«شيء منك
يسقط في دمي
لا أسميه» (1)
كأني بالهايكو هنا نسغ الشعر، بذرته المعطاء، وجينة اللغة المنقوعة بدم الشعراء في دهشتها البكر، حتى قبل أن تكون للأشياء أسماء..
أضمومة هايكو ممهورة باسم مصطفى قلوشي .. وهو كما تعرفته دائما من خلال نصوصه، ليس إلا شاعرا من تلك الكينونة الخالصة التي لاتستكين عادة لأشكال الكتابة المطلقة أو الثابتة..
شاعر لم يأت للشعر من فراغ، ولا للهايكو من عدم، بل من خصيب الإبداع كما نهله من ينابيعه الصافية واستقاه من مرجعياته العاهلة، مفعما بطراوة الروح وقلق التحول مما أذكى في أصابعه
الملتهبة بجمر الكتابة هذا التوتب المتواصل والإصرار الملحاح عل نقش اسمه عميقا في لحاء دوحة
القصيد، بما يليق بوسم تجربة جديرة بالإنصات والمتابعة..
شاعر لم يتوقف منذ نصوص البدايات قبل عقدين، عن مماحكة أشكاله وتنويع مادته بصبيـب شعري
متجدد عبر ثلاث مجاميع متواترة: غارات الجنون، زنابق سوداء، سماء جاحدة.. وكلها عناوين
متراصة في رسم مسار إبداعي بخطى وئيدة واثقة، عبورا من قصيدة النثر إلى القصيدة المقطعية مع
تغليب شكل الومضة، ومنها إلى قصيدة الهايكو بباقته الموسومة اليوم بعــنوان دال على طبيعتها
الاختزالية وكثافتها الإيحائية: «لــيس إلا…».
بهذا يكون مصطفى قـوشي شاعرا برصيد يؤهله للانتماء لدائرة الاستثناءات القليلة وسط ضجيج
الانفلات الهايكوي، انسياقا وراء هذه الفوضى العارمة من هجانة الهاجن وحمى الاستسهال وضحالة
الرؤى وشح القرائح، إلا ما جاء منها عفو الخاطر بلا ادعاء على سبيل الهواية المستحبة او الميل
الشغوف.. ليــس إلا..
وإذا كان تاريخ الهايكو الياباني مقترنا في مرحلته التدشينية بالطبيعة في دقائق تمظهراتها
ومستلزماتها المعجمية من مشمولات البراري من أطيار وأدغال وجبال وحقول وفصول.. فإنه في
نفس الوقت لم يلبث أن عرف في مراحله اللاحقة الكثير من تجاذبات المغايرة، خاصة إبان وغداة
الحرب الثانية.. ونلمس بين ثنايا نصوص هذه الأضمومة ملامح وأصداء هذه التجاذبات، في مراوحة
واعية بين منحى الأصل الياباني في حديه التقليدي والتجديدي، ومنحى التأصيل العربي في نزوعه
التبييئي وفق خصوصيات تربة الشعرية العربية..
في هذا الديوان، تنبثق من صفحاته بين البياض والسواد تموجات حبر متلبسة أحيانا بعمق البساطة،
وزاخرة أحيانا بإشراق الحكمة، على كل رقعة من غشاوة وسط هالة من بياضاتها المضيئة، أوذبذبات
في سديم من أثير سكينتها الملهــمة..
وفي هذا الديوان أيضا، حتى العنوان نفسه كمؤشر نصي بدوره « ليس إلا…» عبارة مستوحاة من
القول العربي المأثور المغرق في الإيجاز حد الاختزال، وبنوع من التصادي المقصود مع ماهية الهايكو
وجوهره وشكله.. عبارة مسكوكة يتصدرها ناسخ غاب منسوخه ويليه استثناء غاب مستثناه،
وعمدتها اسم مبتدأ وخبر منتهى طالهما الحذف للعلم بهما ليس إلا.. وهو مايرمي للتأكيد على أن
الهايكو اختزال لايجوز إلا بالتلميح وتلمــيح لا يجوز إلا بالمجاز..
إنه تلميح لاستنفار الدهشة ومجاز لإثارة المتعة، بمقتضى القاعدة الثابتة في كل شعريات العالم،
بما فيها شعريتنا العربية..
تلميح.. تماما كاختزال العالم في لوحة..
البحرفي موجة..
الحديقة في وردة..
الصحراء في رملة..
الضياء في ومضة..
الحياة في قبلة..
القصيدة في هايكو..
وقبل الهايكو كان الشعر أولا وأخيرا.. لــيس إلا…
(1) الصفحة 11 من ديوان « ليس إلا…» لقلوشي مصطفى منشورات إديسيون بلوس ط\ 2018