قصة : زهرة عبَّاد الشمس

 

…و ها قد أتى فصل الخريف مُكَفِّراً عن كل الخطايا التي ارتكبها فصل الصيف في حق ضعاف القوة الذين يكرهونه أيما كره. ولأنه ،في الحقيقة، لم يكن يحب لا فصل الصيف ولا فصل الخريف، غَيَّر من رأيه في أولى بواكير فصل الخريف؛ الفصل الذي تتساقط فيه كل الأوراق وكل الأماني المعقودة على عاتق الزمن. لم يدرِ من قبلُ أن فصل الخريف لهذا العام سَيُسْقِطُ كل الأوراق، إلا أوراق زهرة عباد الشمس الذهبية. هكذا سمَّتْ نفسها عندما سألها عن إسمها.
-من تكون زهرة عبّاد الشمس هذه؟ تحدث إلى نفسه.
كان خياله الواسع يرسم له ملامح هذه المرأة في مخيلته الواسعة، هل هي امرأة حقيقية! إذا كانت قد أطلقت على نفسها لقب «زهرة عبّاد الشمس» فهي حقا تعي ما تقوله! ربما تكون شخصية من شخصيات يوهان غوته، أو أسطورة خالدة من الأساطير الإغريقية، ولربما هي امرأة غير حقيقية. لا يمكن لأي امرأة مهما بلغت من البهاء والجمال أن تشبه زهرة عباد الشمس، أو بالأحرى أن تتشبه بها. فيمَ سيكون الشبه يا ترى؟ الضياء! اللمعان! البهجة! الأشعة الذهبية الوضاءة! أم الطول والعظمة!
لقد تملكت فكره، واستعمرت كيانه بعبارات فاتنة وجذابة، فما بالك لو رآها. لقد كان شديد المقت لكل أشكال الاستعمار ، كارها لكل أنواع الاستعباد، إلا هذا الشكل الجديد من  التملُّك، فقد قابله بصدر رحب، وقال لها:
– تالله إني عبدك عن طيب خاطر.
كانت تلك الليلة أطول من سابقاتها، لم يكتفِ فيها عقله بالتفكير فيها حتى كاد أن يجن وهو لم يلق جوابا شافيا لكل تساؤلاته. كان أمله الوحيدُ حينها أن تشرق شمس اليوم الموالي حتى يستطيع العودة إلى رشده، فالليل  دائما يترك ذاكرة المرء حية ، لكن كيف؟. إن الليل أيها السادة ينبش في أرشيف الذاكرة، بل الأكثر من ذلك، يتركها تسيل لوحدها بدون انقطاع.
نشرت الشمس أشعتها معلنة انطلاق صباح يوم جديد، ونجا هو من الليل وسمومه بأعجوبة. غطّ في نوم عميق وبدأ يحلم  بزهرة عباد الشمس خاصته، في الحقل الذهبي الواسع، كانت مختلفة عن نظيراتها، وقد كان باستطاعته، هو فقط، أن يميزها عن غيرها، كونها امرأة، لكن في صفة زهرة، وليست أي زهرة، إنها زهرة عبّاد الشمس. كانت الريح الخفيفة تعبث بكل الأزهار، عدا زهرته. الطبيعة نفسها أبت أن تعبث بها. دنا منها كثيرا، وفي اللحظة التي حاول أن يسترق منها نظرة تحكي له تفاصيل وجهها، طرق ساعي البريد طرقتين وهو يقول: هذا الظرف لكم سيدي، تفضلوا» ، وهمّ بالمغادرة.
فتح الباب مقطبا وجهه وهو يتفل يمنة ويسرة ويقول:
-اللعنة، كان عليكَ أن تتأخر قليلا حتى أعرف تفاصيل محياها..
فتح الظرف، ووجد رسالة مختصرة مكتوبة بالخط العريض:
– زهرة عباد الشمس بانتظارك على حافة البحر…لا تتأخر.
شُلّ جسمه عن الحركة لبضع ثوانٍ، وامتزج لديه شعور الصدمة بالحب والحنين ، لقد أحب الرسالة وأحب الظرف وأحب حتى ساعي البريد. كان الزمن حينئذٍ متواطئا مع الحركة، وكانت لحظة الخلود  بالنسبة إليه هي تلكَ التي سيلتقي فيها زهرته، كان يُمَنِّي النفس أن يعم السكون ويتوقف الزمن إلى حين أن يسرق لحظاته معها.
وقف أمام البحر، هبت ريح شرقية خفيفة من جهته، قال في نفسه:
– إني لأجد ريح زهرة عباد الشمس خاصتي.
وسرعان ما همس صوتٌ رقيق ناغم في أذنه قائلا:
-أنا زهرة عباد الشمس خاصتك، اطمئن.
حلّت لحظة الأبدية كما ترجّاها، وتوقف الزمن في اللحظة التي استدار نحوها ورأى النور الذهبي يتلألأ من محياها، عانقها وهو يقول في قرارة نفسه:
-إنها حقا امرأة، لكن على هيأة زهرة عبَّاد الشمس.


الكاتب : عزالدين بوروى

  

بتاريخ : 29/09/2021