قصة قصيرة : الإقامة في الشعر

 

أوقفني شاب أسمر لحيان وأنا أجتاز الشارع، ونظر إليَّ بعينين محمرتين وهو مضطرب الحركات ثم قال لي:
ـ أنت الشاعر أسامة الوردي؟
قلت له:
ـ أنا هو.
قال:
ـ أنا إدريس الكسراوي.
سألته وأنا أبتسم لأخفف من غلواء نظراته الغاضبة:
ـ ومن تكون أ السي إدريس الكسراوي؟
ضحك بصوت ممطوط حتى ظهرت أضراسه المصابة بالتسوس، وقال:
ـ أنا شاعر.
فقلت له:
ـ مرحبا بك أيها الشاعر.
وقال:
ـ تحسب نفسك شاعرا مشهورا، لذلك لم تعرفني من أول وهلة، بينما أنا تعرفت عليك. أنتم المشاهير تتجاهلون غيركم ممن يكتبون كما أنتم تكتبون.
فكرت في الشهرة التي طالما تجنبت ما يوصلني إليها، فهي لم تكن هدفي من كتابة الشعر وقراءته في الشعرية، بل كنت أسعى إلى أن يشاركني الجمهور في الرؤى والأخاييل التي تحفل بها القصيدة، وهذا ما جعلني أطبع العديد من الدواوين، دون أن أكون وصيا على أحد، أو أمنع أحدا من كتابة الشعر ونشره.
اخترقني إدريس الكسراوي بنظراته الحادة ثم قال لي:
ـ أنا شاعر، أحببت أم كرهت، ولدي ديوان شعر يجب أن تقرأه، وأن تقول رأيك فيه.
قلت له:
ـ أنا لا أقرأ ما يفرض عليَّ الآخرون أن أقرأه، كما أنني لست ناقدا يمكن لغيري من الشعراء أن يحفلوا برأيي في أشعارهم.
زاد توتره، وانقباض عضلات وجهه، وتجرأ فأمسك بذراعي بقوة، وجحظت عيناه وهو ينظر إلي، ثم قال لي:
ـ شعري لا يحتاج إلى الترحيب به، لأنه فاحش، متوحش الكلمات، غريب عن الشعر كما أنا غريب وشريد في هذه الحياة.
أدركت من هندامه وتوتر أعصابه أنه شاب فشل في الحياة فأراد أن يعبر بالشعر عن نجاح ممكن في حياته، مما دعاني إلى أن أتذكر قراءة شعرية نظمتها لي إحدى الجمعيات الثقافية، وعند دخولي إلى القاعة رأيت شابا يقبع في عربة المعاقين، وآخر يدفعها إلى أصبح الشاب المعاق قبالة المنصة. قرأت قصيدتين وأنا أنظر إلى الجمهور وأراه يشاركني بأحاسيسه ومشاعره، وعندما قلبت بعض الأوراق ورفعت عنها نظري رأيت الشاب الذي يقبع في العربة يرفع أصبعه ويطلب الكلمة، فأقبل عليه المشرف على الجلسة الشعرية، وأصغى إليه، ثم همس في أذني يقول إن ذلك الشاب يحب أن يشاركني الجلسة بقراءة لأشعاره، فوافقت بحركة رأسي، وقدم المشرف على الجلسة مكبر الصوت المتنقل للشاب، فقرأ أشعاره، وعندما انتهى من قراءتها لم يصفق أحد من الجمهور، لكني صفقت بحرارة فتبعني الجمهور بالتصفيق. رأيت وجه الشاب المقعد مستبشرا، فنزلت من المنصة وانحنيت عليه فقبلت وجنتيه، وأمسك على يدي بقوة، ثم رأيت دموع الفرح تنهمر من عينيه.
أما الموقف الذي تعرضت له في الشارع مع إدريس الكسراوي فقد كان يشعرني بأنني أمام شاب ضائع يتحشش، ويكتب كلاما هو نفسه وصفه بأنه فاحش، متوحش الكلمات، غريب عن الشعر.
قدم لي مجموعة من الأوراق وقال لي بصوت فض غليظ:
ـ هذا هو الديوان.
ثم قال بصوت آمر:
ـ اكتب مقدمته لأنشرها على صفحته الأولى.
حينما دفع بالأوراق نحوي لم أردها عليه، فقال وهو يبتسم ابتسامة غريبة:
ـ سبق أن مر من نفس هذا الشارع الشاعر أحمد المجاطي فاقتنصته وطلبت منه أن يكتب مقدمة ديواني لكنه تملص مني. وعندما كنت أعمل مهربا في باب سبتة اقتنصت الشاعر عبد الكريم الطبال، فأمسكت به وسألته:
ـ لماذا أنا تعرفت عليك وأنت لم تتعرف عليّ؟
نظر إليَّ بنفس تلك النظرات التي ينظر بها إلى الجبال المحيطة بالشاون، وإلى راس الما، وهو غائب. فأخرجته من غيبوبته وشتمته. لم يرد على شتيمتي، وحاول أن يمر في الديوانة سيرا مع الراجلين في صفهم الطويل، وساعتها رأيته يختلط بالمهربين، هم يدخلون سبتة ليعودوا بالسلع المهربة وهو يدخل سبتة ليهرب أشعاره.
ضحك بصوت عال، حتى رأيت بعض المارة يلتفتون نحونا، ثم أشار إلى عربة تقف على ناصية الشارع، تعرف في المكان نفسه ببيع الكاوكاو والزريعة، وقال لي:
ـ هذه هي عربتي، تأخذ أسبوعا لقراءة الديوان وكتابة مقدمته ثم تعود لتجدني هنا، كما أكون كل مساء.
لم أتمكن من التملص منه، فأخذت الأوراق وأنا أرغب في أن أمر بالشارع بسلام.
بعد يومين، جاءتني مكالمة بالهاتف، من رقم لا أعرفه، ثم سمعت صوت إدريس الكسراوي وهو يقول لي:
ـ في هذه الليلة كتبت قصيدة على علبة الوقيد، ثم حاولت أن أقرأها فلم أتمكن من ذلك. قصيدة رائعة، لكنها ضاعت.
قلت له:
ـ في المرة القادمة، اكتب قصيدتك على الورق الصحي، وإن احتجت إليه استعمله في المرحاض.
بدا غاضبا وقال لي:
ـ أنت تسخر مني! أيها الشاعر المغرور بأشعاره، أنا أقطع الرؤوس بسيف أخبئه تحت العربة. والعربة تبيع الكاوكاو والزريعة إلى أن يخلو الشارع من المارة، ثم تتحول إلى بيع الحشيش والويسكي المهرب. إياك ألا تأتي بمقدمة الديوان في الوقت المحدد، فأنا أقطع الرؤوس.
عجبت كيف حصل على هاتفي الشخصي، وشعرت بأنه يمكن أن يضايقني وأنا أمر مرة أخرى بشارع محمد الخامس، فرأيت أن أتجنب المرور من الشارع لفترة، إلى أن تمر الساعة، فقد تتعرض عربته للمنع، ويحال على المحكمة بتهمة الاتجار في المخدرات والويسكي المهرب وأرتاح من شعره، وذات مرة وأنا أقترب من مكان عربته رأيتها في مكانها فتراجعت دون أن أمضي في سيري حتى لا يعترضني إدريس الكسراوي، لكنه لمحني وجاء ورائي وأمسكني من كتفي ثم قال لي:
ـ أنا هنا لأعترض طريق الشعراء، فإما أن يقبلوني معهم شاعرا وإلا…
قلت له:
ـ إذا كنت شاعرا فلن ينازعك أحد في ذلك.
جحظت عيناه وقال:
ـ لا أحب أن تعترف بي شاعرا تحت الخوف. أنا أستطيع أن آخذ قنينة من تحت العربة وأهشمها على رأسك.
عرفت أنه يقول ذلك تحت تأثير التخدير، فتملصت منه وقلت له:
ـ أعرف أنك لست مجرما وإنما أنت تحب أن تكون شاعرا
بالقوة.
ضحك وقال:
ـ بالقوة؟ هل قرأت الديوان؟ أين المقدمة؟ أنا أنتظر أن ينقرض الشعراء لكي أبقى أنا الشاعر الواحد، الماجن، المتوحش.
قلت له:
ـ انتظر.
وهممت بالذهاب، فقال لي:
ـ أمهلك يومين لكي تأتي بالمقدمة.
ثم مضيت بسلام. خلال الليل جاءتني مكالمة منه. قال إنه يكره الشعراء لأنهم لا يرحبون به شاعرا، فقلت له:
ـ سيرحبون بك إن أنت عكفت على قراءة أشعار القدامى والمحدثين، فتتفتق فيك قريحة الشعر.
قال:
ـ أنا من الرعاع. لم أدخل المدرسة. تعلمت القراءة والكتابة بجهد خاص. والآن أنا أبيع الكاوكاو والزريعة، وبالليل تجدني أبيع أشياء أخرى، كل أملي أن يعترف الشعراء بأشعاري.
أشفقت عليه وقلت له:
ـ لا تقلق. سيكون لك ذلك.
بدا غاضبا وقال:
ـ يكون اليوم أو لا يكون.
قلت له:
ـ أنت عصامي، تعلمت القراءة والكتابة بالصبر، واليوم عليك أن تصبر على قراءة الشعر لكي تكون شاعرا.
قال بغضب:
ـ إنك بدلا من أن تكتب مقدمة الديوان توجه إلي النصائح.
قلت له:
ـ تصبح على خير.
وقطعت الخط، وتحسبا لأن يعاود المكالمة أغلقت الهاتف. ثم أخذت ألأوراق التي قدمها لي وعندما قرأتها وجدت أنها كلمات وجمل لا رابط بينها، وأن الرجل ينصب الفاعل ويرفع المفعول، مع التفكك الظاهر على كلام متسيب كتبها على أسطر، ولا وزن ولا قافية، ولا صورا ولا أخيلة، فأصبحت مشكلتي هي أن أتجنب الرجل ما استطعت، وألا أرد على مكالماته، أما سيري في شارع محمد الخامس فيجب أن ينتهي قبل أن أصل إلى عربة بيع الكاوكاو والزريعة.
يعد أيام جاءتني مكالمة منه، فلم أرد عليها، وأعاد المكالمة، فلم أرد، ثم عندما أعاد المكالمة رأيت أن أنبهه إلى أنه يزعجني، وقبل أن أقول ذلك قال لي:
ـ بارك لي. لقد حصل الديوان على جائزة منحتني إياها إحدى الجمعيات.
فقلت له:
ـ هنيئا.
قال:
ـ ولقد تدخل ناقد معروف، سبق لي أن اقتنصته في الشارع، في حفل تسليم الجائزة بمداخلة بعنوان: الانزياح في شعر محمد الكسراوي. فمت بغيظك أيها الشاعر التافه.
ـ قلت له وأنا أضحك:
ـ عين الحسود فيها عود.
قال متحديا:
ـ أنت الحسود. لو لم تكن تحسدني لشجعتني وكتبت مقدمة الديوان.
قلت له:
ـ مبروك عليك الجائزة، والديوان، ومداخلة الناقد، وبالمزيد إن شاء الله، والعقبى للترجمات إلى اللغات.
قال لي:
ـ أعطيتني فكرة. سوف أبحث عمن يترجم ديواني إلى الفرنسية والإسبانية والإنجليزية.
قلت له:
ـ وتصبح شاعرا عالميا.
قال:
ـ ولِمَ لا؟ لكني لن أصل إلى ذلك إلا بعد أن ينقرض الشعراء، كل الشعراء، وأبقى أنا الشاعر الوحيد.
قطعت الخط. لم يعد إدريس الكسراوي للاتصال. بدأت أنساه. لم أفكر في انقراض الشعراء، بل في تمجيدهم، والإقامة في أشعارهم التي تحفل باللغة والأخاييل والصور الجميلة، وتعيد للإنسان وجوده في الشعر


الكاتب : محمد عز الدين التازي

  

بتاريخ : 28/10/2022