقلوب هؤلاء الأصدقاء منذ مستهل الثمانينيات، إذ كانوا وقتها كما هم اليوم يقطنون بأحياء متفرقة بربوع الدار البيضاء، سيظل دوما طقسهم الأبدي. وهم لا يكنونه لبعضهم البعض فقط، بل يدفقونه فياضا كذلك مرفوقا باحترام وتقدير كبيرين على مجموعة من أساتذة المعهد البلدي، في مقدمتهم المدير السابق والحالي الأستاذ «عبد اللطيف بنو أحد»، والمسرحي الكبير الراحل «محمد سعيد عفيفي»، والأستاذ المقتدر «بوشعيب الطالعي»، والأستاذ المحترم «محمد الحسني العلمي»، وهم من أقدم أستاذة التعليم الفني بالمغرب، والموسيقيان المتميزان «صلاح الشرقاوي المرسلي» و»محمد حَريز»، ونعتذر لبقية الأساتذة الحاضرين دوما في البال، لعدم سرد أسمائهم، لأن المجال لا يسمح.
ختاما، وفي إطار ثقافة الاعتراف، وحتى لا نبخس الناس حقها، كما يقال في مأثورنا، لا بد من الإشادة بـ «باكبور» الكوميديا المغربية، الفنان الوازن والمتعدد «حسن الفد»، الذي أقام بإحدى المناسبات حفل عشاء على شرف مجموعة من هؤلاء الأصدقاء، مر هو أيضا في أجواء استرجاعية ونوستالجية دافئة وجميلة أضفت عليها سحرا خاصا بحضورها البهي، «الفنانة المقتدرة لالة منانة الشاشة المغربية، السعدية أزگون». هذه الأخيرة بمعية حسن الفد، والفنانة المحترمة «عائشة ماهماه»، ينتسبون لهذا الفوج التاريخي، الذي تخرج بعض طلبته أواخر الثمانينيات، وآخرون مستهل التسعينيات.


الكاتب : عبد الحق السلموتي

  

بتاريخ : 17/05/2023