قصة قصيرة : رسالة إلى روني زيلويغر

 

عليك أن تعلمي، يا روني، أن ستيفن أحبك أكثر من نفسه، وكان مستعدا ليهرق آخر قطرة دم في عروقه من أجل أن يراك عالية وساطعة كما تتمنين. لم يذهب إلى الحرب لأنه يريد أن ينسى، بل ليردع ذلك الاندفاع الشاق والمرهق الذي يجعلك منزعجة من اقترابه. ذهب للحرب ليموت، ليقلع عن عادة التفكير فيك دون انقطاع. كان يشعر بأنك شيدت حبا آخر على أنقاض ما كان يجمع بينكما، وأنك تنتمين الآن إلى جسد آخر أكثر ألفة وأناقة.
قبل أن ينصرف، كان يتمنى أن يقبل كتفك ويغيب، ليبرد في خندق رملي مغمورا بالشظايا والجثث. لم يكن يريد أن يرجع إلى أرض لا يشعر بالانتماء إليها. لا يريدك أن تشفقي عليه بعينيك العابستين، ولا أن تديري له ظهرك بقسوة، كما دأبت على فعل ذلك. يريد أن ينضج في مكان آخر، في ذلك المكان الذي رآك فيه أول مرة، وعرف سريعا أنك قدره.
نعم، يا روني، أخبرني ستيفن أنه لم يعد يطيق النظر إلى المرآة، لأنه لم يستطع التحليق أعلى، ليلحق بك. ولهذا ظل يموت ببطء في سفح السفوح، قبل أن يقرر الانصراف بعيدا، وإلى أجل غير مسمى. هل تعلمين أنه كان يعبد النجوم في عينك، ويطارد الورود في رائحتك، ويثمل كلما انكسر ظلك على ظله.. قال لي إنك غيرت شكلك كي لا يتعرف عليك، وأنك كنت تدفعينه بكل قوة ليسقط من حافة قلبك. لماذا فعلت ذلك به؟ لماذا فطرت قلبه وطلبت منه ألا يجمح في الوهم؟ لماذا ملأت فمه بالرمل كي لا يصرخ؟
إنه الآن، في موقد آخر.. يتكاثف كي ينزلق منك دون تأخير. يريد أن يراك سعيدة مع ذلك البديل.. ولا يريد لنفسه أن يكون كالأرملة على باب الضريح. أخبرني أنه يريد، أيضا، ألا يترك أثرا.. أن يغلق الباب على مهل، ويلقي عليك نظرة أخيرة، قبل أن يرى الموت يستحم بين البنادق.
لا تظني، يا روني، أن ستيفن حاقد عليك، وأنك تركضين في الاتجاه المعاكس لمشاعره. كنت الضوء في هذا العالم المعتم، وكنت الشجرة الوحيدة القادرة على رفعه من انحداره من هاوية إلى أخرى. طلب مني أن أخبرك أنه ذاهب ليكف عن الارتجاف الشديد كلما تذكرك، وكلما لمعت في قلبه فراشة من فراشاتك. سيكون سعيدا هناك، وسينسى الكلام، ويكتفي ببناء بيت خشبي في مروج عينيك. سيحبك كثيرا، ويهرب إليك كلما اهتزت مراكبه على أطراف الملح.
صدقيني، يا روني، كان ستيفن يتحدث كأن قطعة زجاج حادة تحترق بين ضلوعه، ولا يتمنى شيئا آخر أكثر من أن يضع يده على صدرك ليشعر بالحب.
لم أقل لك يا روني إن ستيفن كان كالعابد في خلوته وهو يتحدث عنك. كان متهيج الأبعاد، يسافر في أرجائك شبرا شبرا. حدثني عن لقائه الأول بك، وكيف تهجى أسماءه الأولى في عينيك المبتسمتين. منذ النظرة الأولى عرف أنه سيثمل بك، وسيقف دائما على حافة كأسك.
كنا نشرب قهوة حين أخرج صورتك من جيب معطفه. أغمض عينيه وبدأ يلمس وجهك بحنان، كأنه يستظهرك، كأنه يريد أن يحفظ ملامحك عن ظهر قلب. قبَّلها وأعادها إلى جيبه ثانية. أخبرني أن العقبان الجائعة أرحم من الشرر الذي تسلل إليه من قلبك. لم يكن يملأ كلماته إلا باسترجاع كل الأسلاب التي احترقت عن آخرها في مكان ما من قسوتك عليه. كنت تمعنين في جعله يتخلص من كل دفاعاته، وكان يمعن في استلذاذ القصف العشوائي لصيادين منفردين يسطرون المكان بالموت، لأنه يعلم أن القنابل تخرج من النظرة التي طالما انغرس في أشجارها.
هل تعلمين يا روني أنه كان يتدثر بك، يقاتل بقلب طفل لم يغادر مشيمته. في ذلك الخندق الرملي، أفرش ملاءة زرقاء وتمدد عليها ونام. أخبرني أن الملاءة تعود إليك، وأنها ممتلئة برائحتك، وأنكما استغرقتما فيها ذات اشتباك بعيد، في حلم سابق، في فرح مفتوح على أجمل الاحتمالات.
كنت تدعينه يشرب ما يشاء. وها هو الآن ظمآن إلى نظرة واحدة حانية منك. كنت تغزلينه بيديك، فلماذا تركت الثوب ينحل ويتمزق ببطء؟ لماذا تركته يركض وحيدا في شارع الجمار العزلاء؟ هل تعتقدين بالفعل أن الابتعاد هو مصيركما المحتوم؟ هل تقرئين الغيب جيدا؟ ألم تعلمي أنه الآن «ذلك الوجه الذي ينزف في السحب»، كما يقول سركون؟ ألم تلاحظي أن احتراقه النبيل في هذا الزقاق المسدود، الذي انزلق من بروقك الهادرة، لم يكن رمادا، بل ميلادا آخر يخضر تحت سقوف قلبك؟
في ذلك اليوم البعيد، كان المطر يهمي عليكما معا، وكانت أجنة الحب تولد بينكما بغزارة. أخبرني أنه تحول إلى جناح ليغمرك، وتحولتِ أنت إلى مروحة لتأخذيه إلى الريح. أما الآن، فها هو يستجمع قواه ليشق طريقه وحيدا إلى الكبريت، مسندا رأسه إلى ثوب مبقع بالخيبة النقية. هل أصابته رصاصة، أم اخترق صدره سهم؟.. اكتفى بالابتسام، وصار يردد اسمك يا روني، كان يرى ثوبك الأسود الهفهاف، ويشم رائحتك الفردوسية، ويقهقه عاليا بسبب هذا الكمين المتقن الذي نصبته له الآلهة.
لم أخبرك، يا روني، بأن ستيفن كان عصيا على الإمساك. كنا نريد أن نقوده إلى أرض الخمور والنساء، وأن نرغمه على رمي قلبه إلى المحرقة. لكنه كان يأبى بعناد. لم يكن متمسكا بقلبه، بل بالمرأة التي تملأ ذلك القلب.. المرأة التي غمرته بأنوارها وأدخلته باب الاستواء الكثيف.
كنا نشفق عليه منك يا روني، فكل يوم جديد يبدأ بغيابك. بتلك الطريقة الحذرة في الحزن التي تشبه نظرته إليك. كان يعرف أن ما من شيء على الإطلاق سينسيه أنه لم يعد بوسعه السير مغمض العينين في رحابتك. ولهذا اختار أن يحلق على علو منخفض من الموت. قال لي إنك في الليل تكونين أكثر حنانا، وأن روحك باتساع مذاق العسل المتدفق على ماضيكما معا.
في تلك الليلة، كنتما عائدين من السينما. أكل قطعة بيتزا بفواكه البحر من يدك وأخبرك أنه يريد أن يشن غارة على كل ندوب جسدك ليقبلها. أومأت برأسك وغمزت له، بينما كان ينضو عنك ثوبك الكستنائي وهو ينظر إلى كتفيك، ويلثم تلك الشامة التي تشبه حبة برقوق صغيرة وناضجة. أين كانت تلك الشامة حقا، هل على كتفك اليسرى أم في عمق قبة سرتك أم على مرمر ذراعك؟ هو يذكر بالتأكيد، لكن ذاكرته كانت معلقة من عنقها على أسوار البيوت المدمرة حولها.
صدقيني، يا روني، لم يعد ستيفن، بعدك، ينتمي إلى الأرض. هو لم يتوقف عن النمو فيك على نحو معاكس، حتى وهو يرتدي بزة عسكرية، ويحمل بندقية، ويتلقى أوامر عليا برمي العدو. لم يكن يرى عدوا غير ظله الذي انسحب من عينيك. كان يسعد حين يراك تلجين مقهى « أيس ستيم» لتدخلي إلى كلماته التي تركع أمام ابتسامتك المحفورة في مكان ما من فرحه. ينتظرك بكل فروض العزف التي امتلأ بها منذ أن رآك تينعين داخله، بكل الشغف الذي شد أوتار صدره، بكل الموسيقى التي تفرعت داخله، لتصبح أشجارا وأنهارا وبحيرات. لا يشعر بالوقت لأنه ينتظرك. يشعر بشيء كالأمل، كالعناق المشترك المالوف، كالقبلة الأولى التي انتفخت في روحه وأحاطت بالأسماء كلها.
أخبرته، يا روني، وأنت تخبزين قلبه، بأنك ستكونين سقفا له، فلماذا صرت إعصارا بزوايا حادة؟ لماذا جعلته يتدحرج على منحدرات ظهرك الذي أوليته له؟ لماذا صارت روحك فجأة قصيرة النظر؟
في ليلة ونحن متيقظين في ذلك الخندق الرملي.. وضع خوذته على ركبته اليمنى، وبدأ يغني. قال إنه يغني لك، وأن صوته سيصلك، وسيلتصق بجدران غرفتك المطلية باللون البنفسجي الفاتح. كان القصف شديدا ولم يكن الوقت مثاليا للحب. كنا نتفحص وجهه الذي يلتمع كيفما اتفق تحت وقع القنابل، وننظر إلى سماء الليل المملوءة بالندوب.
هل قلت لك، يا روني، إنه لم يكن يبالي بالحروق التي علت ساقه اليمنى. كان يغني ويحدثك وينتظر اللحظة التي يعبر فيها إلى عينيك. لم يكن يأبه لخوفنا عليه. نزجره فيضحك. نغلق فمه، فيخبرنا أنه يريد أن يحضنك قبل أن يرحل، لا شيء أكثر من ذلك.
هو يعلم، يا روني، أنك كنت معه في وضع سيء، وأنك الحجر الكريم الذي طالما حلم به لكنه أضاعه. يعلم أيضا أن قسوتك عليه خادعة، وأن قلبك ينزف بين يديك كلما سددت إلى روحه طلقة ظالمة.. ويعلم أنه مكتظ بك ولا يكف عن التسكع في كل أرجائك التي تمتد إلى أعمق جذر في خريفه.


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 24/09/2021