الرجلُ الطاعنُ في السن، القابعُ في ركن الخريف البارد، الساكنُ في صمت الليل الموحش، المُتعَبُ بالأسفار الطويلة، المجروحُ بسكاكين الفشل، المُغرِّد خارج الأسراب كلِّها.. يلتقي فجأةً بامرأة، رافقته في مدرسة الشباب حين كانا يافعيْن..
تعلَّما معا، ذهبا معا، وعادا معا..
وامتطيا صهواتِ الأحلام في الأصباح الندية، والليالي المجنونة، عاشا الفصول، وتبللا بمطر النجاحِ تارة، واحترقا بلهيبِ الرسوب تارة، وواصلا المسيرَ في مستقيماتِ ومنعرجاتِ الأيام، وفي مرتفعاتِ ومنخفضاتِ الرحيل، تكلما، ولم يقولا الكلام كلَه، زرعا، ولم يقطفا الثمار، وملآ الكؤوس، ولم يشربا.. ثم تفرقا، كلٌّ اختارتْه طريقٌ، وفيها مشى، وكلٌّ شُيِّد له بيتٌ، وفيه سكن، وكلٌّحُدِّد له مصير..
ومضى قطارُ الأيام، يحرق المسافات، ويُشيِّد الموانع، ويُضعف الأجساد، ويُوسِّع الهُوات، ويُذبل ما بقي من أزهار.. لكنهما لم ينسيا، ظلا يركبان صهوات الذاكرة، ويعودان إلى المدرسة.. يقطفان لقاءاتٍ بيد الحنين، ويشربان ماءً من عين الجنون، ويتظللان تحت فيءِ الأشواق..
وبعد أن ابتعد الشتاء، وأدار الربيعُ ظهرَه، وانطفأ الصيف، واحتلَّ الخريفُ المساحات.. أطلتْ أمامه من بعيد، وابتسمتْ، فتنهدتْ، ثم أرسلتْ إليه صورة.. رفرف الرجلُ كطائرٍ جريح، ونبض قلبُه كما نبض ذات شتاء بعيد.. هوتْ تضاريسُ البُعد، وذابت الموانع، وامتدت السهول، وانحنت الجبال..
الصورةُ يانعة، الشَّعرُ يراقص الرياح، والعينان تسكبان النبيذ، وعلى الخدين تغني أشجارُ التفاحِ الأحمر، والحاجبان يرسمان هلالَ عيدٍ مستحيل، والصدرُ طافحٌ بالخير، واليدان تعزفان، برشاقة متناهية، ألحانَ الجنون..
غرق الرجلُ المُسنُّ في مياه الصورة، فسبح، ولم يتعبْ، وشرب، ولم يرتوِ، وجرى في الحقول البعيدة، واستنشق الروائح السعيدة، وهام في فيافي الصمت السميك، ونام في حضن الدهشات الغزيرة..
الصورةُ فاضت بالصور، فحضر الماضي، وجلس أمام الحاضر، تقابلا وجها لوجه، وهبتْ رياحٌ من الاتجاهات كلِّها، فهطلتْ أيام، ثم زغردتْ أماكن..
عاد الصِّبا، وامتدَّ المسيرُ على بساطٍ مزركشٍ بالزهور، بدت الفتاةُ، بين حقول الفتنة، يانعةً، تلبسُ الربيع، وتردِّدُ أغاني المطر، وتحلِّقُ، بأجنحة الرشاقة، في رحاب البهاء. وبدا الفتى يطاردُ أجوبة، وينسجُ أحلاما، ويسبحُ في نهر الصمت، ويغني، على مسرح العزلة، وحيدا..
الصورةُ ربيعٌ يتملى باخضرار الحقول، وماءٌ يعرضُ لوحاتِ الصفاء، وحكايةٌ تقاومُ النسيان، ونقوشٌ تصمدُ في وجه التعرية. لم ينل الزمنُ من سحر الشجرة، وظلت سامقةً، تتدلى فواكهُها جذابةً، وتجري أناشيدُها عذبةً، وتقف أغصانُها، في وجه العواصف، شامخةً..
منحتْه الصورةُ جناحيْن، فحلَّق عاليا، ومضى بعيدا، وجال كثيرا، وتاه طويلا.. ثم رمتْ به في مياهٍ جارية، فغاص عميقا، ورأى ما لم يره من قبل، وسمع خريرا جديدا، وشرب من، ينبوع الصفاء،كؤوسَ الجنون..
جاد الحاضر بأصباح، لم يجُدْ بها الماضي، سارت قوافل الورود على ضفاف القلبيْن المتعبيْن، وجرت الضحكات في صفاء وسكون، وغردت الطيورُ البعيدةُ فوق أغصان الألفة، فأينعت اللحظات، وأثمرت الفواكه، وقطف القلبان أحلى القُبلات من شفاه الصباح..
نام في حضن الربيع، واستنشق روائحَ المطر، وتلاعبتْ به فواكهُ الصورة، ورقص قلبُه على ألحان قديمة، وتداعت جدرانُ صمته، ورأى الحلمَ التليدَ يُحلِّق أمام عينيه..
وبعد اليقظة، نظر إلى رِجليْه، فوجدهما مقيَّدتيْن، وإلى الباب فرآه محكمَ الإغلاق، وبحث عن النوافذ، فصفعهُ رحيلُها، لكن الصورةَ ظلت وافقةً تتلو أناشيد ماءٍ عذب، وتملأ كؤوسَ الشرود، وتجود بالعناقيد المعتقة..
صاح وسكت، وقف وسقط، كتب ومحا، هطل وجفَّ، ذهب وعاد، صام ولم يجع، عطش، ولم يشرب، سُئل ولم يُجب.. اتسعتْ متاهتُه، واحمرتْ أوقاتُه.. وهو في أوج الحيرة، وبين صلابةِ القيود، وهوانِ العمر.. بكى طويلا، ثم لاذ بالجنون..
قصة قصيرة .. جنون
الكاتب : محمد الشايب
بتاريخ : 31/01/2025