تحمل هذه المجموعة الشعرية المتميزة ” في الشارع المقابل لجرحنا القديم” للشاعرة تورية الغريب، عدة دلالات ومعاني إنسانية بالغة، فمن خلالها اكتشفنا نبل الشاعرة تورية وعمق كتاباتها وإبداعاتها الواعدة، وهي طاقة شابة تنتمي إلى البيضاء تلك المدينة الرائعة ، وأحد البلدان العريقة في مغربنا الحبيب، إذ نحاول استنطاق مقاطعها الشعرية القصيرة ذات النفس النثري الانسيابي، في هذا الكتاب من الحجم المتوسط الذي يضم 102 صفحة، كما تم التصدير لها بمقدمة للناقد المغربي الكبير نجيب العوفي، ويحمل العناوين التالية: طقس شعري ـ رقصة الحصاد ـ قبلة فارة من ساحة البارودـ حكايتي مع الليل ـ زوابع العناد والغياب ـ نحو الغياب ـ ما قبل النهاية ـ حرف مخمور ـ عزف منفرد ـ حلم مكسور ـ ما أغباك أيها الحظ ـ حكاية ـ حزن جميل ـ نحن البسطاء ـ عيناك والوطن ـ في النوم نحن الأصدق ـ لا تصدق أنك ـ زهرة لا تذبل ـ سحقا أيها الشعرـ مرآة القصيدة.
وهو من منشورات الراصد الوطني للنشر والقراءة بطنجة، الطبعة الأولى سنة 2023، وصورة غلافه عبارة عن واجهة لمبنى يراه المشاهد من زاويته، وفيها أيضا السواد والألوان القاتمة التي تكتسحها والتي تعبر عن ندرتها وقِدمها.
ولنرى دلالات هذه الأسطر الشعرية حيث تقول الشاعرة:
[ أشتَاقنِي فيك شِعرا
أشتاقك لغة
جذورها القصيد
تزهر أبيات حب يمنو حنينا
بثمالة الذكرى
بين أصقاع الجليد]
تنبني هذه الأسطر الشعرية على موضوعة الذكرى وقيم تجمع الذات بالقصيدة، الاشتياق إلى الشعر ولغته وجذوره وتشكيلاته ببناء مجازي وانزياحي يحاكي النمو الذي يسري في جسد القصيدة، وكلها نواة صغرى لموضوعة كبرى وهي الانغماس في قلق الكتابة وتشكيل وبناء معمارية القصيدة.
قصيدة طقس شعري:
[أكتب الشعر ….
لأحفظ قلبي أحمر وغدي أبلجَ
وليصير الماضي ركاما
منصهرا في حميم الأزل، أكتب الشعر
لأنني لا أتقن لغة الأرقام في تقلبات البورصة
لا أطيق صوت الرصاص
حينما يشتد وطيس الحروب المستعرة
……….. ……….
فترتفع سدرة اللغة تزين أجرام السماء
وترمم الشقوق على جبين الفرح الهارب
أكتب الشعر
لأحتفظ بالنسخة الأولى لمدينة تبعثرت ملامحها
فوجدتُني غريبةً بين أزقتها المتشعبة
أكتب الشعر..
لأورثكم زمرة دمي الثائرة
لتكتبوا على شاهدة قبري
هنا ترقد امرأة عاشت بقلب أحمر
فارتوت من نبع القصيد
ونجت من حياة جائرة]
وهذا ما تؤكده أسطر القصيدة الموالية التي عنونتها صاحبتها بطقس شعري، مرحلة العزلة لإنتاج القصيدة وتنميتها وتعهدها بالصقل والرعاية حتى تنضج وتصبح قوالبها جاهزة، تلك هي لغة المجازات وعوالم القصيدة التي تأخذ الشاعرة إليها فتعطيها دلالات ومعاني عدة لقيم الحب والحياة ومتعة الكتابة، ضدا في الحروب المستعرة ولغة الرصاص التي لا تحبها و سفرا للذات بلغة تنصهر بماضيها في عالم الأزل، وترمم شقوق الفرح وتزين السماء ، فتبتعد عن الحياة الجائرة ويكتب على شاهدها : “هنا عاشت امرأة ترتوي بحب القصيدة وبقلب أحمر” كما تعبر القصيدة، ففي الحياة منحى أول ومنحى ثان: الأول ايجابي مرغوب فيه وهي كل معاني الحياة والكتابة والحب والثاني سلبي وتمثله معاني الرصاص والحروب والفناء …. وهو غير مرغوب فيه.
[ قُرصُ القمر…
وجهُ الحبيبةِ عند الشعراء
رغيف جوعى العالم
موائد مستديرة لأشلاء وطن منكوب ]
سيصبح في عالمنا الذي نأمل أن يكون قرص القمر ووجه الحبيبة مثالي في قلوب الشعراء لكنه يتحول إلى نبض لعالم الإنسانية الذي يئن تحت وطأة الفقر واليأس ويصبح الوطن كله أشلاء ورغيف جوعى على مائدته المستديرة.
[ كيف يتسكع الليل وحيدا؟
وتحت ستاره
تكتظ حكايات العابرين]
تواصل الشاعرة خلق استعاراتها التي تستنبط من حالة الإنسان وضعفه وقد يعيدنا هذا إلى مشاعر الذات وقلقها، فكأنما الليل هنا إنسان يشعر بالوحدة تحت ستاره، أو عابر ضمن العابرين، إنها عملية تقوم بِشَخْصَنة قوى الطبيعة فتشعرها بالوحدة والضياع تحت أكناف الليل الداجي، أما النهار فهو صبح مختلف يكتنفه الأنين والصمت ، فهو إذن ضرير يتلمس طريق المعبد ، ثم تعقد مقارنة بين الحياة والموت، فتبوح متسائلة:
[ على الرصيف …
أنين يسحله الصمت
والصبح ضرير يتلمس طريق المعبد
ما هو شكل الموت و أنت تعبث بالحياة؟]
ترى الذات إذن نفسها بين تعارضات نفسية قوية فهي تنهزم وتنتصر وتتألق وترتعش وترتجف، وهي دلالات حياة الإنسان التي تشبه الغيوم العابرة والياسمين التي ترتجف في فصل الشتاء فتقول:
[ يهزمُني فأنتصر
ذاك الألق في عينيك الشّقيَّتين
قبيل الشتاء برجفتين
يسمونه ارتعاشة الياسمين
وأسميه غيمة عابرة…]
تعرض الشاعرة هنا حدود الإبداع في نثرية القصيدة بحثا عن ذاتها وجوديا، فهو تحدي تواجهه بين عواطف وتقلبات الفصول، مشاعر تحاول أن تبرزها بلغة مصقولة وشفافة وجزلة تحمل البنيات المجازية في طياتها والعميقة، إنه الوجدان الذي تبوح به في لحظة هدوء وتصالح مع النفس والذات والآخر والبحث عن الأمان عن طريق اللجوء إلى معاني السمو والحب والالتجاء إلى دواخل اللغة من أجل الاحتماء من الضياع والوحدة والموت والهزيمة.
[لا تبحث عن الشغف
في شيء ..
خذ حصتك من العبث
وابتسم
أنت رقم في سجل الأحياء]
[أيها الليل الطاعن في السواد
اجهش بصمتك
علّني أتذكر بدعة النوم
فوق سرير الأرق]
أما من حيث اللغة فالمقطع السابق تحضر فيه العديد من الأساليب الإنشائية من خلال أسلوب النهي: إذ تنصح الكاتبة بعد تجاربها المضنية في الحياة ألا نبحث عن الشغف بل نبتسم ونأخذ حصتنا الكاملة من العبث من أجل أن تستمر الحياة فنحن لسنا إلى رقما بين الأحياء بالإضافة إلى أسلوب الأمر: خذ ، ابتسم، أسلوب النداء: أيها الليل، النهي: لا تبحث.
[خذ ضجيج صمتي
وتعال لنسقط معا
في قصيدة على هيئة فرح… ]
فتحضر من خلال هذه المقاطع تيمة الليل كموضوعة، تخاطب فيها الذات سواد الليل وذلك الأرق الذي تعاني منه فتناديه أن يغمرها بصمته لأنها تعرف فيه راحة الصمت الأبدي.