يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه الجديد «قيامة الأشلاء» الصادر عن دار «العائدون للنشر» بالأردن (2024). الغلاف من تصميم الفنانة البحرينية من أصل فلسطيني لمى سخنيني، فيما لوحة الغلاف والرسوم التخطيطية الداخلية من إبداع الفنان العراقي المقيم في بلجيكا ستار نعمة.
ونجد في الديوان عدة قصائد تتناول مواضيع جحيميّة، مثل القضية الفلسطينية والعدوان على غزّة، والإرهاب، وكورونا، وأيضا ضحايا التشرّد من موتى الشوارع في صقيع الغرب بلمسة إنسانية تحتوي على الكثير من التعاطف والمحبّة. وطه عدنان يع بّر عن ذلك بأساليب مختلفة، منها السؤال كما هو عليه الحال في «سؤال بريء داعشي». ومنها المساءلة ومحاولة الفهم كما في قصيدة «رسالة آجلة»، وكل ذلك بمسحة سخرية مثقلة بالأسى.
وتجعلنا قصائد الديوان نرى ونلمس مواضع الكراهية والسلبية المنتشرة في العالم بأساليب مختلفة، وفي مجالات متعدّدة… لكننا أيضا، نرى أن الشاعر يدلّنا على الحل الذي اتّخذه هو كإنسان في مواجهة الشرور التي يُواجهها الناس ويعيشونها عن اقتناع في كثير من الأحيان، بأن نحاول فهم الآخر، وبأن نضع أنفسنا محله.
فحتى عنوان قصيدة «نشيد الغفران» يُحيل بشكل واضح على نشدان المغفرة، وعلى الرغبة في هزم الكراهية بالتفهُّم… فمن المعروف أنّ لكلِّ فعلٍ سبباً. وللكراهية أسبابٌ قد تكون مُتوارَثة: سوء تعليم، سوء فهم، سوء تدبير، أوسوء تحكّم في الانفعالات والمشاعر، أو خوف من مما نرتكبه من أخطاء… وللمحبّة أيضا أسباب. إذ إنّ المشاعر، كلها نابعة من الشخص نفسه. فمن يكره بسبب الخوف مثلاً، هو في حقيقة الأمر يخاف من أخطائه هو أو نقصه هو. ومن يحبّ ، يحبّ لأنه قادرٌ على ذلك. لذلك على كل شخص أن يبدأ بنفسه. عوض أن يعتبر نفسه مُنزهاً ويتجّه بكل ما فيه من انفعالات وتناقضات إلى تغيير العالم.
يبدو أنّنا لا نحاول حتى أن نفهم أنفسنا نحن. لماذا نكره ما نكره؟ ولماذا نحبّ ما نحبّ؟
وطبعاً، دون أن ننسى أنّ أهم ما جاءت به الأديان هي الأخلاق وتعلي مُنا حسنَ التعامل والتّصرُّف، والمحبّة والتسامح… جاءت لتُعلّمنا كيف يمكن أن نعيش معا في هذا العالم.
نجد في قصيدة «نشيد الغفران» هذا المقطع:
«طلع النهار
فرفعتُ كفّي للسماء
وسألتُ يا رحمانُ
فلتغفر لهم
إذ إنّهم لا يعلمون
يا ربّ ماذا يفعلون؟
بعد الدّعاء
تجمّدَتْ في الحلق
شهقةُ يائس
في المحجرَيْن دموع
أطفال قضَوْا في السّرّ
فسمعتُ صوتاً
نابعاً من تحت
يطفح بالأسى ويئنّ:
ربّاهُ لا تغفر لهم
إذ إنّهم يدرون…
وأنت تدري
يا إلهي «.
فهم «يهدمون البيت… فوق رؤوس أهليه… يطلقون قذائف الفسفور… على بنيه». وهم، يعون جيّداً أنّهم يفعلون ذلك، لكنّ المأساة أنّهم يقومون بذلك بسبب الفهم الخاطئ لما جاء به كتابهم. بسبب الفهم السطحي
كما يعبّر الشاعر في آخر القصيدة: «فالكتبُ القديمةُ أقفلَتْ/ بابَ الحكاية/ بمزلاجٍ مقدّس».
وهذا ما يجعل الأمور تنقلب على الناس. عوض أن تجعلهم الكتب السماوية يتعلّمون ويَعُون.. و يُعمِلون العقل والقلب معاً. صار الناس بسبب الفهم السطحي مجرّد كائنات متقوقعة على ذاتها، وغير قادرة على مجرّد الإحساس بالآخر.
كما يع بّر الشاعر في قصيدته عن كورونا «مقام العزل» إذ يقول: «تقوقعوا على أنفسكم/ مثل حلازين/ ممنوعة من الزّحف «.
والمؤسف أننا نجد الفهم الخاطئ في كل الأديان، وهو ما سبّب مآسي وحروباً كثيرة على مرِّ التاريخ. كما يُذ كّرنا الشاعر طه عدنان في قصيدته «قيامة الأشلاء»، إذ يقول: «وكانت الفتوحات الإسلامية/ والحملات الصليبية/ ونَشَبَتْ الحرب العالميّة الأولى/ ثمّ الثانيةُ/ وكانت النّكْبةُ/ تَلَتْها النّكْسةُ/ ثمّ شبَّتْ حربُ الخليجِ الأولى/ فالثانيةُ/ وأُطلِقَتْ نيرانٌ صديقةٌ/ وأخرى شقيقةٌ/ واندلعَتْ ثوراتُ الرّبيعِ/ قبل أنْ يُداهمها الصّقيعُ بِنارِهِ/ وتستفْحِلَ داعشُ والغَبْراءْ».
أمّا في قصيدة «سؤال بريء إلى داعشي»، يُذكّر الشاعرُ الداعشيَّ بأنّ الله خلق كل هذه المخلوقات من مِلل و نِحل
وأقوام وشعوب وطوائف… فهل فعل ذلك فقط كي يعذّبهم؟ أوَلَمْ يخلقنا الله شعوبا وقبائل لنتعارف؟ أوَليست محاولةُ معرفةِ الغير وفهمِه، هي ما تجعلنا نتعلّم بدورنا؟ ألسنا ننتبه إلى عيوبنا مثلاً، عن طريق التعامل مع المختلف عنا، أو مع من هم ضدّنا؟ لماذا في الأمور الأخرى، الرياضة مثلاً، تجعلنا المقارنة بين الخصمين نفهم مواطن القوة والضعف في كل فريق، لكننا لا نحاول أبداً نهج الطريقة نفسها في حياتنا اليومية؟ وإلّا ما معنى أن نقرأ للآخر، وأن ننفتح على ثقافات أخرى، إن لم يساعدنا ذلك على تطوير أنفسنا؟ وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتحقّق دون أن تكون لدينا القدرة على محاولة الفهم، وعدم الإحساس بالتفوّق الزّائف.
فكلنا بشر، كلنا نعيش ونمرّ من نفس التجارب. كلنا نبكي ونحزن، نضحك ونفرح، نمرض ونتألم، نكبر ونشيخ، كلنا نخاف ونتو جّس ونرغب ونجوع… وكلنا نعيش الألم مثلا بنفس الطريقة بشكل عام… فما الذي يجعلنا ننسى كل هذه التشابهات التي تدلّ على أنّنا إخوة… ونسمح للانفعالات الأنانية، والأفكار الخاطئة، والفهم المتسرّع أن يُخيّم. أن تجعلنا ننغلق على أنفسنا، فتجرّنا الس يّئات إلى الجحيم.
يقول طه عدنان في قصيدته «رسالة آجلة» المهداة إلى ضحايا تفجيرات بروكسل في 22 آذار 2016 التي يتحدث فيها بلسان حال ضحية تفجير إرهابي:
«أخي/ يا شبيهي»
إذ إنّنا كلنا نتشابه… كلنا مررنا بالمراحل نفسها، من طفولة وشباب، ومرض وصحة، أحلام وواقع..
«فمَن مِن الأخ
يا قاتلي جرّدك؟
فكّر بعقلك
من تُرى غيّبك؟ «
كما يتساءل الشاعر.
ولو أن أيّ شخص في هذا العالم، فكّر للحظة فقط، أنّ الآخر مثلنا، يحس ويتألم ويخطئ ويصيب ويحزن ويغضب، كما لنا الحق كلنا في أن نمرّ بمثل ذلك. هل كنا سنرى كل هذه الشرور؟
لو أنّ كل شخص، تذكّر للحظة فقط، أن يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. وأن يحاول، يحاول فقط، أن يتعامل مع الآخر مثلما نريد كلنا بأن يقبلنا الآخر كما نحن. هل كانت كل تلك الحروب ستكون؟
لكن يبدو، أنّ المشكلة في إعمال العقل. فنحن نكرّر ما نسمعه، ما نراه، ما فهمه من سبقنا، ولا نحاول أن نغيّر، أونفكر، أو نعيد الفهم..
يقول الشاعر في القصيدة نفسها:
«أخي
منذ هابيل الذي مات
في أوّل الخلق
ضيّعَتْنا القرابين
فضيّعْتَني يا أخي
ولا وِزْرَ لي
سوى قدَرٍ ساقَني
إلى عتبات الفناء «.
ومع أنّ الكلّ يتّفق على أ نّ قابيل قد أخطأ بقتل أخيه… لكن، أليس تاريخ البشر هو تكرار فقط للأخطاء نفسها؟ ثمّ ما الذي يجعلنا نحن البشر غير قادرين على التفكير والتصحيح بشكل جيد؟ لماذا أغلبنا يجد نفسه مُنجرّاً وراء الرغبات والانفعالات، والصراعات، وكلام الناس أيضا..
يجيبنا الشاعر في المقطع التالي:
«أجرّبْتَ يوماً/ أن تُحب؟».
أليست القدرة على الحبّ، الحبّ الصّادق طبعاً، هي قدرة غير متجزّئة، هي ما تجعلنا نحس بالآخر، نحاول فهمه، نضع أنفسنا مكانه، ونسامحه أيضاً. فمن منّا لا ينتظر أن يسامحه الآخر حين يخطئ؟ من منّا لا يفرح حين يجد من يتفهّم ظروفه، ويحبّه رغم كل شيء.
أمّا في قصيدة «مقام العزل» التي تتناول موضوع ما عاشه العالم في فترة وباء كورونا، فكأنّ الشاعر يذكّرنا فيها أنّنا سواسية أمام هذا البلاء، وأنّ الطبيعة عادلة جدّاً… إذ:
«لا فرق بين فقير
بلا مأوى
وبين ساكن القصر
ذاك الأمير».
كلنا سنمرض، وسنموت حتما. لكن كأننا نستعجل النهاية بطرق ش تّى، من حروب وكراهية، وعداء.
ومع أنّ القصيدة كتبت في عزّ الحجر، في نيسان 2020، إلا أنّنا الآن تجاوزنا الأمر بفضل الطب. وذلك يعني أنّنا نجونا بفضلِ مَن أعْمَلَ القلب والعقل معاً. مَن حاول أن يفعل شيئا لأجل البشرية.
ومثل هذه الأفكار والتصرّفات التي تدلّ على انعدام الإنسانية والقدرة على التفهّم، نراها في الكثير من الحالات المختلفة، مثل التعامل مع المتشرّدين مثلاً. أليسوا بشر اً مثلنا؟ ترى، هل كانوا سيتشرّدون أصلاً لو أنهم أحسّوا بمحبّة صادقة من أحدهم، وأنهم مقبولون كما هم.
ألا يمكن أن نفهم أنّ التشرّد هو صرخة ضدّ جحيم الحياة الاجتماعية؟ لذلك فإنّ طه عدنان يخصّص لهم قصيدة «شواهد على الرصيف»، وهي عبارة عن مقاطع قصيرة تُعرّفنا على اسم المتشرد الذي مات في الشارع وعمره، وقصته. كأنّ الشاعر يريدنا أن نحسّ نحن القرّاء أنهم مثلنا… لهم أحلامهم وانتظاراتهم وآلامهم وخوفهم.. مثلنا تماماً.
وأيضاً، كأنّ طه عدنان يريد أن يصرخ عوضاً عنهم، صرختهم الأخيرة في وجه كل هذا الصقيع الاجتماعي الذي يرفض أن يفهم ويحسّ.
وأخيراً، فكل هذه العوامل مجتمعة، جعلتنا أشبه بالأشلاء، مجرد قطع متناثرة ميتة… عديمة الإحساس… لذلك فهو يختار عنوان قصيدته «قيامة الأشلاء» لديوانه الجديد، لأ نّ الحياة لن تزدهر، ولن نتطوّر، ولن يكون لوجودنا على هذه الأرض هدف، إن لم يتعامل الناس مع بعضهم بإيجابية وبتفهّم ومحبّة.
أليس الكونُ كلّه مبنيّاً على التفاعل الإيجابي؟ السماء والأرض، الشمس والقمر، الحجر والشجر،… كلّها تتبادل، تأخذ وتعطي… إلّا نحن البشر… نأخذ ولانعطي، نحبّ أن نستولي على الأشياء بطريقة عدوانية ولا نهب شيئاً عن طيب خاطر. نحن فقط من نحوّل حياة بعضنا بعضاً إلى جحيم، وننسى أننا بذلك نفرّط في إنسانيتنا لنستحيل إلى مجرّد أشلاء. فمتى تحين القيامة؟