قصة قصيرة : يعيش في مرآته

 

وسط أجواء مراكش المشبعة بألوان أسواقها وضوئها اللامع، عاش «عمر»، رجل اعتاد أن يستهل يومه كل صباح بنظرة في مرآته. المرآة ورثها عن جدته، قطعة أثرية قديمة محفورة بإطار خشبي مزخرف، تنبض بذاكرة أجيال مضت. ومع كل نظرة، يلمح فيها انعكاس وجهه المعتاد، الملامح ذاتها، العيون التي تحاول التسلل إلى عمق الذات، والابتسامة التي تخفي وراءها أسراراً .
لكن ذات صباح، عندما نظر إلى المرآة، لاحظ شيئاً غير عادي. انعكاسه لم يكن متزناً كما اعتاده. عيناه تتحركان ببطء، وكأنهما تراقبان شيئاً آخر. ارتجف للحظة، لكنه أرجع الأمر إلى وهم بصري عابر، غير أن الأيام التالية حملت له المزيد من المفاجآت .
في كل مرة يقف أمام المرآة، يشعر بأن الانعكاس بدأ يتخذ حياة خاصة به. لم يعد مجرد صورة صامتة تكرر حركاته، بل بدا كيانا مستقلا، يتنفس، يفكر، ويراقب. أصبحت تلك النظرات التي اعتاد أن يراها تحمل في طياتها معنى أعمق، وكأن الانعكاس يريد أن يقول شيئاً يفوق قدرة الكلمات عن التعبير .
ومع مرور الوقت، بدأت تظهر على وجه عمر في المرآة تعابير لم يشعر بها في وجهه الحقيقي. حزن خفي، غضب مكبوت، وتعب قديم. كلما أمعن النظر في المرآة، كلما اكتشف جانباً جديداً من ذاته، جوانب كان يخفيها حتى عن نفسه. المرآة تتحول إلى بوابة لعالم آخر، عالم من الأحاسيس المكبوتة والذكريات المنسية .
وقف أمام المرآة كعادته، لاحظ شيئاً غير مسبوق. انعكاسه لم يعد يتبعه في كل حركة، بل أصبح يتحرك بشكل مستقل تماماً. رفع يده ليحك جبينه، لكن الانعكاس بقي ثابتاً، ينظر إليه ببرود. تحرك عمر ببطء، محاولاً اختبار هذه الظاهرة العجيبة، لكن الانعكاس لم يشاركه حركاته. بدلاً من ذلك، بدأ في الابتسام بسخرية، وكأنه يسخر من ضعفه.
الانعكاس يحمل جميع مخاوفه، أسراره، وتلك الأفكار التي يحاول دفنها في أعماق نفسه. أصبحت المرآة مسرحاً للصراع بين عمر ونسخته في المرآة. النسخة تعرف كل شيء عنه، كل خطاياه، كل أحلامه المجهضة، وكل رغباته المكبوتة. الكيان الجديد، هذا «العمر الآخر»، يرغب في الخروج إلى العالم الحقيقي، أن يتحرر من قيود المرآة ويعيش حياة عمر الحقيقية، لكن بطريقته الخاصة.
فكر في إمكانية أن تكون المرآة قد امتصت وعيه بطريقة ما، وأنها الآن تعكسه في صورة مختلفة، صورة أكثر تطوراً وذكاءً. ربما هذا الانعكاس نوع من «الوعي الذاتي الرقمي» الذي يتحدى حدود الزمان والمكان.
فكرة أخرى تشغله، وهي المتعلقة بالتكنولوجيا الحيوية. ماذا لو كانت المرآة تحتوي على مادة عضوية نادرة تستطيع محاكاة الوعي البشري؟ أو ربما كانت المرآة عبارة عن جهاز بيولوجي متقدم قادر على قراءة العقل البشري وعرضه بشكل بصري. أصبحت الأفكار تتشابك في ذهنه، بين العلم والخيال، بين الواقع والوهم.
هذا الصراع ليس مجرد صراع داخلي بينه وبين انعكاسه، بل انعكاس لصراع أكبر في العالم من حوله.
الانعكاس أصبح أقوى منه، وأكثر ثقة. لم يعد انعكاسه مجرد كيان منفصل، بل أصبح يتداخل معه، يغزو أفكاره ومشاعره. وبينما يتساقط الضوء على وجهه في المرآة، يعرف أن المعركة لم تنته بعد.
يجب أن يتخذ قرارا، هل سيقبل بالتعايش مع انعكاسه، أم سيحاول تدميره لتحرير نفسه؟


الكاتب : الحسين خاوتي

  

بتاريخ : 25/06/2025