كتابات في تاريخ منطقة الشمال: المركز الثقافي أحمد بوكماخ يحتفي بذاكرة طنجة التاريخية

 

لايزال «كتاب طنجة» مشرعا أمام أسئلة البحث والتنقيب. ولايزال تاريخ مدينة طنجة مجالا أثيرا للتأمل وللتشريح. ولايزال توهج طنجة عنصر جذب وإثارة لقطاعات مؤرخي مغرب الزمن الراهن. لقد كُتب الشيء الكثير عن ماضي مدينة طنجة، وصدرت أعمال متراتبة بلغات متعددة وبخلفيات متباينة وبمنطلقات متضاربة، ومع ذلك، ظل موضوع «كتاب طنجة» مصدر هواية وغواية منقطعة النظير، وهي الغواية التي جمعت بين البحث العلمي التخصصي من جهة، وبين الكتابات النوسطالجية الحالمة من جهة ثانية، وبين الأعمال الوظيفية الكولونيالية الكلاسيكية والمجددة من جهة ثالثة، ثم بين الاستثمارات الفنية والإبداعية والجمالية من جهة رابعة. لم تكن طنجة مجرد نقطة في خريطة الوطن، ولا مجرد انتماء محصور داخل جغرافية البلاد، بقدر ما أنها أضحت مركز إشعاع حضاري واسع، تجاوزت حدوده جغرافية المغرب، لتمتد على الضفاف المتوسطية، بل والعالمية. لذلك، يجد الباحثون صعوبة كبرى في حصر حدود بيبليوغرافية مدينة طنجة، إذ يجدون صعوبة بالغة في مواكبة «الجديد» وفي الانفتاح على كل قضايا هذا «الجديد».
وبالنسبة للمدرسة التاريخية الوطنية المعاصرة، استطاع الرواد تحقيق تراكم هائل، لا شك وأنه يساهم في إعادة مقاربة قضايا المدينة عبر عصورها وأزمنتها الممتدة من فترات ما قبل التاريخ، ومرورا بالمراحل المورية والرومانية والوندالية والبزنطية، ثم العربية الإسلامية، وانتهاءً بمرحلة الاحتلال الاستعماري الذي تكرس منذ نهاية القرن 15م، ثم بتحولات الزمن الراهن الذي جعل من طنجة واحدة من بين أكثر الحواضر المغربية تأثيرا في المسار العام للدولة والمجتمع المغربيين في مختلف المجالات السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فأصبح للمجال رواده، وتحققت له مكتسباته العلمية التي ارتبطت بعطاء مؤرخي القرن 20 ممن نجحوا في إعادة تقليب صفحات «كتاب طنجة» وفق الرؤى العلمية المجددة والمتجاوزة لسقطات الإسطوغرافيا الكولونيالية وكذا لمنغلقات الكتابة التقليدية العربية الإسلامية. ويمكن الاستشهاد في هذا الباب بالأعمال التأسيسية لرواد هذا المجال المسكونين بعشق طنجة وفضاءاتها العجيبة وعوالمها الفاتنة، من أمثال عبد الله كنون، وعبد العزيز التمسماني خلوق، ومحمد الأمين البزاز، وعبد الصمد العشاب،…
في سياق تدفق عطاء هذا النهر الدافق، تندرج مبادرة المركز الثقافي أحمد بوكماخ بإصدار عملين تصنيفيين اثنين سنة 2020، أولهما تحت عنوان «طنجة تحت الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي (1471-1884)»، وثانيهما تحت عنوان «طنجة في العهد العلوي من التحرير إلى الحماية (1684-1912)»، وذلك بإعداد الأساتذة امحمد جبرون ورشيد العفاقي وعبد السلام الجعماطي ومحمد بكور. وعموما، يمكن القول إن الإصدارين يشكلان تراكما هاما لمجال العطاء العلمي الذي ميز حصيلة الاشتغال الأكاديمي على ماضي طنجة لدى قطاعات مؤرخي المغرب الراهن، خاصة وأن الكتابين شملا دراسات وتنقيبات للفيف من الباحثين المغاربة الذين ربطوا مسارهم العلمي بشغف البحث في خبايا الذاكرة التاريخية لمدينة طنجة. ففي الجزء الأول، نجد دراسة لأحمد بوشرب حول الأدوار الموكلة لطنجة خلال الاحتلال البرتغالي، خاصة في علاقتها بجارتها مدينة أصيلا، ثم دراسة لرشيد العفاقي رصد فيها المشهد العام لمسارات الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي خلال مرحلة ما بين سنتي 1471 و1684. واهتم عبد السلام الجعماطي بوضعية مرفأ طنجة المحتلة من موقعه كساحة مواجهة وكمجال موادعة. أما لبنى زبير، فقدمت صورة معاصرة للاحتلال البرتغالي لطنجة من خلال تحليل مضامين «زرابي باسترانا» المؤرخة لاحتلال البرتغال لمدينتي أصيلا وطنجة. وعاد كريم بجيت لطرح قضايا الاحتلال الإنجليزي لطنجة من خلال الأرشيف البريطاني، واهتم وسام هاني بوضعية يهود طنجة في ظل الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي، واشتغل فارس كعوان على المراسلات المتبادلة بين الخضر غيلان وآل النقسيس والأمير الدلائي وبين الحاكم الإنجليزي لطنجة سنة 1663. وفي نبشه الدقيق، اهتم رشيد العفاقي بدراسة تحولات النسيج الحضري والعمراني لمدينة طنجة خلال فترة الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي، وتوقف عبد الله الداودي لدراسة تداعيات الحركات الجهادية على أبواب طنجة بين طموح المقاومة المحلية وقيام الدولة المركزية. وختم محمد الأمين بوحلوفة مضامين الجزء الأول بتقديم دراسة حول انعكاسات احتلال إنجلترا لطنجة على إيالة الجزائر العثمانية في البحر المتوسط والأطلسي. وفي الكتاب الثاني، نجد دراسة لعبد الحفيظ حمان حول مشكل الأمن بطنجة في بداية القرن 20 من خلال الوثائق الديبلوماسية الفرنسية، ودراسة لعبد الله الداودي حول تشكل النسيج الديمغرافي بحاضرة طنجة من خلال حوالة أحباسها. واهتم عمر لمغيبشي بتقديم جوانب من حياة يهود طنجة خلال فترة ما بين سنتي 1684 و1900. وتتبع محمد بكور أدوار باشا طنجة في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، القائد والسفير محمد بن عبد الملك الريفي. وقدم محمد أشن دراسة حول علاقة طنجة بمنطقة الريف في منتصف القرن 19 من خلال دور النخبة المخزنية الريفية بطنجة والمتمثلة في الباشا بوسلهام بن علي أزطوط والقائد محمد بن عبد السلام بن عبد الصادق. وعاد منعم بوعملات للبحث في أدوار دار النيابة بطنجة في تسوية النزاعات وإدارة الأزمات خلال النصف الثاني من القرن 19 من خلال الوثائق الديبلوماسية المغربية والإسبانية. واهتمت خديجة القباقبي اليعقوبي بالبحث في تاريخ المفوضية الأمريكية بطنجة من خلال وثائق مخزنية. واهتم رشيد العفاقي بالتعريف بالأطباء الأوربيين في طنجة بين سنتي 1800 و1912. وفي سياق مختلف، قدمت دراسة كل من سمير أيت أومغار ولوبنى زبير صورة طنجة كما رآها دولاكروا من خلال مجموعة متحف اللوفر. واهتمت خولة سويلم بالسياسة المائية والتدابير الصحية بمدينة طنجة خلال القرن 19، وسعت دراسة سعيد اغزيل للتعريف بالمستعربين المقيمين بطنجة قبل الحماية من خلال نموذج رويث أورساتي ريكاردو وأخيه ريخينالدو. واهتم عبد السلام الجعماطي بالبحث في وضعية مرسى طنجة خلال العصر العلوي الممتد بين 1684 و1912. وعاد عبد الحميد الهادي لتشريح نماذج من النظام التعليمي الإسباني بمدينة طنجة قبل الحماية، وتتبع إدريس بوهليلة هجرة الجزائريين إلى طنجة خلال القرن 19، وبحثت لمياء الشعيري في علاقة النفوذ الأجنبي على طنجة في القرنين 19 و20 بالتغيرات العمرانية بالمدينة. وفي نفس السياق، تتبع محمد العاقل التأثيرات الأجنبية بمدينة طنجة خلال القرن 19 ومطلع القرن 20، واهتم نورالدين أحميان برصد صدى زيارة غيوم الثاني إلى طنجة سنة 1905 في الصحافة الإسبانية. واهتمت نبوية العشاب بالتعريف بمساجد طنجة وأضرحتها من خلال مخطوط «رياض البهجة في أخبار طنجة» لمحمد بن العياشي سكيرج. وختمت جليلة الخليع مضامين الكتاب بدراسة حول وضعية يهود طنجة من خلال بعض الأعمال الإبداعية ومن خلال تطور عطاء الحقل الإعلامي بالمدينة.
وبهذه المواد الغنية والمتنوعة، أمكن تقديم حصيلة محترمة من الدراسات التاريخية المجددة، مما يشكل استمرارا لمعالم البهاء العلمي والثقافي الذي طبع وجه طنجة الحضاري على امتداد العهود الزمنية الطويلة الماضية. وبالنسبة للمركز الثقافي أحمد بوكماخ، فالمؤكد أن التجربة تكتسي صبغة تأسيسية تعكس مستوى خصوبة المشهد الثقافي بمدينة طنجة في علاقته بتزايد الوعي الجماعي بضرورة تطوير حصيلة المنجز البيبليوغرافي الخاص بمدينة طنجة، بالأمس واليوم.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 17/10/2022