قوة المتاهة

لا تمثل المتاهة، دائما، تهديدا خطيرا؛ أولا، لأنها مصنوعة بالكامل على صورة ما بوسعه أن يخدعنا، لكن بوسعنا نحن أيضا أن ننتصر عليه؛ وثانيا لأنها تقترح علينا جدولا من المفاتيح بإمكاننا، جزئيا، أن نتوقع أيها أصلح للخروج. وبتعبير أدق، إن المتاهة تقدم لنا فكرة عمّا يتوجب علينا ألا نفعله لتلافي الوقوع تحت مخالب الوحش.
ومع ذلك، تمثل المتاهة، بصرف النظر عن بعدها الأسطوري (ثيسيوس، المينوتور، أريانة، مينوس)، صورة ذهنية أو شكلا رمزيا لا يشير إلى انغلاق أي قوس. كل شيء ممكن، بما في ذلك انتصار الالتباس على الدليل. إنها لا تحتاج فقط إلى قوة الشكيمة أو إلى مخطط خروج (خطة العودة)، بل إلى الكثير من الحظ لقهر قوة التكرار التي تبدو معه المتاهة كأنها قادرة على إدارة التكرار على نحو لا ينتهي. تكرار يولد من تكرار. دوران يقود إلى مواجهة الوحش. ضياع في مركز غير خاضع للاختراق. حركة لا تنتهي لكنها مرتبطة بشكل خاص بفكرة الحبس في مكان مفتوح، إنه التناقض المعماري بامتياز. ومهما قلنا، فإن سيد المتاهة في النهاية ليس سوى المتاهة نفسها.
أدبيا، تناول العديد من الكتاب الأبعاد الفلسفية والفنية والأدبية والدينية المعقدة للمتاهة، وعلى رأسهم خورخي لويس بورخيس الملقب بـ»صانع المتاهات»، الذي قادته تصوراته الفلسفية والأدبية إلى التعامل مع النصوص بوصفها منصة مثالية لألعابه الشكلية وتجاربه الكتابية، من خلال استدعاء المتاهة بوصفها دليلا على العمق السردابي المتكرر للوجود الإنساني في كليته. وهذا ما نلاحظه في مجموعة من النصوص التي قاد فيها قارئه إلى مواجهة ممرات ودهاليز ومرايا وصحارى لا مخرج منها، مثل «ملكان ومتاهتان» و»مكتبة بابل» و»حديقة السبل المتشعبة» إلخ.
ولعل هذا المنحى البورخيسي هو الذي جعل كاتبا موسوعيا مثل أمبركو إيكو يعيد النظر في المتاهة بطرق مختلفة، إذ أعاد كتابتها في عدة أعمال وفقًا لمعانٍ محددة، وفسح المجال لعدد كبير من الاستخدامات، من الوجهة النظرية والسردية التي تجعل منها رحلة متعرجة تنطوي على تجربة صعبة لها مركز خروج، غير أنه مركز يشير إلى انفراج إلهي أو إلى تجربة رؤية الله (ثيسيوس) بوصفه فوزا على الوحش، وهنا تكمن الدلالة الروحية للمتاهة، فضلا عن تجربة البحث عن الخلاص، أي البحث عن ذلك المركز الذي يراوغه وينغلق دونه باستمرار.
ويميز إيكو بين ثلاثة أنواع من المتاهة، حسب التصنيف الذي وضعه الباحث الإيطالي جوسيبي لوفيتو:
– المتاهة الكلاسيكية (اليونانية)، ويعرفها بأنها «أحادية الاتجاه» لأن مسارها يكون غالبا ملفوفًا على شكل حلزوني، له اتجاه واحد فقط للسفر، وتكمن الصعوبة الرئيسية في الوصول إلى المركز ومن هناك الوصول إلى المخرج. وقد كان نموذج المتاهة هذا رائجًا حتى عصر النهضة، وكان يرمز، وفقًا للتفسيرات الروحية أو المجازية أو الباطنية، إلى طريق الخلاص، أو طريق البحث (عن الله، أو الذات، أو المعرفة).
– المتاهة الأسلوبية: وهي التي تحتوي على عدد كبير من المسارات، كلها مسدودة، إلا واحدا، وهو المسار الأيمن، الذي يؤدي إلى المخرج. إنها خطة تتفرع عنها عدة مسارات طرقية تتشابك وتزوغ وتلتبس، مما يجعل عبورها مستحيلا أحيانا. لذلك، من الضروري أن يكون لدى الخائض فيها قاعدة تجعل الرحلة أسهل، وإلا فإنه يخاطر بالضياع المؤبد ذهابًا وإيابًا. وهذه القاعدة لا تعطى مسبقا، بل يجب صياغتها على طول الطريق، من خلال الحسابات والمحاولات والحدوس.
– متاهة «الجذمور» (دولوز وغواتاري) أو بعبارة أخرى «الشبكة اللانهائية»، وهي بنية ليس لها مركز أو محيط، أي ليس لها داخل ولا خارج، ويمكن لعناصرها أن تترابط مع بعضها البعض في عدة عقد محورية. كما أنها تتميز بشكل رئيسي بفارق جوهري واحد، وهو الافتقار المطلق للمركز (الخروج)، كما أنها، بحكم تعدد المسارات التي يمكن أن نسلكها داخلها، لا توفر أي مخرج على الإطلاق، أو بالأحرى إنها تترك لنا أمر تتبع الطريق الأكثر ملاءمة لإرادتنا وتجاربنا.
وقد انتبه إيتالو كالفينو، أيضا، إلى الشكل الجذموري للمتاهة حين اعتبر أن أولئك الذين يعتقدون أنهم قادرون على التغلب على المتاهات من خلال الهرب من الصعوبات التي يواجهونها، يبقون في الخارج، ذلك أنهم لا يغامرون حقا بالدخول. أما الأدب الحقيقي فهو هذا السعي المتواصل لإيجاد المخرج، حتى لو لم يكن هذا المخرج سوى العبور من متاهة إلى أخرى. هذا هو التحدي الذي يواجه المتاهة: الدخول دون اكتراث فعلي بفكرة الخروج.
لقد اقترح المهندس المعماري ديدالوس، مثلا، الحل على إيكاروس: صنع أجنحة من أجل الهرب من الهيكل (المتاهة)، لكن أليس هذا الاقتراح اعترافًا مباشرا برفض بسيط للعبة الهندسية التي تقترحها المتاهة؟ أليس الطيران بعيدًا للهرب من الفخ أفضل طريقة للوقوع فيه؟
جميع الكتاب يقعون، بشكل أو بآخر، في ما يناقض هذا الفخ حين يحاولون العمل بلا هوادة من خلال تفخيخ النصوص وطمس المسارات وربط الكتابة بفكرة الألعاب وتنويع المسارات الحكائية وإدراج التناصات وكشف المرجعيات واقتراح طرق جديدة وقراءات مختلفة للسير في النص تجنبا لارتباك الخطو. وتبعا لذلك، فإن أي كتابة حين تبني جدرانها السميكة تبني أيضا قدر الإمكان عددا من الاقتراحات الملتبسة والخدع الطريفة والتعقيدات المحجبة والأقدار الغامضة، علما أنها تدرك أن خيط الخروج من المتاهة لا ينتهي إلى أي مكان، بل إنه الشكل الدال الوحيد على حقيقة التعرجات والأطراف المسدودة. نجد ذلك في كل رحلة شك، في كل قلق، في كل فرار، في كل بحث عن ملاذ آمن، في ذلك التحدي الذي ينطوي على القدر نفسه من الخطر والأمل، والانقباض والانفراج، وعلى ما يجعل الوجود الأدبي ممكنا ومتجددا، مثلما هو الشأن عند كافكا أو المعري أو موريس بلانشو أو بورخيس أو موراكامي أو كالفينو.. والقائمة لا حصر لها.


الكاتب : سغيد منتسب

  

بتاريخ : 31/10/2024