قصة .. المطعم الأسيوي

لم تعد تستهويه، منذ مدة طويلة، تلك الحياة الصاخبة التي كان يعيشها، قرر ذات صباح بعد ليلة حالكة لم يذق فيها طعم النوم، أن يقف ويعيد ترتيب حساباته. من الآن سيسير مثل قطار بطيء فوق سكة متهالكة، سيعتزل الحياة والصخب والسرعة واللهو وحتى الابتسام، روتين رمادي يحيط به الآن منذ قراره ذاك ولكنه أبدا لم يفكر في الانعتاق منه، لا داعي لعد الأيام ولا السنوات، كان يقنع نفسه أنه مرتاح في حياته، ارتياح لم يشعر به ولكنه يقنع نفسه أنه موجود..أين؟ الله وحده يعلم، لم يعد يغريه الانغماس في برك هذا العالم الضحلة ومواجهة ثعابينها المتخفية وراء نعومة قاتلة، ولكنه في هذا الصباح قرر أن يمد عنقه قليلا خارج النفق، أن يغامر على أمل ألا يصادف أحد تلك الثعابين المتلونة، أراد أن يأخذ فكرة عن حجم الجنون الذي وصل إليه هذا العالم.
كل شيء سريع، الناس تجري، الشوارع مكتظة، لماذا كل هذا الازدحام» يالله من أين ينسلون ؟ سيارات، دراجات، عربات، لا أظن أن من يسوقوها عقلاء، شتائم وسباب يتطاير في السماء، شخص أخرج رأسه من نافذة سيارته يلعن سائقا آخر لم يسمعه ولن يسمعه، إشارات المرور تشتعل وتنطفئ دون أن يحترمها أحد، وذاك المتشرد الذي يمسح زجاج سيارة عنوة غير عابئ بصراخ صاحبها: «ابتعد عن سيارتي أيها ال… «، شرطي وسط الزحام والأصوات والمنبهات، صوت صفارته يزيد الأمر سوءا .
«سأعود من حيث أتيت، يخاطب نفسه، لا يمكنني الاستمرار، أشعر بصداع فظيع»، يرفع رأسه، لافتة مكتوب عليها رموز لم يتبينها، يقرأ تحت الرموز بخط رقيق «مطعم لي للأكلات الآسيوية»، يقنع نفسه بالدخول، «الأسيويون منظمون وجديون، ولا يحبون الضجيج مثلنا، حتما سأجد بعض الهدوء عندهم ! «.
يلج المطعم، كما توقع، كل شيء يوحي بالهدوء والسكينة، بدءا بالموسيقى إلى ألوان المطعم المتدرجة بين البيج والبني، طاولات متناثرة، متباعدة، أصوات الزبناء الخافتة، ضحكات مكبوتة لا تغادر الشفتين، تنين أحمر ينفث خيط ماء رفيع وسط نافورة رخامية سوداء، بذلة النادل السوداء هي أيضا،، ابتسامته التي تسبقه إلى الباب لاستقبال القادم الجديد، يمعن النظر فيه: «ملامحه تشبهنا، ذلك الحبل المتين الذي يحزم به رأسه لا يمكنه خداعي !».
على طاولة في الزاوية البعيدة يجلس منتظرا أن يرى الآسيويين ينسلون من كل صوب، يتوقع أن يرى أسيوية واحدة منهم بردائها الأحمر، وهي تلم شعرها الأسود الفاحم بذلك المشبك الذي يشبه القلم، لطالما تساءل كيف ينصاع له الشعر ولا تتساقط خصلاته الناعمة على الوجنتين. طال انتظاره ولكنها لم تظهر.
يخرج نادل آخر من مكان ما، ويتجه صوبه، يثبت نظراته عليه، لماذا يشبهنا؟
– هل اخترت وجبتك سيدي؟ يخاطبه النادل.
– ليس بعد، أنا محتار، القائمة طويلة وغير معتادة بالنسبة لي. هل يمكنك مساعدتي؟ ماهو طبق اليوم؟
يتلعثم النادل:
ليست لدي أدنى فكرة. لقد بدأت عملي اليوم فقط. يمكنك أن تختار أي طبق وسيطهوه الشاف «لي» في الحال.
«لو كان النادل أسيويا لكان الجواب مقنعا، فدائما ما نقدم الأعذار» !
يحملق في القائمة، تعجبه صورة طبق زاهي الألوان: أصفر وأخضر وبرتقالي وأبيض وأسود وأحمر … كأنه لوحة من لوحات رسام .
– ممَّ يتكون هذا الطبق؟ عذرا لا أستطيع القراءة نسيت نظارتي.
يبدأ النادل في قراءة الكلمات المكتوبة بخط صغير: أرز وسمك سلمون ودجاج وكرنب وشمندر، وجزر وأفوكا وفاكهة مانجا وأشياء أخرى لم يفهمها.
-لا بأس بتجربة هذا الطبق، وبلغ الشاف «لي» تحياتي.
يعود لتأملاته، لابد أن وراء ذلك الباب كتيبة من الطهاة الأسيويين المهرة، تتراءى له صور جنود جانكيز خان وهم يقطعون رؤوس الأعداء بضربات سيوفهم الحادة، ويتذكر أنه قرأ كتابا عنهم يوما ما، يمر أمامه أحد الجنود، عفوا نادل يحمل طلبية إحدى الزبونات، تجلس وحيدة في زاوية المطعم، تسلى بمراقبتها وهي تحاول تناول قطع الطعام بتنك العصيات السوداء، لم تستطع إيصال قطعة واحدة إلى فمها، رفعت رأسها دون سابق إنذار لتتلاقى نظراتهما، شعر بالإحراج كطفل صغير ضبط وهو يتلصص من نافذة الجيران، أدار عينيه وشغل نفسه يتخيل ما يفعله الطاهي «لي» وكتيبته داخل المطبخ، « لي هذا لابد أنه من هؤلاء الأسيويين المغامرين الذين يحبون غزو العالم» !
يستمتع بتخيل المطبخ، لابد أن الطاهي «لي» يقوم بحركات بهلوانية عجيبة بسكينه وهو يقطع البصل، ربما ينفذ إحدى كاتات الكونغ فو رافعا إحدى رجليه حتى السقف متعاركا مع باقي مكونات طبقه الشهي، تراءى له جاكي شان وهو يقفز كقرد وسط ركام ديكور محطم، غاص في تأملاته، تمنى لو كانت معه، أين هي الآن، ألا زالت تتذكره؟ لن يعجبها هذا المكان الهادئ جدا والمنظم جدا عند الشاف لي، هذا الطاهي الطموح الذي ترك أسيا كلها ليجد له مكانا هنا في هذه الزاوية البعيدة من العالم. طبعا، فهي كدكالية حقيقية لا يملأ عينيها ومعدتها إلا أطباق اللحم المشوي على الفحم ورائحته الشهية عند «با علي»، فالدخان المتصاعد من المشواة بالدكان الصغير المكتظ بالجوعى في أي وقت من أوقات النهار والليل، كأنه رسائل هنود حمر تستنفرها بل تستفزها لتلبي الأمر القادم على وجه السرعة، كانت تنطلق كسهم إلى حيث تجد سعادتها القصوى تسبقها ضحكاتها ونزقها من بطئه في السير «يالاه اصاحبي جاني الجوع «..
ينتبه على صوت النادل واضعا الأطباق أمامه، طبق وحيد مجوف مملوء عن آخره بكل ألوان الطيف مضاف إليها ألوان أخرى غريبة فوق كمية من الأرز الأبيض، وطبق صغير جدا به صلصة ما، لونها أسود، وكأن الطاهي أراد أن يجبر بخاطر هذا اللون عندما لم يجد له حيزا في طبقه فأفرد له مكانا خاصا به،vip ، صلصة سوداء لا تغريه بالأكل، «يعلم الله على ماذا تحتوي»، خاطب نفسه…
لم يعد يشعر برغبة في الأكل، ظل يحملق في الطبق الرئيسي متجنبا النظر إلى الصحن الصغير الأسود، لم يحب يوما هذا اللون، السواد هو ما يخيم على هذا العالم لماذا علي أن أدخله إلى جوفي أيضا؟ «أيها النادل قل لصاحبك «لي» إن هذا العالم لا يحتاج لمزيد من السواد»، لم يعلم أنه يصرخ بأعلى صوته إلى أن انتبه أن جميع من في المطعم ينظر إليه، خرج رجل ضخم من الباب المتحرك الذي يفصل المطبخ عن باقي المطعم .
كان فعلا رجلا ضخم الجثة، بوجه ناعم حليق يكاد الدم يقفز منه وشارب صغير جدا مضحك يذكر بشخصية هاردي الشهيرة، اقترب من الطاولة ببطء،
-أنا الشاف لي. بماذا يمكنني مساعدتك؟
ظل صاحبنا يحدق فيه فاغرا فمه…
-هل أنت الشاف لي؟ ولكنك لست أسيويا؟
-لا، أنا جيلالي المشهور بلي، ولد البلاد مثلك، ألم يعجبك الأكل؟
لم يجبه، وضع ورقة نقدية على الطاولة واتجه نحو الباب..
التفت ببطء:
-حتى أنت يا لي..
وأقفل الباب بهدوء  !


الكاتب : خديجة مشتري

  

بتاريخ : 01/06/2024