قصة قصيرة : التهويدة ..

ماذا رأيت حين نظرت في عينيها قبل أن تسدل عليهما الظلال المريبة ستارتها الأخيرة؟عينان شبه مغمضتين،في تلك المسافة المحصورة والمواربة بين البياض والسواد..
خيول بيضاء كالثلج الطاهر كانت تركض في الغروب كأنها تود أن تتسلق سلالم نحو السماء، والدمع السري أحمر، يترقرق في الأهداب، فيما أنا تؤرجحني الريح على مهد خال من رائحة الأم..أنا لم أرها في لحظة الرحيل الأخيرة، لقد كنت أتخيل ذلك من خلف زجاج البرزخ الذي يفصل حضوري المادي وحضورها الأمومي السديمي. رأيتها فقط،في لحظات الأمل الأخيرة، حينما استبد بي الفرح بنجاتها من احتمال الذهاب الحتمي المطروح على طاولة القدر.
اعذروني أيها السادة أيها الأحياء، دامت لكم بركة الحياة وشهدة الفرح، فتراب روحها تناثر في الهواء ، قبل جبيني في حنو ومحبة،وداعب أحداقي حتى غمر الضباب رؤيتي المترنحة..التراب يعرفني لأنه تراب روحها، يتكاثر حول جسدي، يطوقني بهالة من الضياء، وأنا أقف على أرض المقبرة مشدوها،ذاهلا، أرى جسدها الرحيم غارقا في البياض، تتلقفه الأيدي لإنزاله إلى جوف الأرض.
أرى النهاية عاجزا أمام سلطة القدر، ولا أستطيع أن أوقف المشهد..أن أمنع الأيدي التي همت بآخر طقوس الدفن للجسد الأمومي الحبيب..كان الصمت يكبل شفاهي في استسلام،كأن الصمت هو ما يتبقى للمرء في عنف الأحزان القصوى.
أفراد من العائلة والأصحاب القدامى يربتون تباعا على كتفي المتهاوي تقريبا وكأنه يتجشم حمل الأرض . أقول لهم غير مصدق لما يحدث:»لقد تركتها آخر مرة بخير، منتصرة، قد هزمت الخوف والموت،فكيف تغادر بعيدا بهذه السهولة الطاعنة على حين غرة؟
إن موت الأحباب ما هو إلا تطبيع مع الموت،تآلف مع حالة الموت بعد تلف وفقدان..كأننا نخرج من البديهي والمطلق والمألوف في الحياة السائرة في تدفقها المعهود، إلى الاستثنائي والكوني الصادم، فما يعود الموت شيئا استثنائيا، مرعبا،بل يصير جزءا من الذات والطبيعة وسخرية موقف اللامبالاة.
رأيت عبر زجاج غرفة الإنعاش، عينين شبه مغمضتين، شبه مشرعتين، تنظران بدهشة وبصمت مطلق نحو اللامنتهى السري المعلوم، كانت الذاكرة المشرفة على الانطفاء، تستعيد تاريخ حياتها المهدور الذي استهلك كاملا في مهب الزمن العابر.. كنت أتساءل ماذا رأت عيناها الكريمتان في تلك اللحظة المجهولة؟
قبل أربعين يوما أو أكثر، كنا نضحك ذات أمسية من يوم الأحد،،حكت لنا أمي تاريخ سيرتها الذاتية، طفولتها السعيدة رفقة إخوتها و والدها الحنون، في تلك الأرض البعيدة البسيطة والخصبة ،منذ خطبتها من أبي، وزواجهما وبنائهما لأسرة ممتدة،كنت أنا آخر ثمارها، كنت استغرب في داخلي متسائلا: لِمَ تحكي والدتي الآن عن هذا التاريخ العتيق،الذي يندرج ضمن ذاكرتها الشخصية بالأساس ؟هل كانت تود أن تنقل لنا هذا الإرث العائلي التليد لننهل شيئا من ضوئه الرمزي؟أم لأنها كانت تستشعر بداية النهاية؟هل أنبئت،سرا، بوقت الرحيل؟
اعذروني أيها الأحياء، نحن المؤجل تاريخ سفرنا القدري، فأنا مازلت مربوطا بذلك الحبل السري العاطفي العظيم ، مازلت أسمع تهويدة الأم حول المهد وأنا طفل صغير،والمطر يتهاطل غزيرا،كان يتدفق مثل جواهر حالمة على أرض المراح الرحب المبلط بالزليج الفسيفسائي،كانت السماء بارزة، حرة، في منزلنا، تنظر إلي، ترصدني وأنا أتشكل وأكبر كيانا حيا واعيا،لم يكن ثمة أي حاجز من الحجارة يأسر البصر أمام رحابة الأفق،لقد ولدت في زمن المطر،كما تقول أمي ، لذلك أدرك لمَ أعشق السير تحت المطر طويلا،ولم يخالجني فرح سري، ملغز، وأنا أرقب عصف الريح و هجوم البرد في الشوارع وعلى أرصفة المقاهي.
أسمع أنا الطفل الصغير ترنيمات وأدعية وصلوات على النبي ضد لعنة الظلام والشياطين، ترددها أمي، أستشعر حضورها حولي، مازلت أسمع صدى التهويدة الآن،حتى بعد رحيل الأم.
أهتف باسمها، بغتة، في الصمت الذي يحاصرني، وأنا أستلقي على السرير لأرتاح، وأنا أتسلى بدوائر الضوء الصغيرة على الجدار الليلي شبه مضاء متوسلا بنوم يتهادى كقوافل من سحاب صيفي..وأنا أضرب براحة يدي على فخدي تعجبا وتحسرا للفراق المخاتل!
يحلق العصفور الصغير حول النافذة، بسرعة و بلا هوادة،أرتاب من الأمر كلما استغرق في تحليقه، كأنه يقصد نافذتي أنا تحديدا، دون غيرها،كأنه يريد أن يخبرني شيئا ما..كأنه رسول الغيب..كأنها روح أمك جاءت تزورك من الغيب.لايمكن أن يكون العصفور إلا روحها، فالصوت الداخلي يخبرك بشفافية صميمة أنها هي،هي،وقد تشكلت في هيأة عصفور، أجدني لحظة ألوح بيدي ثم بكلتا يدي اتجاهه،وأرسل له قبلات عبر راحة اليد، فأشعر أنه يستجيب بتحليق كرنفالي،ناطق،رامز، أتدلى بنصف جسدي،أمد يدي نحو العصفور الكستنائي المنطلق بسرعة ،أكاد أتهاوى، ملاحقا خيال العصفور الأمومي، فيصرخ الوعي محذرا، أتشبث بجسدي وأدعوني للتمسك بضوء الحكمة والعقل.
في الأيام الأولى بعد رحيل ربة القلب،كأنها لم تهجر الأرض حقا ولا المكان الذي أوجد فيه،الآن،كانت تتشكل مرة بروحها في الحلم كما كانت من قبل حية، ثم شعرت بوجودها الحقيقي المدهش في مرة أخرى، ذات ظهيرة وأنا أحاول أن أغفو، شاهدت ضوءا جميلا، يتخذ شكل دائرة مشعة زرقاء وخضراء الأهداب كحجر كريم مجهول،لمحته يتشكل على الجدار الناصع، وهو يتسلل خلسة كأنه كائن واع، لينتشر بهدوء، متراقصا،حتى بلغ الباب فانتشر حول المقبض الفضي،نظرت من خلف ستارة النافذة إلى الخارج، في ذهول، لأتأكد من مصدر الانعكاس لكن لم يكن لهذا الضوء أي جسد أو مادة تعكسه، كأنه نور تسرب، على حين غرة، من السماء، من بهاء الملكوت.
ظللت أنظر بهدوء وإذعان لهذا الحدث الكوني الفجائي الذي يحدث لي، ولم يسبق لي يوما أن أبصرت نورا يتسلل إلى الحجرة بهذا الشكل السري، وفي ذلك الوقت،أحسست أن الضوء هو روحها، روح أمي جاءت للأرض لتزورني، لتذكرني بالحياة الماضية/الحاضرة بترنيمات التهويدة الأبدية، مازلت أحفظ صداها كرنين الجواهر حين يتساقط على رخام الذاكرة.


الكاتب : رشيد مليح

  

بتاريخ : 02/05/2025