كان عالما بدائيّا خاليّا من التّرف، وفجأة دخلت إلى المكان شابّات في عمر الزّهور، سمينات، مكتنزات، جميلات، وقبيحات…بعضهنّ موشومات في ذقونهنّ بتلك الخطوط الرأسيّة أو الأفقيّة الخضراء، الّتي كانت من علامات جمال المرأة في أرض ليبيا والسّودان والمغرب، تنحتها الجدّات أو المتخصّصون على ذقونهنّ مستخدمين إبرا من حديد رقيق محمّى في النّار، ونادرا ما تجد امرأة أفلتت من ألمها، ولم تكن كلّها أفقيّة أو رأسيّة، ولكن فيها رسومات مخطّطة ربما دلّت على أعمارهنّ، والقبيلة الّتي ينحدرن منها.
يمشين بخطوات العمر البطيئة تباعا واحدة خلف الأخرى، جلسن على السّعف في وسط المكان، تتقدّمهم امرأة تشدّ العين لتتأمّلها، والقلب لينبلج لها واسعا، ويمكن أن تشعل الرغبة والغيرة في الآن نفسه، والجنون والعاطفة في تمازج عذب، وكلّما يرافق عشق المرأة العجيب والجميل، بيضاء البشرة وفارغة الطّول بشكل غير لافت للعيّان. ذات عينين معسّلتين مشعّتين، وشعر أسود غزير مفرود على كتفيها العريضين يكاد يستبان تحت قفطانها الشفّاف الأبيض، تطبطب على خدّيها المكوّرتين شعيراته الرّقيقة المتدلّيّة كفرشاة فنّان تمسحهما في عناية فائقة، وأحيانا تسدلهما على أذنيها المكتنزة بسبّابتها العريضة. وكانت بلا عمر يستطيع بوشعيب تحديده، استهوته تلك الفاتنة بأنفها المستقيم بعيدا عن أنوف المحلّيّات الأفطس، أو الطويل، أو المعوجّ.
كان بوشعيب صامتا يتأمّلها ذلك الصباح، ويفكّر في تطليق عزوبيّته، وحياة الوحدة البغيضة بما تحمله من إعداد الوجبات، وعناء غسل الثياب وتنظيف المنزل. نثر جميع الأشغال الّتي يمكن أن تقوم بها زوجه ولم يتوقّف عند رقم محدّد. فيما كان على تلك الحال لم ينتبه إلى اسرافه الملفت جدّا في النّظر إليها وشفتاه بقيّتا طويلا مشدودتين في تفكير عميق، في نظرة يفترض أن تكون خاطفة، لا مدعاة للمبالغة، والسّوق مليء بالجواسيس، والمتلصّصين، وأصحاب الهمم الدنيئة، والخبيثة. وطوّقه سؤال خبيث في قاع لسانه، ولم يفارق قاعه أبدا. سؤال بذيء ليس وقته الآن.
توسّطت حلقة النسوة السّوق، بمقربة من الحلاقين التّقليديّين، يجزون زغب الرّجال بأدواتهم الصدئة على الهواء الطّلق، مخلّفين رؤوسا كالقرع بنتوءاته وخطوطه الغليظة، فيما يمسح عليها غبار حوافر الدّوابّ الّتي تتحاوم في ساحة السّوق، حاملة رائحة الوبر والرّوث والجلود، وسط تلك الخيم الكبيرة المزركشة بالألوان الزّاهيّة من الأبيض والأخضر والأحمر. يدخلن اتّقاء حرّ الشمس المندفع في ثقوبها المعطوبة. لكزه بائع الشّاة ودفعه بعيدا، كان جلبابه الصوفيّ البنيّ ذاك يكاد يعطّر المكان، بروائح الماعز الفوّاحة والقويّة. حدجه بوشعيب بأسنان بيضاء بها بعض الاتّساخ:
– على مهلك، في الازدحام رحمة
– وفي الزواج رحمة كذلك…كن شجاعا وانتق لك زوجة، لأعرفك رجلا فحلا، هيا…تقدّم
لم يكن يعرف الرّجل، ولم يره من قبل، وحاول جرّه إلى الخيمة، لكن بوشعيب انفلت منه بصعوبة، وهو يضحك. ألقى عليه نظرة لقاء ووداع في نفس الوقت، ومضى بوشعيب بمحاذاة الخيمة على الطّرف الآخر، وصادف على المسلك كلابا في نباح غير منقطع، تتعارك على دلاء سوداء بلاستيكيّة ملأى بمخلفات الجزارين من أرجل الطّيور والماعز والبقر وجلودها وأحشائها وشحومها وعظامها… لا تؤمّه إلاّ أسراب الخرفان والماعز والمجاذيب…وفرق ريّاضة من التّلاميذ، ومباريات كرة القدم ساعة انقضاء ساعته البيولوجيّة من على لائحة أيام الأسبوع السبعة. وعلى أرضه دكاكين بضاعة ذات رفوف فارغة، قد لوحّت أخشابها حرارة الشمس وليالي الشتاء. ثمّ أشياء مبعثرة مصنوعة من تبن يؤلّف بينه الطّين…قد تكون طواجين أو كوانين. وخيم بسيطة ترتكز على عمود خشبي وحيد يعلو بها مترين عن الأرض، واللّحوم منشورة على طاولات خشبيّة متّسخة، أو معلّقة بقداسة رجل مظليّ يتهاوى من على بعد ثمانمائة متر من على سطح البحر، تخترقها ميادير صدئة سوداء تعجّ بالذّباب. وفراغ جيوب، وامتلاء جيوب، وقبض عربون، واختلاس أجور، وشبع ناس، وجوع ناس.
هرب بوشعيب من تلك الرّوائح الّتي تعاطت وحرارة شمس الصباح، ثمّ اهتدى أخيرا إلى ساحة شاسعة تفوح بروائح الخضر الطازجة، لم يكن يعرف تسميّتها في تلك اللّحظة، وعرفها لاحقا وهو يسمع عجوزا، تنتعل أحذيّة بلاستيكية ماركة (puma)، سوداء حالكة، بلا زينة مبهرجة ولا عطور، ترتدي الثوب المحلّي الّذي يغطّي الجسد كلّه. تغلب عليه الألوان الغامقة، وخاصة الأسود منها، وتسرف في وضع الكحل حول عينيها، وتتزيّن بعقود الفضّة والقصدير. كانت شرسة جدّا وذات عينين قلقتين. فجأة بلا خصوصيّة صرخت في وجهه:
– بيو…بيو…bio
بفرنسيّة سليمة نطقتها، تعجّب للغة التّخاطب عند هؤلاء القوم، غريبة، وعنيفة وبلا احترام أو أدب. تتبّعها بعيون خائفة وهو يتجاوزها، فغمزته بعينيها مشجّعة، والتجاعيد غزيرة تستولي على معظم وجهها، كانت تنزّ من عينيها المخيفتين نظرة استيضاح، يفور من فمّها الرّقيق، المطموس كلّيّا بشبح كلام تطرقت إليه وهي ترشّ الماء من فوهة قارورة مثقوبة على النّعناع والبقدونس والكزبرة المستويّة على العربة المغطاة بثوب متين خشن:
– تشجّع، واتّكل على الله آ بوشعيب، كلّ شيء يأتي بأمره…ولكن ها أنت ذا وصلت إلى سنّ الخمسين ولم تعقد قرانك بعد…الرّجل لا يعيبه إلاّ جيبه…وأنت تبدو وسيما وودودا وحماسيّا.
أشرق كلامها عن ضحكة شيطانيّة، وتساءل بوشعيب كيف عرفت العجوز، ذات الأنف الضخم اسمه وأسراره، بل حتّى بائع الشاة الهمجيّ الّذي دفعه بعنف، أسئلة لا تستقرّ على جواب محدّد، ومع ذلك أهدته قبضة كزبرة مجّانا وهي تكرّر عبارتها المشهورة…بيو.
رغم ذلك تقبّل كلامها بحركة لا إراديّة برأسه مستغربا رؤيتها للمخفيّات، لا شكّ أنّها كاهنة تقرأ الكفّ، والأصداف. فيما تلى ذلك من دقائق، عاد بوشعيب مقفلا إلى الخيمة وهو يشتمّ من عبق الكزبرة الذّابلة من كثر تعرّضها للهيب النّهار القهّار.
لا تفارقه صورة المرأة، حسناء الحظّ، الكفيل بدحر الوسواس الأخير في قلبه. متأنّقة بقفطان أبيض طويل إلى الكعبين وتضع طوقا مقمحا على الخصر، ويد ناعمة ومرصّعة بخواتيم فضيّة، لم يفلح بوشعيب في تعداد رموشها الكثيفة، والطّويلة على عيون المها، فقد أخذته نزوته آنذاك في نزهة حالمة في مساحاتها الصافيّة داخلها.
دخل بوشعيب إلى الخيمة الّتي تهتزّ تحت وطء الصّخب والغناء، وعلى أنغام الكمنجات، تترنّم فيه العصا على أوتاره ذهابا وإيابا، تسلّيها زغاريدهنّ. يطرق على مسامعه صوت مغرّد، كأنّه عندليب الطّرب، يصدر من ذلك الكمان، تحركه أصابع مخضرمة، وتتلاعب به فوق ركبتها السمينة، وتفوح من جسدها عطور ماء زهر، أو ماركات عالميّة مزوّرة، من رآها على تلك الحال حسبها امرأة عاديّة، بلا أيّ إبداع أنثويّ أو تطوّر. دقّ عينيه في عينيها وسعى جاهدا للحصول على قلبها، كان يقدّرها ويقدّر ما تقوم به من حركات بهلوانيّة مثيرة تحت تصفيقات الطبّالين والجالسين. النّساء الجميلات يقدّرن الرّجال جدّا، بل يرقصن منتشيات على إيقاعات الموسيقى الشعبيّة “العيطة” وكعوب أرجلهن تمرّغ في التّراب أو تنخفض وتعلو عاليّا، كأنّها مصابة بالفصام والهوس والرّعشة. شارف البوح على نهايته وبوشعيب يتلصّص على متيّمته منزوع القلب، بعدما اندفع كهل يحاول تثبيت سنّ ذهبيّة تتأرجح وتأرجح الفاتنة على فكّه الأدرم ولا يقدر، فاقترب يعض بها احداهنّ، تمرّدن عليه فخارت قواه واستسلم لحركاتهنّ العنيفة وبلا أيّ إشارة، علّق على كمّ صاحبة الفخامة، ورقة نقد تبري، ومنذ ذلك الحين والورقات تتهاطل. هبط الفقراء والتّعساء والشيوخ والكهول والشّباب لمعانقة التّاريخ، يلتفتون أيضا، لكنّه تلفّت سحر وانبهار، ولم يحلم أحد من هؤلاء ولا غيرهم من عشّاق العيطة الميّتين، المجانين، الميتّمين، أن تزغرد لهم امرأة كهذه فوق أرضيّة الخيمة الصلبة والمغبّرة، وتقيم ضجيجها وفوضاها على السّطح الشّعبي المضاء بأشعة النّهار الملوّنة، وبلا مغنّ ذكر منحرف، فقط نساء أطلسيّات جميلات تدوّي أصواتهن في المكان، يلحن بسواعدهنّ القويّة، ووجوه مدهونة بعرق النّخوة.
كانت الكراسي بلا تناسق متعانقة ومتداخلة في الزّحام، بلا طاولات، الرّجال يلبسون الجلابيب الغليظة والعمائم البيضاء المشربة بحمرة غبار السّوق. فيما آخرون بألبسة قصيرة من قماش شفّاف وسراويل قطنيّة واسعة عند الرّجلين، وينتعلون أحذيّة فصّلت من جلود الدّواب المختلفة، تسمّى بالبلغة. يتلصّصون بنظرات حذقة وجاحظة أحيانا على الغواني في استسلام تامّ، وبوشعيب بفلسفته المقدّسة، يسعى لاحترام قداستها بخبرته الحديثة في عالم النّساء. يتجاوز الكراسي والجوقة في احتدام وكلّه أمل في أنّه سيفعلها هذه المرّة، ولن يقبل العزوبيّة مجدّدا. نزع عنه حذاءه الجلديّ المغبّر ومشى حافيّا إليها، كمروّض نمور وهو يمسّد شاربه متوسّط الكثافة وقد غزاه شيب خفيف، عيناه الدّاكنتين، وأنفه ضخم قليلا، فأفسح له الجميع الطريق وهم يغمغمون. كانت صاحبة الكمان، قد اضطربت تماما، وصدم الجميع في تلك اللّحظة. فاجأها عندما مدّ لها باقة أزهار وهو راكع على إحدى ركبتيه. وما إن فتح شفتيه يطلب يدها حتّى رنّت على فمه صفعة قويّة طرحته أرضا تحت قهقهة الخيمة بمن فيها، وتركته في ضياع قاتل عندما تراءت له قبضة كزبرة العجوز باقة أزهار.