كتاب «الحكاية الشعبية الأمازيغية بالريف» .. سلطة الحكي بين متع السرد والافتتان بعطاء الذاكرة الجماعية

 

تشكل الحكاية الشعبية خزانا لا ينضب لتوليد التراكم المركب لعناصر منظومة القيم التي يحققها المجتمع في سياق تطوراته التاريخية الطويلة المدى. وتشكل الحكاية والأسطورة انعكاسا جليا لنظيمة القيم المشتركة والتفكير الجماعي الذي يجعل من السرد سلطة معرفية لوضع قواعد السلوك الجماعي، ولترشيد المواقف، ولاستيعاب التحولات، ولإنتاج رصيد المرجعيات المجتمعية التي تؤطر حياة الفرد والجماعة. وقبل كل ذلك، تظل الحكاية الشعبية، بتفرعاتها الثلاثة المركزية المتمثلة في الحكاية الخرافية والحكاية العجيبة والحكاية المرحة، مدخلا أساسيا لحفظ التراث اللامادي للمجتمع. ومن هذه الزاوية بالذات، تزايد الاهتمام بالبحث في أواصر العلاقة القائمة/ والمفترضة بين رحابة فعل التخييل والخلق داخل متون الحكاية الشعبية من جهة، وبين أشكال توظيف درس التاريخ لمضامين الحكاية باعتبارها رافدا من روافد تأثيث معالم الذاكرة الجماعية في إطار البنى الهوياتية المرتبطة بالتاريخ وبالانتماء وبالهوية.
لقد تعززت هذه العلاقات ببروز أعمال قطاعية استثمرت أرصدة الحكي الشعبي في السعي نحو تطوير الدرس الأكاديمي المتخصص والمتقاطع مع مجالات معرفية شتى، لعل أبرزها التاريخ واللسانيات وعلم الاجتماع والأنتروبولوجيا والدراسات الأدبية والنقدية… ونتيجة لهذا المنزع، أصبحت للحكاية الشعبية مرجعيات تأصيلية ونظرية ساهمت في تيسير العمل الهادف إلى تفكيك متن الحكاية، وتطويعه قصد استثمار آفاقه الرحبة داخل عوالم السرد العجيبة. وبالنسبة للبحث التاريخي في أبعاده التخصصية الحصرية الضيقة، أضحى الانفتاح على محكيات السرد الشعبي عنصرا مركزيا في كل جهود التوثيق لأرصدة التراث الرمزي المنفلت من بين ردهات التوثيق المادي الصارم. وبذلك، أصبح المؤرخ منفتحا أكثر من أي وقت مضى على مظان السرد الشعبي، بالنظر لقدرته على التوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابات التأريخية التخصصية الضيقة. فكانت النتيجة، بروز عودة جماعية لمؤرخي الزمن الراهن، نحو استثمار العدة المنهجية المرتبطة بالاشتغال على متون الحكايات الشعبية، من أجل توسيع آفاق الدراسة واستكشاف عوالم ومغارات ظلت بعيدة عن صنعة كتابة التاريخ التقليدي المدرسي، من قبيل عوالم السحر والأحلام والكرامات والمعتقدات الشعبية وخوارق ما وراء الطبيعة والتمثلات المحلية للذات وللآخر وللمحيط وللوجود… وكلها قضايا مرتبطة أشد الارتباط بالواقع من خلال الخيط الرفيع الذي يربط التاريخ الجماعي بأشكال تنظيم المجال المشترك وإنتاج الرموز والقيم والثقافات وعموم التعبيرات الإبداعية غير المدونة والمنتقلة عبر الأجيال، مخترقة لسكينة التاريخ ولانسجام الجماعة، قبل أن تتحول إلى ضمير جمعي لإنتاج نظيمة الرموز المؤطرة لسلوك الفرد والجماعة. هي محكيات على محكيات، وعوالم على عوالم، وإبداعات على إبداعات، وسرديات على سرديات، تحمل كل عناصر الامتداد في الزمن، صانعة عناصر خلودها، ومرجعيات قيمها، وأسس شرعيتها، ومفاتيحها الموجهة لجهود كتابة تاريخ الذهنيات الجماعية. باختصار، هي مواد أساسية للتوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابة التاريخية الوضعانية المخلصة للوثيقة المادية، ولا شيء غير الوثيقة المادية.
في سياق هذا الاهتمام الوطني المتجدد بتجميع متون المحكيات الشعبية الوطنية المعاصرة، يندرج صدور كتاب «الحكاية الشعبية الأمازيغية بالريف- عشر حكايات من قبيلة إبقوين»، للأستاذ عبد الصمد مجوقي، خلال مطلع السنة الجارية (2022)، وذلك في ما مجموعه 217 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويشكل الكتاب تتويجا لجهود مسترسلة طبعت أداء الباحث مجوقي عبر سلسلة أعماله ذات الصلة، وعلى رأسها كتابه «المقاومة الريفية من خلال الشعر الأمازيغي- دهار أوبران نموذجا»، إلى جانب دراساته المتراتبة المشتغلة حول التراث الشفوي لمنطقة الريف في مجالاته الإبداعية المتداخلة، وعلى رأسها الشعر والسرد الشفاهي والمسرح. وعموما، يمكن القول إن الإصدار الجديد، يشكل إضافة هامة لمجال جهود تجميع نصوص المحكيات الشعبية، حسب ما عرفه المغرب خلال المرحلة الكولونيالية مع رواد هذا المجال من أمثال جورج كولين، ولاركاديو دي لاريا بالاسين، ورودولفو خيل، وطوني بارطون، ورونيه باسيه،… وكذلك خلال المرحلة الراهنة مع الأعمال التأسيسية الوطنية لرواد هذا المجال، وعلى رأسهم الأساتذة مصطفى يعلى، ومليكة العاصمي، ويونس لوليدي،…
ولإضفاء بعد إجرائي على رؤية المؤلف في عملية تقديم المتن الحكواتي، حرص المؤلف على توزيع مضامين عمله بين قسمين متكاملين، توقف في أولهما عند القضايا النظرية الخاصة بالحكاية الشعبية وبأنماطها وبخصائص تمظهراتها بمنطقة الريف المغربي، سواء على مستوى شكل تقديم المتن أم على مستوى قيمه الإنسانية والإبداعية العميقة والمتداخلة. وفي القسم الثاني، انتقل المؤلف لتقديم نصوص عشر حكايات جمعها بين أصقاع قبيلة إبقوين بالريف المغربي. وقد حرص على إدراج النص الأصلي الأمازيغي مكتوبا بالحرف العربي، إلى جانب الترجمة العربية للمضامين، مما ساهم في تقديم نصوص سلسة، بلغة انسيابية أضفت قيمة إبداعية ومعرفية أكيدة على العمل وعلى طريقة التجميع والتصنيف والترجمة والاستثمار.
يساهم العمل الجديد للأستاذ مجوقي في توفير الكثير من العناصر الضرورية لمقاربة قضايا الذاكرة الجماعية وتمثلاتها العميقة، عبر مدخل السرد الشفيف والوصف الأخاذ، مما يساهم في فتح مغارات القراءات المتجددة لنظيمة القيم المؤطرة لسلوك الفرد والجماعة، داخل سياق تاريخي يتجاوز حدود الزمن ويلتحم بالمكان بشكل عضوي يجعل من هذه المحكيات عنوانا للانتماء للأرض وللإبداع الحضاري المرتبط بهذه الأرض. يقول المؤلف في هذا السياق: «إن الحكاية الشعبية الأمازيغية ليست مجرد أحدوثة، تسردها الجدات والعجائز للأحفاد والصغار للتسلية… بل هي تنبع من قيم الجماعة وأنماط عيشها ومكونات بيئتها، وكذا تفاعلها مع الكائنات الأخرى. فهي بهذا محاولة لفهم العالم، والتموقع فيه وتفسيره، إذ تعد الحكاية الشعبية نوعا سرديا شفاهيا أنتجته الذاكرة الجمعية البشرية في سلسلة متصلة من التداول، وذلك في سعيها الدؤوب لفهم علاقة الإنسان بمنظومة الكون من حوله، وبالأنظمة الثقافية الحاكمة لمجتمعه. فالأساطير والروايات الموروثة والحكايات الشعبية، ليست سوى نماذج مختلفة لقصص أو روايات مرتبطة بالتقاليد. وهذه النماذج وإن اختلفت من حيث مكوناتها، فإنها تروم الغاية نفسها، وهي تخصيب خيال الناشئة، ومساعدتهم على الاندماج في مجتمعهم من خلال التشبع بعاداته وتقاليده ومعتقداته وقيمه، وما تبثه لهم في ثناياها…» (ص ص. 20-21).
Òيذكرني هذا العمل، بالإصدار الهام الذي أنتجه الأستاذ محمد الأمين المليحي ورأى النور سنة 2013 تحت عنوان «مائة حكاية وحكاية من أصيلا»، الأمر الذي يساهم في تثمين الجهد الوطني المبذول من أجل إنقاذ شتات الذاكرة الجماعية من مهاوي الاندثار والزوال. وتزداد هذه القيمة ترسخا، إذا أخذنا بعين الاعتبار الإمكانات العلمية الهائلة التي تتيحها متون هذه المحكيات الشعبية أمام البحث الأكاديمي من أجل استثمار المضامين وتوظيفها في سياق الرؤى النسقية المنفتحة على الثقافة الشعبية، نصوصا ومخلفات ومحكيات وتمثلات. يتعلق الأمر، بسجل لبلورة عناصر الإبداع على مستوى إنتاج القيم ومدونة السلوك والأخلاق التي ظلت تنتظم في إطارها حياة الجماعة، بالأمس واليوم.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 25/05/2022