«قصة لا قصيرة ولا طويلة»

دخلتُ في الساعات الأولى من ذلك الصباح (غابا) وأشهد أنها أكثر أُنسًا من غابة أوسع صار اسمها البيضاء، كانت غابا حقيقية، معظم سكانها من حيوانات اليفة ومفترسة، لكن حاكمها بالفعل أسد، وأيَّ أسد.
فهل كان ما رأيته بالفعل غابا على الحقيقة؟
فإن أمامي وورائي وعلى مرمى بصري غزلانًا وفهودًا، ودجاجًا وثعالبَ، وتماسيح وبقراً وحشيًا وغير وحشي، وأمامي النهر وقد تفرع شوارع هادرة، وأخرى كأنت روافد، مع حركة لا ترحم غافلًا.
وإنني لأرى في ما حولي لقردةً وضفادعَ و خنازيرَ وحميراً، وبناتِ آوى ، وحتى ما يمر منها خفية، من فئران وسناجب سريعة، ونمل وذباب وعناكب تتربص مظهرة صبرا زائدًا، وزواحف من أحجام مختلفة، وأفاعي رهيبة، كما أرى بعد لحظات ثيرانا من كل الألوان، تسرع مهددة بقرونها الحادة كل من تلقاه.
هذا العرض الغابوي لم يكن ليكمل إلا بمرور زرافات تختال اختيالا، في أناقة لباسٍ ورشاقة قَوامٍ وهي تبحث عن وجبة شهية في مطاعم عليا، لا يوجد بها عادة إلا علية القوم الذين لا يراهم الناس على الطريق. أمَّا من كان يسير على الأرض مثل كل الخلق من سلاحف أو حتى حمائم أليفة، فقد كانت تمر دون حتى أن تستدعي الأنظار في معظم الأحيان.
وكل يعلن عن وجوده وما يتطلع إليه بصوته هو لا صوت غيره.
وكنت قد دخلت في ذلك الصباح مدينة (غابا) التي لاحظتُ اختلافها عن مدينتي الصغيرة التي أتيتُ منها فأكثر حيواناتنا فيها قطط أليفة نافعة، مع أقلية من الكلاب الضالة التي يبعث منظرها على الرأفة والعطف. وليس بها أكثر من كلب واحد أو كلبين سلوقين ، فَضُلا عن مرحلة سابقة كان مالكهما يخرج للصيد، فلما بلغ من العمر عتيا تقاعد عن ممارسة أي نشاط بدني.
***
طالت الطريق أمام خطواتي ، وكان الإرهاق قد أخذ مني كل مأخذ، وكنتُ قد انعطف ليستقبلني شارع عريض طويل من شوارع (غابا) فأرسلتُ نظري لتفاجأني طلائع موكب سيارات سوداء تسير ما بين بطءٍ مستعجلٍ وسرعة متوسطة، فخفت أن تكون جنازة أحد ممن أعرفهم، لكن ما أن حاذاني الموكب حتى أدركت أن الموكب الفخم كان لتشيّيع حيوان مفترس نافق من حيوانات كليلة ودمنة، وكان قد أسلم الروح على أحد أسرة عيادة في عاصمة تأخذ بخناق (غابا) ولا تريد أن تدع ما بينها وبين أهلها، أو أن تتركهم لذاتهم. بل إنها كما علمتُ من عدة مصادر مطلعة، لا تعترف بان لأهل (غابا) ذاتًا أو هوية بل لربما كانت هذه جنازة الفيلسوف « بيدبا « العالم بحاضر هذه المدينة وماضيها نفسه، التي تنعى موت آخر الحكماء على هذه الأرض، فقد كان هناك عويل آدمي يعلو ويأتي من داخل واحدة من هذه السيارات السود.

***
هدّ المشي تحت تأثير مختلف الانفعالات قواي، وطول ما قطعته من شوارع وطرقات، تحت سياط أشعة شمس ملتهبة، ولشد ما كان يثيره تشابه تصاميم البنايات التي كان يمر بها، فبين كل مبنى إداري مبنى إداري، شبيه له في ظاهره ومحتواه، فقد اتحدت هذه البنايات في الصورة لتتفق كلها في ما تجتهد في أدائه، من أدوار فاشيستية قاهرة، لا يسلم الداخل إليها خطواته المتوجسة، إلا وتسرع آليات الأخ الأكبر في ممارسة ما وُضع لها من أدوار قهر، في إكراهه على قبول ما يرضاه لنفسه وما لا يرضاه. وقد مررت بأبنية الإكراه الضريبي ، والقمع الأمني ، ومراقبة أملاك الدولة وشؤون عامة، وأخرى كأنها لتنسيق علاقات مجالس تمثيلية بأخرى تنفيذية، ومصالح شبه عامة، ومهام عليا.
وسواء أكان الهواء معتدلاً أم كان حارًأ، وسواء أكان الجو صحوًا أم كان ممطرا، فإن (غابا) ليست بالمكان الذي يسمح بأي نوع من أنواع الراحة للعابرين، فإن السير على طين أكثر الطرقات بها أكثر مشقة، وخاصة إذا ا عم الماء غبَّ وأغرق ما كان منها مستويًا، ومن محاسن الصدف بها أن بعضًا منها ينحدر في مناطق غير قليلة.
ما زالتُ أسير وأرى ما يتدفق على أرض الطريق على مقربة منه، من وسائل نقل فارهة معظمها لنقل خواص الفهود وخواص الثعالب والذئاب، وما لا يرى من أسر التماسيح المتسترة تحت حجب وستائر شتى، بحيث ترى تفاصيل ما بالخارج ولا ترى.
حتى اضطررتُ، أشد الاضطرار، إلى الوقوف انتظارا لحافلة عمومية، لم أكد أركب إحداها، حتى هزني في غضب راكب آخر وهو يقول:
ـ «لماذا ركِبتَ ، فلم يبق بينك وبين الجهة التي تريد إلا خطوات قليلة»
كنتُ منهكا إلى درجة أنني لم أبال بصوت من احتج على استنجادي في خطواتي الأخيرة بوسيلة نقل. ولا اهتممتُ بأن يجيب، وقد غرقت في الزحام بين كثيرين ممن لم أكن أعرف منهم أحدًا.
« أين ذهبت الحيوانات بكل قبائلها وأحزابها هذا النهار»؟ تساءلتُ وأنا أرى أن كل ما كان منها من الزواحف لم يتحرك إلى هذه اللحظة ، وقد توسطت الشمس كبد السماء، آه يبدو أنني نسيت شيئًا فـ «غابا» هذه تسبح أطراف الليل وآناء النهار بحمد ساداتها ما وراء البحار وان اليوم سبت، ولهذا لن أرى على الساحات بها ما اعتادت عليه حركتها، في سائر الأيام. فليس في الطرقات إلا كلاب ضالة ، وحيوانات أخرى مستضعفة، لا قدرة لها، على الخروج إلى الفضاءات والمسابح التي تضج الآن بأصوات حيوانات صغار، أو على القيام بزيارة مواقع رياضية خاصة للكرة الحديدية التي لا يقصدها إلا الحيوانات الكبار.
***
غرقت حتى ساعات المساء الأولى في إنجاز مهمتي التي من أجلها زرت مضطرا (غابا) لينقلني قطار له اسم سماويٌّ، فهو كأنه يطير بالفعل، في إحراقه المسافات الطويلة، فلم أستفق إلا بين يدي ابنتي وهي تحتضنني مهنئة إياي بسلامة الإياب. دون أن تكون عارفة بالفعل قاع الجحيم الذي استطعت الإفلات من محنه، بعبور جسوره الكبرى، دون كبير تعبٍ بدنيٍّ، وإن كان ما نال روحي من إرهاق ومشاق لا يوصفان ببيان.

***
ضبط السارد نفسه وهو يخاطبها في صوت أقرب ما يكون إلى همسات الخاشع في صلاة:
ـ «اللهم إني رجلٌ غامضٌ، اوقعتني أيامي بين دروب في مسيرة لا قدرة لي على الاهتداء بين ما خفي من ظلمات سراديبها، وأشباح دهاليزها، ولا تحت شموس بيدائها، فلا يتهمنَّني أحدٌ بالمباشرة، أو بأي نوع من انواع الوضوح، إنما أنا أهذي من تأثير مشاهد خانقة، تحت حرارة الهجير الشديد، في هذا النهار الخانق.!!!
وغرق السارد في بحران هذيانه ، لتتشابه عليه طلعة الطرق، وملامح الموجودات، بل ولتتداخل في ذهنه معرفة في أي أرض هو، وتحت حكم أي ديناصور من أباطرة الأوباش، ولا في أي زمان عاش.

14/06/ 2023


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 24/11/2023