قراءة في لوحة : جمالية التعبير عن العنف في لوحة الفنانة التشكيلية المغربية «شمس صهباني»

كل شيء في هذه اللوحة يدل على جرأة صاحبتها الفنانة التشكيلية والباحثة المغربية شمس صهباني ، ويعكس سمة شخصيتها الغامضة التي تطبع جل أعمالها بشاعرية و بلمسات تجريدية تعبيرية و متأنية ، فيها الكثير من الحميمية ، وبصمة خاصة ، تأخذ قوتها و متانتها من ارتباط وثيق بين الظاهر والخفي ، مما يجعلها بفعل التركيز على اللون وعملية التكثيف تخلو من أي فراغ أبيض قد يخلق الفجوة عند المتلقي الذي ينساق تلقائيا مع مبدعة غالبا ما تتفاعل مع الواقع في عنفوان تناقضاته الصاخبة بالاحداث والحالات ، دون الشعور بأي إحراج وهي تستعرض بلغة تشكيلية حالة سلوكية شاذة ، خاصة من خلال هذه اللوحة المختلفة عن أخواتها من حيث الأسلوب و التوليفة والتصور ، فقد جاءت بشكل مغاير ، يمزج بين التجسيد والتجريد ، وبطريقة غير مركبة ، تبدو اكثر وضوحا ، موسومة بشيء من البساطة ، نظرا لحساسية موضوعها المتعلق بسلوك مشين ومحرٍج ، مسكوت عنه ، رغم أنه ينخر الهوية والمجتمع ، يطغى عليها أزرق غامق ، مثقل بشحنة الدراما المكثفة ، يجسد القبح والبشاعة ، و يعكسهما ، و يعبر عن أعمق الحالات النفسية و أعقدها التي قد تطفو على السطح في لحظة لاوعي.هذا الازرق طالما ميز أعمال الرسام الراحل بابلو بيكاسو ، سيما تلك التي ظهرت بشكل مسترسل في مرحلته المأسوية الزرقاء ، فقد جاء قويا ليرخي سدوله على وجه تغيب عنه الابتسامة ، ويمتص دوي صرخة لم يفه بها فم لا يظهر للعيان ، قد أُخفيَ عمدا للإحالة إلى السكوت المطبق ، فالصرخة تلك قد خرجت من العمق ، غيرت الملامح الطفولية الناعمة ، و أخذت الكثير من براءتها ، و سحبت البريق من عينين يبدوان جراء ذلك و كانهما في لحظة اختناق ، تجسدان الخوف والهلع والصدمة ، و تلك العناصر اللامرئية التي ينبني عليها الشكل المنظور ، مما يطبع القماشة بصبغة قاتمة ، تحضر فيها الفنانة بالقوة والفعل كشاهدة على تلطيخ البراءة من خلال بصمات تمثل أيدي ، إحداها حمراء تشير إلى خطورة هذه الظاهرة ، بينما الزرقاء تدل على الاستفحال ، ولكنها عموما تأخذ صفتها ، و منظرها من شكل يمثل علامة مألوفة ، تحرض على التصدي لهذه الظاهرة بكل الوسائل المتاحة ، مما جعل هذه اللوحة تظهر للعيان كملصق توعوي وتحسيسي ، يخلو من ذلك التحايل الذي قد يخلق الارتباك عند متابع يقاسمها هواجسها من خلال رسوماتها وإبداعاتها الأدبية ، خاصة وأن الرسم و الكتابة عندها ، وجهان لعملة واحدة ، غالبا ما تٌضمٍّنٌها ردة فعلها ورأيتها لعالم قاتم وغامض ، يكتسحه صوت الذكورة بقوة ، الأمر الذي يشغل بالها ، ويجعلها تعبر عن ذلك بواسطة ريشة رقيقة ، لا تبحث عن الإثارة ، بقدر ما ترسم قضية ، أو تمنح فرصة لمن يبحث عن فضاء مريح يلجأ إليه للتنفيس والإفراغ ، حتى و إن كان لوحة ، و لذلك لم تجدا بدا للإشارة إلى ظاهرة تسمع عنها وتطفو بين الفينة والأخرى على سطح المجتمع ، و البوح بها في إطار فني تشكيلي ، و بطريقة التكثيف والتخفيف ، اعتمادا على صناعة شكل ، أساسه لون يضفي على هذه التجربة حبكا بصريا يقتحم تلك الأبواب الموصدة ، و يتوغل بين ثنايا العتمة ، و يجتاح عالما مفعما بالحميمية والأسرار ، لا يٌخفى عن مبدعة مثقفة ، ابنة الدار البيضاء ، منفتحة على العالم الخارجي ، تستقي من كل حذب وصوب أساليب فنية معتبرة ، وتنتقي منها ما يناسب أفكارها ومحيطها ، ولذلك تشعر في بعض من أعمالها بتأثير الرسام الأمريكي جاكسون بولوك (Jackson Pollock) ، سيما تلك التي تأتي بطريقة تعبيرية تجريدية ، تعتمد على ضربات الفرشاة الكبيرة ، والانطباعات العفوية التي تركز على المعالجة الكاملة للونٍ غالبا ما يعكس المزاج ، على خلاف هذه القماشة الطافحة باللون الأزرق الداكن الموحش الذي يتدرج من كل الاتجاهات ليصنع بطريقة فيها شيء من الوحشية ظلا كبيرا يطمس الخلفية ، ويلغي وجودها للإشارة إلى أن الفراغ لاوجود له على الأرض ، وقد تم صياغته اعتمادا على دوامات ، ودوائر مستوحاة ربما من لوحة النجوم للرسام الهولندي فان جوخ ، تشير إلى عدم التوازن ، وتعكس إحساسا بالاظطراب ، و تشكل حلقة تمثل الاستمرارية ، وترتبط ارتباطا وثيقا بوجه دائري يسرد ألمه و مأساته من خلال قسمات متشنجة و شاحبة ، لن تسترجع نضارتها طالما بقي هذا السلوك المشين يمتد في الزمن و المكان. وهذا الامتداد قد ترسخ بلاشك في لاشعور مبدعة راقية ، وجعلها تتخلى على غير عادتها عن الألوان الفاتحة والمتوهجة ، حيث اشتغلت على اللون الداكن مع لمحات من ألوان أخرى تتضارب فيما بينها ولكنها تنصب كلها في ظل تلك القساوة التي يكشف عنها عنف اللون الاحمر ، والبني ، ورمزية أصفر يلامس مشاعر خاصة بهذه اللوحة ، تظهر من خلال خطوط غائرة ، وأطياف مثقلة بهذا الأزرق ، بفعل عملية القذف المتوازن الذي يخلق منظورا ينبني على أشكال تجريدية ، تختلف من حيث المنظر والحجم ، يتخللها رمز بصورته الواقعية ، يبقى ثابتا على القماش للتذكير أولا بحدث ، كان تأثيره ووقعه بحجمه ، ولكن على الرغم من ذلك ، يبدو وكأنه يتمطط بطريقة عكسية ، وينساب بانسياب الأكريليك ، ويهوي إلى الأسفل ليخدش صفاء صورة أخذت حيزا في الوسط ، لا توحي فقط بدلالة بصرية مباشرة ، ولكنها تحمل بين طياتها مالم يكن في الحسبان ، فكان ذلك مصدر إلهام فنانة عملت على التزاوج بين المرئي واللامرئي بالاعتماد على تلك الألوان البالغة الدًِلالة التي تم توظيبها بطريقة تتناسب وحساسية موضوع ببشاعته ، أثار وجدانا يعكس طبعها وحسها الرهيف وعمق شخصيتها ، وذلك ليس بغريب عن مبدعة باحثة ، تعلمت الرسم بالفطرة ، وامتدت موهبتها وتوهجت مع انسياب الزمن ، واحتكاكها بفنانين كبار ، مغاربة كانوا أو أجانب صادفتهم في محطات مختلفة ، وأروقة مغربية و أجنبية حفلت واحتفت بعرض أعمالها ، مما أضاف لها تجارب و إن تعددت ، و أنشأت على أساليب متنوعة ، تظل تستلهم مواضيعها من مظاهر الحياة اليومية وهوية البلد ، وحتى من ذاتها.تجارب فيها وحي من كتابة لايفصل بينها وبين الرسم إلا برزخ دقيق ياتي من نفس المنظور ، المتعلق بالجمالية ، والكثافة والمفارقة ، وتلك اللمسة الأنثوية التي تمنحها الخصوصية والتميز ، بحيث إذا اعتمرت طاقية الأدب ، يصبح القلم بين أناملها ينزف حبرا ، وإن لبست قبعة الفنان ، تتحول إلى سمكة تنفذ إلى الأغوار ، حيث تترسب الأسرار.
و إذا كانت جل أعمال هذه الفنانة تجريدية محضة ، إلا أن بهذا الشكل الذي جاءت به هذه القماشة يتضح بانها أرادت خلق التجاوب بينها وبين المتلقي ، والتواصل معه بطريقة مباشرة ، و التصريح له بإلتزامها ، وتشبثها بترسيخ المبادئ والأخلاق ، والدفاع عن الحق في الحياة ، وذلك من خلال صورة بغموضها الواضح ، وبلون كاسح يتماهى بالحالة التي تم تجسيدها ، ويتنوع معها على إيقاع غيض يتدفق لونا ترابيا ، يعلو اللوحة ويسمو ، سمو هامة الالتزام الذي يمثله.التزام الدكتورة شمس بإثارة الانتباه إلى قضية العنف بأشكاله الذي يتعرض له بعض الأطفال عبر رسم يشكل رسالة بصرية تتناغم مع الملامح المتعبة ، و تلك النظرة المثيرة التي تخرج من عمق عينين خائفتين ، تتجنبان النظر إلى المقابل ، مما يبعث على الحسْرة و التأمل ، ويجعل اللوحة فضاء يتجاوز مقاسه المحدد بالمكان ، حيث أصبح يفيض بتصورات وأفكار خلاقة تم صياغتها بدقة ، تنصب كلها حول خطاب يطرح ظاهرة للعلن ويفصح عن بعض السلوكيات اللاأخلاقية.


الكاتب : عبدالسلام صديقي

  

بتاريخ : 28/09/2024