قِيَامَةُ الْأَلْفِيَةِ الثَّالِثَةِ

الجراح تتسّعُ
في الجسد، والزمن العربي معطّل على حافّة الموت، يقف شاهداً أن العرب خارج التاريخ والأسئلة، الريح تأتيه مطرزّة بعواصف تزيد الجسد سقماً وعجزا

(1)
إذا كانَتْ مُشكلةُ الإنسان العربيّ منحصرَة في توالي الهزائم والنّكسات وهلمّ انكسارات وخيبات، فإن الحتمية التّاريخية لم تكن في صفّه، بقدر ما كرّست هذه الطبيعة المأساوية للوجود العربي، منذ قرون وقرون؛ رغم أن منتصف القرن العشرين كان محطّة مهمة في بناء الإنسان العربي الذي خرج من دوّامة الاستعمار الغربي. هذا الأخير لم يأل جهداً في تمزيق جسد الأمّة العربية، بوضع الحدود الملغومة والصراعات التي سقط في شراكها الحكام والشعوب معاً، لتصبح الفُرقة والتطاحنات المجانية واقعاً قائماً ومهيمناً بين الإخوة الأعداء. فصار الإنسان العربي بين مطرقة الرغبة في التحرّر والانعتاق من عبودية التخلّف والقهر لأجل بناء مجتمعٍ متعدّد ومختلف، منتج وفاعل في سيرورة التاريخ ومؤثر في الصيرورة الحضارية، وسندان المتاريس والقيود زاد من تضييق أفق الأمل في تحقيق حلم أجيالٍ آمنت بالوحدة العربية، بيْدَ أنّ المشروع القومي أصيبَ بخيبة قاسية بفعل عوامل عديدة لا مجال لاستعراضها فهي معروفة ومألوفة. وهذا لا يمحو من الذاكرة الجمعية للعرب ما بلغته الممارسة الثقافية والسياسية من طفرة مهمة وأساسية أسهمت في ترسيخ الوعي لدى الإنسان العربي.

(2)
أمام زَخَمِ الارتكاسات المتتالية والانهيارات على الصّعد قاطبةً، وفي ظلّ الهزيمة الكبرى للذات العربية واتساع الشروخ والشقوق في جسدها، وأمام ما يجري من أحداث ووقائع كان العرب حطبها، حيث الخرابُ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والتعليمي لسان حالها والناطق الرسمي بما آلت إليه الأوضاع، فلا مدن حقيقية ولا عمران يعكس الحضارة العربية والإبداع العربي الخلّاق، ولا فكر يعبّر عن انشغال الذات بترميم الأعطاب، ولا سياسة اقتصادية واجتماعية ناجعة تنقذ البلدان مما تتخبط فيه من ويلات وجرائم تمّ اقترافها في حقّ الإنسان والمجال البيئي، لتدخل في عماءٍ هائل، مرعب ومخيف في المستقبل القريب. وبعيداً عن نظرية المؤامرة، فالذات العربية تتحمّل عبء هذا الواقع، لكونها سلطة وشعوباً لم تستوعب دروس التاريخ، ولم تستفد من تجارب الأمم، بقدر ما انتهجت سياسة النعامة تاركة الحبل على الغارب، فغدت لقمة سائغة للمطامع الرأسمالية المتوحشة، وذلك جرّاء الانبطاح والخنوع والخضوع والانبهار الأعمى بالآخر ، لتتحوّل إلى مختبر تجارب للسياسة الغربية، وتربة لاستنبات إيديولوجيات لا تمتّ بصلَة للواقع، وبفرح طفوليّ وغباء حضاريّ تلقّفها المثقفون والساسة العرب دون الوعي بما تضمره من سموم تخرّب العقل والوجدان.

(3)
وعطفاً على ما سبق، فإن ما جرى ويجري في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، من ارتكاسة حضارية وقيمية، ومن طغيانٍ غربي تقوده الصهيونية العالمية يدفع الإنسان إلى إعادة النظر في كلّ النظريات الفكرية والفلسفية المتعلّقة بكلّ ما هو إنساني، مادامت البشاعة الأرضية المتجلية في قيامة أبدية لمرحلة تاريخية جديدة ترسم معالم أفق كوني مغبرّ بالقبح والتفاهة، بالأهواء والغرائز، والجوع الحضاري والثقافي، وموت الإنسان الذي تمّ تحويله إلى كائن مستلب بدون إرادة، وتدجينه بواسطة الثورة التكنولوجية. هذه الأخيرة تمّ توظيفها من لدُنِ أعداء الإنسانية لتصيير الإنسان عبْداً للآلة، ورهيناً تحت رحمة عقيدة جديدة تتمثّل في تمييع القيم الإنسانية الكونية، وتتفيهها من خلال القضاء على وظيفة المدرسة المنتجة للرأسمال الرمزي والسّاعية إلى الإعلاء من العقل، بتسييد ثقافة استهلاكية زادت الطين بلّة، من خلال تتْفِيهِ الإنسان في إنسانيته، وتْفِيهِ العقل باعتبارها المنقذ من ضلال الماديّات، والأكثر من هذا تصيير الجسد معبودا جديدامن صنع عولمة جارفة ، تروم إشاعة البؤس الفكري والتفاهة الثقافية، بل إنّ المرأة -بوعيها أو بدون غيرها- سقطت في فخّ التسليع لتجد نفسها غارقة في حبائل الوسائط الاجتماعية، ونجاح الفكر العولماتي في تخريب الأسرة ، وإشاعة الثقافة الوصولية والفردانية في الإنسان.لذا فالإنسانية اليوم تمرّ من منعطف غامضٍ وملتبسٍ وملغز في الآن ذاته، على اعتبار أن ما تعيشه المجتمعات من تقهقر وتراجع على كافّة المجالات والميادين، لم يأت اعتباطاً، بل هو نتيجة مخططات جهنمية للقوى العالمية. ويمكن الحديث عن انهيار بورصة القيم، ودخول الإنسان مرحلة عصيبة يسودها العنف ويتحكم فيها الاستعمار الرقمي كآليات جديدة ستسفر عن خراب شاملٍ لمسار تاريخي وحضاري طويل قطعته البشرية قاطبة، وتقود الإنسان إلى المآل الأخير. فاللامعنى هو العنوان البارز في عالَمٍ يتجه صوب نهاية مأساوية تراجيدية، لأن السياسة الدولية مختلة الموازين بابتعادها عن الفطرة الإنسانية والقضاء على العقل، وتكريس نهج اجتماعي واقتصادي وثقافي وسياسي مقصديته تكمن في بناء إنسانٍ مهووس بالماديات وقيم السوق الخاضعة لمنطق العرض والطلب.

(4)
أعتقد أن الحديث عن ما يسمى بالعالَم العربيّ، غدا من الترهات القديمة، إذ لا وجود له إلا في عقول أنظمة لا تفكّر في شعوبها، بقدر انهماكها في كيفية الحفاظ على كيانها وجودها بحماية كرسيّ السلطة، الأمر الذي جعلها تفضّل الارتماء في حضن الإمبريالية الصهيونية متوهّمة أنه الحل الأنجع، في سياق هكذا وضعف شعوب»العالم العربي» توجد في فترة تاريخية حالكة عنوانها البارز العجز العربي، وهذا العدم الممتد في الحياة، فلم تعد حالمة وحاملة لمشعل التغيير ، بقدر ما سعت الأنظمة العربية إلى تدجين شعوبها وتضبيعها بواسطة تعليم فاشل كطرق بإمكانها إبعاد الخطر عليها ( الأنظمة)، وما استقواء اللوبيات إلا دليلٌ ساطعٌ على أزمة الأنظمة وعدم قدرتها على مواجهة هذا الخطر القادم. وما بيع الأوطان للشركات العظمى إلا تعبير عن انهيار الدولة مؤسساته، فأصبح «العالم العربي» أرضاً مستباحة يسيطر عليها الاستعمار الجديد، وفضاء لإعداد يد عاملة رخيصة ومهضومة الحقوق، وفي هذا عودة جديدة لعهد السخرة والعبودية، وعليه يمكن القول إن الأنظمة العربية تحوّلت إلى راعية لمصالح الدول العظمى.

(5)
الخراب يتسلطن بثبات وإصرار، ويتمدّد في حاضر و مُستقبَل الناسِ، بينما «العالم العربي» لا يهتمّ بما يحاك ضدّه في الغرفة العالمية من مخطّطات جديدة لتفتيت المفتت، وتقزيم المقزّم، وتسييج الحدود بألغام صراعات ونزاعات مُفتعلة، بعد أن كان «الوطن العربي» لا يؤمن بالحدود والتّخوم، لكن في حاضر الهزيمة الكبرى تغيّرت الأمور، وغدت الأرض العربية تحت سطوة الإمبريالية الصهيونية وسلطتها، مشاتلَ لإنتاج التطرف والإرهاب لزعزعة الأمن الدولي وما القاعدة والبغدادي وأهل التكفير إلا عناوين عريضة من صنعها لتشويه صورة الدين المحمّدي وإلصاق الإرهاب والعنف بالعرب والمسلمين، ومجالا تتسع فيه المقابر بدل مختبرات البحث العلمي، ويتعمّق جرح السلالة وتتقلص الأحلام، فتنمو طفيليات ريعية فاسدة مستبدة تردي النخيل رملاً والربيع خريفاً.هو الخراب يكتب سيرة أمّة ظلّت مقيّدة بأغلال الآخر وساقطة في شرَك حضارته المزيفة، ومنبهرة بمنجزاته التي شيّدت بعرق أبناء العرب، ويرقص على جثث مواطنيه التي سقطت في حروب وقودها بلاد العرب، فعمّ الظلام والبؤس، الجوع والآلام، واستبد اليأس وتعطل العقل، وصار العربيّ سيزيفيّا منبوذا ومنذوراً للعدم.

(6)
الأنقاض تتلو خطبة القيامة، وفي سماء المحيط والخليج تتربّع الجثامين ، الليل يسري في العقول والأبصار، النهار يندب حظه على أرضٍ تسمّى مجازاً بلاد العرب، والجراح تتسّعُ في الجسد، فالزمن العربي معطّل على حافّة الموت، يقف شاهداً أن العرب خارج التاريخ والأسئلة، الريح تأتيه مطرزّة بعواصف تزيد الجسد سقماً وعجزا أمام سطوة وصولة الطوفان.
أقول : غزّة وأخجل أنا «العربي» المأخوذ بالذاكرة والتاريخ واللغة والدين، كلّ هذا مجرّد كلام، لن ينفع إذا عمّ الخراب واستبدّ وتسلطن على أنظمة لا تملك القوة والإقدام. زمن غزّة لا علاقة له بالزمن العربي، هو زمنٌ خارج توقيت «العالَم العربي»، لأنّه قادم من تلك الأنوار المشعّة من قداسة التّراب، نور يقاوم ليل الجَوْر، ويشعل السماء بالشهداء والأرض بالبطولات والشهامة والأنفة.
غزّة منبعُ الشهادة ومقامٌ لابتهال الألباب و وتهجّد القلوب.. غزّة تصنع ملحمة تغريبة الإنسان الفلسطينيّ.
أقول : غزّة وأجهر بأنها صكُّ إدانة للانحطاط العربي وخيانة عهد القدس وترابها وتاريخها ومجدها ووهجها الديني وديمومتها الأبدية.
غزّة التي عرّت هشاشة كيان غاشمٍ، وحوّلته إلى كركوز للتسلية الإعلامية، فاضحة أسطورة الجيش الذي لايقهر، مفنّدة السرديات الصهيونية، لا تملك إلا إرادة المقاومة ونبل العقيدة والحق في وجودهم في وطنهم الأبدي فلسطين.
غزّة النداء المبحوح في حنجرة الأحرار والأمل المولود من تحت الأنقاض …!

(7)
أكتب بيروت وأُدْهَشُ، تاريخٌ شاميٌّ متجذّر في حضارات البحر الأبيض المتوسط، ومن رماد هذا الوقت العربي تنبعث كالعنقاء، زمنٌ مسوّرٌ بالذّل والمهانة على أرضٍ تتآكل حرباً بعد حربٍ وأعني أرض العرب. بيروتُ المتحدّية والنابضة بالحياة، تخوض أشرف حربٍ إلى جانب أختها غزّة نكاية في التخاذل العربي، وإيماناً بأن الشمس ستشرق من هنا لتسري على الكون برُمّته. وأشرس معركة ضدّ التغوّل الصهيوني وسطوته على أمّة استسلمت لأوهام الخلود والاستمرارية، دون الوعي بحركية التاريخ وتحولاته، غير مدركة بأنّ المشروع الإمبريالي يسعى إلى تحويل المنطقة العربية إلى كانتونات تحت رعاية الصهيونية العالمية. ورغم هذا الهوان العربي تظلّ بيروتُ مسكونة بعروبتها وعقيدتها المختلفة والمؤتلفة من أجل وطنٍ مكابر ومقاوم رغم المآسي والجراح، والنّزف الأبدي الذي لا يتوقف مادام العدوان الصهيوني مستمرّا. بيروتُ جسدنا الممتد في الحياة والوجود والمقيم في ديمومة أبدية. بيروتُ تصنع الأمل المنتظَر منذ قرن من زمن النكبة ونصف قرن وأكثر من النكسة، بيروتُ نهضتنا وتجدّدنا وحريتنا. بيروتُ نعمتنا التي وهبها الله للأمّة العربية.

(8)
إنّ طوفان الأقصى شكّل صدمة للإمبريالية الصهيونية وتقويضا لمشروعها الاستعماري، ودرساً عظيماً في تاريخ المقاومة والصمود والتّحدّي، وانبعاث للقضية الفلسطينية بعد كلّ محاولات الإقبار من لَدُن أعداء الإنسانية. كما طرح الطّوفان أسئلة حارقة ومؤلمة حول الهوية العربية ودور العرب في الوقوف إلى جانب أهلهم في غزة وفي الأراضي المحتلة. بل يمكن القول إن المقاومة في غزّة وبيروت ، في غياب وجود عربيّ قادر على المجابهة والمواجهة، وانعدام ردعٍ دولي حازمٍ للكيان الصهيوني المتعجرف بقوته العسكرية، تمكّنت من تمريغ عنهجية النّتِنْ يَاهُو في التراب، بتكبيد الجيش الذي لايقهر خسائر لم تكن في حسبان الصهاينة، وإفشال كل مخططاته الجهنمية، بالرغم مما اقترفه من جرائم لإبادة الشعب الفلسطيني وما خلفه من خراب وتدمير ومازال إلى اليوم يمارس إبادة جماعية في حقه، وما ستشهده المنطقة من أيّامٍ عصيبةٍ تفضي إلى قيامة الألفية الثالثة، إذا لم يكن هناك تدخّلٌ من عقلاء العالَم لوقف العدوان الصهيوني الشعبين الفلسطيني واللبناني. ومع ذلك فالأمل في المقاومة الفلسطينية واللبنانية لكسر شوكة الغاشم وتغيير المنطقة إلى ما يخدم حق العرب في سلام دائم وأبدي رغم استحاله مع قتلة الأنبياء.

(9)
أكتب «الوطن العربي» وأقول الفراغ، الهباء، الصّحراء، التّيه، الليل، العدم… أقرأ اسمي العربي وأتلاشى في هذا الصمت المطوِّق هذه البقاع الممتدة في الانبطاح، وأستسلم لموسيقى تراجيدية تأتي من تلك المناطق الحزينة والخربة، وأرفع صوتي عاليّاً فأصاب بالاختناق، بالدّوار، والغثيان، ما أمر اللغة وجرح الكتابة في تاريخ العرب وأقساها لعنة على الوجود العربي، فأمحو الوطن واسمي وأعثر عنّي هنا وهناك بلا أملٍ في صحوة عربية. أعتقد أن الهوية مجرّد كذبة وجودية صنعتها الأنظمة العربية منذ القِدَم لإيهام شعوبها بأنها أمةٌ واحدة موحّدة، يجمعها دين واحد ولغة واحدة، لكن في حقيقة الأمر أمّة تبدِع صناعة الغمّة والقرَف، وتزرع اليأس في النفوس والأفئدة، وتسعى إلى ترسيخ قدرية وقضوية الكيان الصهيوني، وبالتالي ضرورة التطبيع والتعايش معه، بدعوى قوّته العسكرية.

(10)
ماذا بوسع العربيّ قولهُ أمام رمادٍ يتسيّد، وجبّاناتٍ تجتهد في توسيع رقعة الخراب والأنقاض، والمَحْلُ يدبُّ كالسرطان في جسد فاقد الإرادة، في أمّة خيراتها تحت طائلة الإمبريالية العنصرية، بينما أبناؤها يختارون المنافي ويسحلون عمرهم على قارعة النسيان والفراغ. وهذا الغبار المشتعل برّاً وبحراً، يروي سيرة أمّة بدون بوصلة ولا مخططات، ولا تفكير في العدو المتأهّب للانقضاض على الخريطة العربية، أمّة عدَمٌ. لكن أعتقد أن طوفان الأقصى وهبّة المقاومة في لبنان واليمن والعراق السبيل في اتّجاه المستقبل، بمعنى آخر صوب الحياة بعيون مفتوحة على الأمل.


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 11/10/2024