مس من الفن أو هاجس من الجن أو هما معا دفعا بالكلمات لتنثال من بين شفتي محدثي مباهية بما أنجز، غير مدرك أن هذا الكائن المدثر في معطفه الأسود الذي أشاح ببصره عن الساعة الحائطية المشيرة إلى الثانية عشرة ظهرا، وأخذ يتأمل اللوحات، لا علاقة له بطلاسم بيكاسو ولا كوابيس دالي ولا لوحاته هو الممهورة بالحمام، وأن ولعا معكوسا هو ما جذب نظره إلى هذه اللوحة التي تصور مجسم حمامة بيضاء تزين المدار الطرقي عند مدخل مدينة تطوان داخل إطارها الخشبي، وأن رغبة مضادة هي ما قادته إلى هذا الرواق.
الساعة الحائطية لا تعلم أن صرامة الفيزياء علمتني بأن ما تشي به من زمن هو مجرد وهم، ومع ذلك هي فقط من تكتم سر الدقائق التي أنتظر انصرامها لأغادر هذا المكان المترع بالألوان، وأبتعد عن هذا الفنان الملتحي الذي يجهل أنني متأكد بأن هذا التدرج اللوني الموزع على اللوحات هو أيضا مجرد خداع بصري ومحض أوهام. بالنسبة لي، في هذه اللحظة، لا شيء حقيقي سوى المشرط المدسوس في جيب معطفي الذي يعرف بأنني ما جئت إلى هنا إلا لأجز بمضائه أعناق الحمام المحلق في اللوحات. كيف إذن سيعلم هذا المتحدث اللبق المسترسل في الكلام، بتواضع مفتعل وبتحيز سافر، أن إسهابه في الحديث عن روعة بياض حمام لوحاته ووداعته، هو بالنسبة لكائن ليلي مثلي، خانته هذه المدينة، وظل سنوات طوال يصارع في الظلام من أجل البقاء رغم شهاداته العلمية المكدسة، مجرد ثرثرة عن طائر غدا عندي رمزا كريها يخفي سواد الحياة وشراسة هذه المدينة التي أرفض أن تظل مموهة في لوحات.
لا أنكر أنني أقدر براعة هذا الفنان، لكن ما أكرهه هو أكذوبة الأيقونة المدسوسة في لوحاته. فمدينة ميتة لا يجب أن تمثلها إلا حمامة ميتة، أو مأوى تسكنه الريح كذاك الذي مازال في سطح بيتي منذ أدركت زيف أيقونة هذه المدينة، ومنذ بعت آخر حمامة من الذي كنت أربيه لامرأة ستنتظرني بعد نصف ساعة لأعيد لها حمامتها البيضاء التي رفضت أن تبدل عشها القديم في بيتي بعشها الجديد في بيتها.
كان علي، مثلما تحملت سنوات من القهر، أن أتحمل الكلام الذي يجري من فمه مع اللعاب ويتناثر حولي مع الرذاذ، وأن أعترف أنني في هذه اللحظة فقط قد شدني سحر شرحه للوحة التي أتأملها حتى كدت أرى ما أسمعه منه، وأسمع أصوات ما أراه في اللوحة. أسمع هديل الحمامة البيضاء المنحوتة التي تزين مدخل المدينة، أسمع خفق حذاء صاحب معطف أسود يشيح ببصره عنها، وعن المدار المطوق بعشب مجزوز، ثم يكمل طريقه غير مهتم بالمجسم الرمز. أشعر بوقع رذاذ فم الفنان على وجهي، أرفع يدي لأمسحه فأدرك أنني أمسح قطرات مطر. أحث الخطى نحو البيت، قبل أن ينقلب الرذاذ زخات، كي أحمل الحمامة وأقصد حديقة الحي حيث ستكون السيدة التي وعدتها باللقاء.
في الطريق المؤدي إلى بيتي، أطالع لافتة تعلن عن حياة جديدة، إثر ترميم معقد دام سنين طويلة، تدب في حلبة مصارعة الثيران “بلاثا طورو” التي خلفها الإسبان في طنجة- المدينة المجاورة-. كان لابد أن يخطر على بالي، أنا المغرم بالمفارقات، تلك الأكذوبة التي انطلت على أجيال من البشر؛ كون الثور يستثار باللون الأحمر، قبل أن نعلم أن هذه الكائنات ذات نظام الرؤية الثنائي لا ترى اللون الأحمر. وما يستفزها فعلا هو حركة الموليتا/القماش الذي يتلاعب به الماتادور. لقد تحمل هذا الكائن قساوة الطبيعة ملايين الأعوام، وآلاف السنين من ذل التدجين، ولم يخدعه البشر في حلبات المصارعة باللون الأحمر ،بل هزموه، فقط، بالحركة.فماذا لو كانت الحركة هي أيضا خداعا بصريا ومحض أوهام؟
جمدني هذا الهاجس في مكاني، ولم يعد لرذاذ المطر والنسيم أي دور في تلطيف أجواء نفسي، وانهزم الجو الشاعري أمام فكرة مستبدة متبوعة بإرهاصات مرعبة ولدها ذهني، عدوي الأول والأخير، فاستحضرت مفارقة زينون عن الحركة والسلحفاة التي تسبق أخيل الضائع في حسابات تجريدية تمنعه من قطع المسافة قبل قطع نصفها، وقطع ربعها قبل اجتياز نصفها، وثمنها قبل ربعها، وهكذا إلى ما لانهاية.
لم ترغمني هذه المفارقة الموغلة في التجريد على التجمد في مكاني للأبد، فقررت استئناف السير لعلّي، رغم هذه الفرضيات النافية للحركة، أصل إلى البيت. في الطريق، عند المنعطف المؤدي مباشرة إلى باب منزلي، حاصرني هاجس مفاده أن الكون كله ربما هو محض تخيل في عقل إله، وربما كنت أنا مجرد فكرة في مخيلة كائن ما. قاومت هذا الهاجس في ما تبقى من الطريق إلى أن أجهزت عليه أمام باب البيت معلنا لنفسي في تحد سافر أنني، ما دمت أشعر بأني أحيا وأتنفس، سأعيش قدري ككائن موجود، سواء كنت مجرد كلمة من إبداع قلم، أو لطخة من ضربة فرشاة، أو مجسما من ورق، أو جسدا من لحم ودم.
صعدت قافزا على الأدراج، وأنا ألهث من شدة التعب، كأنني أردت لاشعوريا تدمير مفارقة زينون. لما بلغت السطح، انتزعت بعنف الحمامة البيضاء من برج الحمام، مصمما على حملها إلى صاحبتها الجديدة.
غادرت مسرعا بيتي واجتزت الشارع المؤدي إلى الحديقة. ولما راق لي النظر إليها من بعيد، وهي تقتعد كرسيا مولية وجهها إلى الجهة الأخرى، لم أبال بمن وبما بيننا سوى بما استوى من أرض يلتهمها خطوي المستعجل،وبرجل يرتدي معطفا أسود يعترض طريقي بكامل عجرفته.
بدا الطريق صوبها، قبل رؤية قاطعه، كأنه مفروش بمثل ريش الحمامة البيضاء التي أضمها بلطف بين يدي، وأنا كالريشة أعبره.وبعد رؤيته،بدا كما لو يشع بسراب تعكسه بقعة دم كالذي يسري في عروق هذا الطائر المرتعش.
صوّب النظر إلي ورمى نحوي ما بعينيه من شرر، فتذكرت، وأنا أرى ملامح وجهه ومعطفه الأسود، هواجس ذهني/عدوي الذي لا يرحم. طالبني بالطائر ليتفحصه ثم يعيده إلي. وما إن أمسك به حتى برزت عروق يديه وتقلصت قبضتاهما كما لو وزع حقدهُ الغضبَ على أصابعه العشرة وفصل، بخفة الحواة، رأس الطائر عن باقي الجسد. لم يهتم بما فعل، بل أخرج قنينة خمر من جيب معطفه، ودفع بسيجارة بين شفتيه، وقدح زناد ولاعته، فاشتعلت النار في صدري واندفع الدم في عروقي، وكالوحش انقض جسدي على جسده وأطبقت قبضتي يديّ على أضلعه حتى تكسرت القنينة على الأرض بعدما أفلتتها يده.
فكرت في قتله ولم أهتم، أنا المغرم بالمفارقات، بمصير يزج بي في زنزانة، إذ بدت لي حدود سجني، في اللحظة، ستكون إما عنوانا ونقطة نهاية قصة ما، أو إطارا خشبيا يطوق إحدى اللوحات. رغم ذلك عدلت عن الأمر، واكتفيت بإغراقه في سيل جارف من اللكمات، حتى انهار مكورا على الأرض، فأردفت لكماتي بركلات لا تميز بطنه من رأسه. ثم تركته ينزف، مفكرا جراء إحباطي الشديد، في ألا ألتقي السيدة متوقعا أنها لن تصدق ما حدث إلا إذا حملت معي الذبيحة البيضاء، وهذا أمر موغل في القسوة لا أجرؤ على اقترافه أنا المتخصص فقط في جز أعناق حمام الرسومات.
تحولت فكرة العدول عن لقائها إلى قرار حاسم شجعتني على اتخاذه ثقتي في أن ذهني من السهل عليه أن يشك في وجود هذه المرأة ويحولها إلى وهم أبدعته أباطيل أحلام.
درت حول نفسي، أو ربما بدا لي الأمر كذلك، وسرت في الاتجاه المعاكس مقررا زيارة رواق فني كي أفرغ غضبي في جز أعناق حمام غير حقيقي، لكنه بالغ الأهمية عند عشاق الفن وتجار التحف.خطر لي أنني صرت رجلين يمضيان في اتجاهين متعاكسين: أحدهما يعتقد أنه كائن حقيقي يمضي خلف آماله إلى حيث تنتظره تلك السيدة، والثاني يشك في وجوده ومع ذلك يحث السير ليصل سريعا إلى ذلك الرواق.
في الرواق، أخذت أتأمل اللوحة التي تجمد في ألوانها زمن المدينة الميتة في ذهني، وربما الحية في آلاف الأذهان. تلتقط أذناي كلمات الفنان الملتحي الذي لا يدري أن عقلي غدا مشوشا لا يميز بين الحقيقة والوهم، وأن لا أحد يملك القدرة على إعادة صفائه سوى الساعة الحائطية المعلقة على جدار الرواق، والتي إذا دارت عقاربها من اليسار إلى اليمين بمسافة زمنية تكفي لجولة في المدينة، فمؤكد أن كل ما وقع لي خارج الرواق هو حقيقي ولا يقبل الدحض. وإذا لم تدر إلا بمقدار زمن يتيح لي فرصة تأمل لوحة، فحتما أنا لم أغادر هذا المكان.
صوبت نظري صوب الساعة، وتعرفت على الزمن في ارتباك: إنها الثانية عشرة. وقبل أن أنحاز تبعا لإشارة الساعة إلى الطرح الثاني، تفاجأت بارتباك مضاعف أن عقرب الثواني جامد لا يتحرك وقلب الساعة المعدني متوقف عن النبض. أدركت حينها، بثقة موغلة في اليأس، أن حقيقة ما حدث أو ما لم يحدث ستظل غائبة عني أو مجمدة مع عقارب الساعة الثلاثة المتطابقة على الثانية عشرة، المشيرة على الدوام إلى منتصف النهار، أو إلى منتصف الليل.
قصة قصيرة : حمامة أو مدينة لا كالمعتاد
الكاتب : سعيد رضواني
بتاريخ : 29/11/2024